بعد أربعين سنة
الخميس 17 سبتمبر 2009
البندقية - إيطاليا
حياة فنية طويلة قضاها «باولو جارديني » بين المتاحف والمعارض وصالات المزادات . صاحب العشرات من أشهر فناني القرن العشرين . اقتنى المئات من اللوحات . باع العديد منها واشترى الكثير . حتى صار اسمه الأشهر عالميًّا في مجاله . كان يعرف أشهر وأغلى اللوحات : مَن رسمها، ومتى، وأين، ولماذا . كثيرًا ما تردد اسمه في حوادث سرقات فنية أو استيلاء على بعض اللوحات من بعض المتاحف، ولكن لم تتم إدانته ولو مرة واحدة . وظل اسمه مرتبطًا بالفنون الراقية، وبخاصة التصوير الزيتي .
منذ عدة سنوات، ومع دخول «جارديني » عامه الستين، قرر أن يقلل من نشاطه الفني . بعد أن أفنى ما مضى من عمره متنقلًا بين المتاحف والمعارض والمدن قرر أن يستقر . قرر أن يعود من حيث بدأ . من بلدته التي علَّمته حب الفن منذ كان طفلًا يلعب في حواريها . عاد «جارديني » للبندقية أو فينسيا . المدينة الساحرة الحالمة العائمة . عاد مرة أخرى مُحمَّلًا بثروة هائلة من اللوحات التي جمعها خلال حياته . عاد لبيت عائلته الصغير المهجور في منطقة «سان زكريا » القريبة من ميدان «سان ماركو » وسط مدينة البندقية . اشترى البيت المجاور ووسَّع بيت العائلة وأعاد ترميمه وتجديده . أنفق على عمليات التطوير بسخاء شديد . من الخارج بدا البيت كبيت تقليدي قديم من بيوت البندقية . أما من الداخل فقسم المساحة الكبيرة بين ثلاثة أجزاء : أما الجزء الأول فهو جزء صغير يعيش فيه وحيدًا حيث لم يتزوج «جارديني » ولم يكن له أولاد . أما الجزء الثاني، فقد أقام فيه مكتبًا ليواصل نشاطه الفني وتجارة اللوحات، وعُرف هذا المكان في البندقية باسم «جاليري جارديني ». وأما الجزء الثالث، وهو الأكبر والأهم بين الثلاثة، فقد أعده كمعرض كبير لأفضل القِطَع الفنية التي امتلكها «جارديني » على مدى سنوات عمله الفني . هذا الجزء هو بمثابة متحف فني خاص . المتحف لا يُفتح إلا بكلمة سر يكتبها «جارديني » على جهاز حاسب رقمي خاص يعمل باللمس . أعد «جارديني » في المتحف أفضل أجهزة الإنذار، إطفاء الحرائق تلقائيًّا، أعلى وسائل التأمين، كاميرات في كل ركن، أجهزة تكييف خاصة، بالإضافة لأحدث الأنظمة الصوتية المتصلة بكل صالات المتحف الخاص . لطالما قضى «جارديني » قسطًا وفيرًا من وقته مستمتعًا بأعذب الألحان الكلاسيكية متأملًا في نفس الوقت لوحاته التي لا تُقدر بثمن . أعد المكان بنفسه ليكون متحفًا عالميًّا بعد وفاته . تلك خلاصة وصيته التي أودعها لدى محاميه الخاص قبل أن يقرر الاستمتاع بما بقي من عمره بين الموسيقى الكلاسيكية واللوحات الزيتية وزجاجات النبيذ الفاخر .
كان «جارديني » غارقًا في النوم . قضى ليلته وحيدًا يشرب النبيذ ويستمع للموسيقى . يبدو أنه أفرط في الشراب هذه المرة . لم تعد سنه تسمح بذلك الآن . رأى فيما يرى النائم أنه في مكان جميل . الجو دافئ وهو مستلقٍ بين اليقظة والنوم . بدا له أنه يستمع لألحان «شوبان » الجميلة . كان يستمع لأحد أحب الألحان إليه . أحس بنشوة عجيبة تغمر جسده كله وهو يستمتع بالموسيقى . بدا له كأنه يراقص فتاة جميلة في قاعة رقص أنيقة كقاعات فيينا . فجأة أحس بهزة عنيفة . اختفت القاعة واختفت الفتاة وظلت الموسيقى وحدها . شعر بهزة أخرى مع صوت يعرفه جيدًا : - سنيور «جارديني ».. استيقظ كفاك نومًا .
بصعوبة فتح عينًا واحدة فوجد شخصًا أمامه . احتاج «جارديني » لبضع دقائق مع بضع هزات عنيفة، بالإضافة لسماع اسمه عشر مرات على الأقل حتى استطاع فتح عينه الأخرى . بعدها احتاج دقيقة إضافية ليتعرف على ذلك الشاب المتطفل الذي أيقظه من ذلك الحلم الجميل . إنه مُساعِدُه الشاب «ماركو فيسينتي ».
- ما الذي حدث؟ لماذا توقظني الآن؟
- كل عام وأنت بخير سنيور «جارديني » ، اليوم عيد ميلادك الخامس والستون .
- لنفرض أنه كذلك، لمَ أيقظتني؟
تعجب «ماركو » وسكت قليلًا ثم التفت حوله وأشار إلى هدية علبة ضخمة احتلت ربع الحجرة ملفوفة بعناية :
- كل عام وأنت بخير سنيور «جارديني » ، اليوم يوافق عيد ميلادك وذكرى تاسع عام أعمل فيه معك .
- ولم تتعلم مني أي شيء في تسعة أعوام .. ما هذه الهدية؟
- أرجوك سنيور «جارديني » ، افتحها بنفسك .
قام «جارديني » متثاقلًا متثائبًا يجر جسده الكبير بصعوبة شديدة . اتجه نحو الهدية الكبيرة وبصعوبة شديدة أزاح الغلاف الملون لتظهر علبة ضخمة لماكينة قهوة كبيرة مما تُستخدم في المقاهي الكبيرة .
- ما هذا؟
- لقد لاحظت أنك تُحب قهوتك الصباحية وليس عندك ماكينة قهوة في البيت ...
قاطعه «جارديني » كأنه لم يكن يسمع ما قال :
- «ماركو » عندما تشتري هدية للمطبخ اشترِها لصديقتك، ليس لديَّ نية لإدارة مقهى عام هنا لأحتاج لكل هذه الماكينة من أجل صُنع فنجان قهوة في الصباح .
- لقد ظننت أن ...
قاطعه للمرة الثانية :
- «ماركو ».. ذَكِّرني منذ متى تعمل معي؟
- تسع سنوات سنيور «جارديني ».
- بعد هذه السنوات، لو فرضنا أن هناك شيئًا واحدًا فقط أريدك أن تتعلمه جيدًا مني، أتعلم ما هو هذا الشيء؟
أخفى «ماركو » ابتسامة وسكت كالعادة كتلميذ نسي كراسته في المنزل وليس لديه ما يُبرر تلك الفعلة الشنعاء .
- ما هو هذا الشيء سنيور «جارديني » ؟
- أن تتعلم فن اختيار الهدية . أنا فنان، جامع لوحات . الهدية لي يجب أن تكون فنًّا . يجب أن تكون شيئًا أحتاجه وأريده : لوحة، تمثالًا نادرًا، قطعة فنية نادرة ... بالقطع أنا لا أهتم بأدوات المطبخ .
تقبل «ماركو » التقريع المعتاد على مضض . «جارديني » بالنسبة له ليس المدير أو صاحب العمل . بل هو «أب » . و «جارديني » كذلك يعامله كابنه منذ أن التقى به للمرة الأولى في البندقية منذ تسع سنوات . يومها كان «ماركو » شابًّا مُعدمًا فقيرًا . تعليمه بسيط . مات أبواه وهو صغير . امتلك أبوه مطعمًا صغيرًا بإحدى جُزر المدينة الصغيرة العائمة . للأسف خسر أبوه كل شيء على موائد القمار ومات وتركه وحيدًا مع أمه . بعدها بسنوات قليلة تُوفيت أمه أيضًا وتركته وحيدًا . لم يستطع أن يلتحق بأي تعليم جامعي، عمل في مطعم صغير، بعدها جاءته فرصة كبيرة للعمل في أحد مقاهي البندقية . وهناك وعلى هذا المقهى التقى ب «جارديني » لأول وثاني وعاشر مرة . اعتاد «جارديني » في ذلك الوقت تناول القهوة في ذلك المقهى كلما عاد للبندقية . أُعجب «جارديني » بأدب وهدوء «ماركو » ، وهو الهدوء الذي افتقده «جارديني » في معظم الشباب الإيطالي . أحس «جارديني » أن ذلك الشاب الفقير لديه حسًّا فنيًّا . التقطه من المقهى وبعدها بأسابيع أصبح «ماركو » يرافقه كظله في كل مكان .
«جارديني » جعل من ذلك الشاب الفقير شخصًا آخر . صار الآن يرتدي أحدث الملابس الإيطالية، ويضع أغلى العطور . تعلم الكثير عن الفن والفنانين من «جارديني ». الأهم من ذلك كله أنه لم ينسَ أبدًا فضل «جارديني » عليه، وظل بمثابة الابن البار بأبيه . أدرك «ماركو » أن «جارديني » قد يكون عصبيًّا أحيانًا، ولكنه طيب القلب دائمًا . من السهل أن تحصل على قلبه وعقله بلوحة أو قطعة موسيقية جميلة .
- «ماركو ».. سأذهب للحصول على حمَّام دافئ .. واستعد للعمل .
- بالطبع سنيور «جارديني ».. سأكون في انتظارك .
مشى «جارديني » ببطء نحو الحمَّام، كاد أن يغلق الباب إلا أنه توقف فجأة واستدار وأشار إلى ماكينة القهوة مبتسمًا :
- احمل ذلك الشيء للمطبخ وضعها في مكان مناسب، واصنع لنا فنجانين من القهوة لنجربها .
هذا هو بالضبط «جارديني » الذي يعرفه . عصبي عنيف، يصرخ ويعترض، إلا أنه يعود لهدوئه في لحظات . «ماركو » هو الشخص الوحيد الذي يمتلك مفتاح بيت «جارديني ». كان يشعر دائمًا بالفخر أنه الوحيد الذي يثق فيه «جارديني » هذه الثقة .
أعد «ماركو » القهوة الساخنة وانتظر «جارديني » الذي عاد في كامل أناقته كأنه يستعد لحضور حفل كبير . أبدى «جارديني » إعجابه بالقهوة، وبعد الانتهاء من القهوة دعا «ماركو » لقضاء بعض الوقت في متحفه الخاص . مثل تلك الدعوات لم تكن تتكرر كثيرًا، حيث إن «جارديني » يُفضل قضاء وقته وحيدًا داخل متحفه إلا فيما ندر . اتجه «جارديني » نحو باب حديدي ضخم في جانب الصالة، وبجوار الباب هناك لوحة مفاتيح صغيرة متصلة بالحاسب الرقمي الذي يؤمِّن المكان، كتب عليها «جارديني » كلمة السر وحرص ألا يراه «ماركو ». بعدها أدار مقبض الباب فانفتح ودخلا معًا لمتحف «جارديني » الصغير . تأكد «جارديني » من درجة حرارة الغرفة وأدار الموسيقى الكلاسيكية، وأخذ «ماركو » في جولة داخل المتحف الصغير الذي احتوى على لوحات بمئات الملايين من الدولارات . توجه «جارديني » إلى قسم خاص للوحات «بول جوجان ».
«جوجان » فنان فرنسي شهير . بدأ حياته الفنية كتاجر صغير للوحات ثم اتجه بعدها للرسم . عاش «جوجان » حياة غريبة أشبه بالأساطير، حيث إنه فجأة هجر زوجته وطفلَيْه وقرر ترك باريس وفرنسا، بل أوروبا كلها، والعودة للحياة البدائية متنقلًا بين جزر أمريكا اللاتينية في المحيط الهادي . كانت لوحات «جوجان » هناك تمثل الحياة البرية البسيطة . تأثر «جارديني » كثيرًا ب «جوجان ». ربما لهذا السبب لم يتزوج على الإطلاق . جزر البندقية ببساطتها تمثل ل «جارديني » نفس معاني الحرية التي مثلت جزر المحيط الهادي ل «جوجان ». لذلك فقد كانت لوحات «جوجان » الأصلية وبخاصة تلك التي رسمها في الجزر تعني كنزًا لا يُقدر بثمن ل «جارديني ». ولقد امتلك أربع لوحات أصلية من هذه المجموعة الكبيرة . وظل على استعداد لفعل أي شيء من أجل المزيد منها . وسط هذه اللوحات الجميلة وقعت عينا «ماركو » على إطار فارغ للوحة غير موجودة . إطار جميل كبقية الإطارات إلا أنه ظل خاليًا . لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها «ماركو » ذلك الإطار، لكنه قرر أن يسأل «جارديني » هذه المرة : - ما هذا الإطار الخالي؟
- لوحة .
- أية لوحة؟
- «ماتا موا ».
- أين هذه اللوحة؟
- لم أشترها بعد .. لقد كنت على وشك شرائها مرتين من قبل، ولكن هناك مَن سبقني .
- «ماتا موا » ؟ !
- هي لوحة رائعة ل «جوحان » ، ترجمة اسمها يعني «في الأيام الخوالي » ، رسمها «جوجان » بالزيت عام 1891 ، وهذا الإطار صُنع خصيصًا لها 91سم في 69سم .
- أين هي الآن؟
- في متحف بإسبانيا ولكنها يومًا ما ستكون هنا . لم أُقرر كيف ولكنها حتمًا ستكون لي .
أحس «ماركو » أن «جارديني » يعرف جيدًا ما يقول . «جارديني » يعرف أماكن معظم اللوحات خاصة تلك التي تروقه . كان يعرف في أي متحف أو مع أي جامع لوحات أو في أية صالة مزادات يجد كل لوحة . «جارديني » يستطيع أن يميز ببساطة بين القِطَع الأصلية والمزورة . جانب كبير من ثروته جمعها من عمله كخبير لدى أكبر متاحف العالم لتنقية واعتماد القِطَع الأصلية .
- لو أن تلك اللوحة غير معروضة للبيع، هل تفكر في استعارتها من هذا المتحف؟
فهم «جارديني » إشارة «ماركو » الذي قصد سرقة اللوحة، لكنه سكت قليلًا .
- لقد كبرت على هذه العمليات الآن . سيكون ذلك هو الخيار الأخير .
- طبعًا؛ فالمتحف مؤمَّن ويستحيل دخوله بسهولة ...
قاطعه «جارديني » كالعادة : - «ماركو » ، ذكرني منذ متى تعمل معي؟
- تسع سنوات سنيور «جارديني ».
- بعد هذه السنوات، لو فرضنا أن هناك شيئًا واحدًا فقط أريدك أن تتعلمه جيدًا مني، أتعلم ما هو هذا الشيء؟
أخفى «ماركو » ابتسامة ورد كالتلميذ المطيع :
- ما هو هذا الشيء سنيور «جارديني » ؟
- لا يوجد مكان في هذا العالم كله مؤَمَّنًا وضد الاختراق ..كل مكان وله طريقة !