بعد 6 شهور
الأربعاء 17 مارس 2010
معرض «فن دبي » – مدينة «جميرا »
صعد د . «آدم عبد البديع » السلَّم المؤدي لقاعة العرض الكبرى بمدينة «جميرا » بدبي . حمل مظروفًا أنيقًا فيه دعوة خاصة لحضور معرض «فن دبي ». ذلك المعرض الكبير والذي يُعد من أهم المعارض الفنية في الشرق الأوسط . ما إن قدَّم الدعوة لإحدى الفتيات خلف منصة الاستقبال حتى ابتسمت وطلبت منه الانتظار لدقيقة . كان يعلم أن هذه دعوة خاصة، حصل عليها بصفته أستاذًا للتصوير بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، وأحد أهم الفنانين المصريين الذين سبق لهم المشاركة بأعمالهم الفنية في المعرض من قبل، ولكنه لم يكن يعلم ما يميز هذه الدعوة عن الدعوة العادية . بالنسبة له فقد تكفلت الكلية بقيمة تذكرة السفر، وتكفل المعرض نفسه باستضافته بفندق «مينا السلام » حيث يُقام المعرض، وهو يُعد من أفخم فنادق إمارة دبي . لم يكترث آدم كثيرًا لا بالفندق ولا بفتيات الاستقبال، فقط كان ينتظر الدخول للمعرض والتجول وسط المعروض من اللوحات والقِطَع الفنية .
لم تمر دقيقة حتى عادت فتاة الاستقبال ومعها فتاة أخرى جميلة في العشرينيات من عمرها .
- مستر بديع، «نيكول » ستصحبك في جولة سريعة حول قاعات وأقسام المعرض .
كاد أن يضحك عندما سمع اللكنة الأجنبية التي نطقت بها اسمه .
- لكنني لا أريد أية مساعدة، أُفضِّل أن أكون بمفردي .
- «نيكول » ستُعرف حضرتك سريعًا على الأقسام، كما يمكنها أن تجيب على أية استفسارات خاصة بالمعرض . حضرتك ضيف مهم جدًّا .
شعر آدم بالإحراج؛ فقد كان يريد الدخول للمعرض ولم يكن مستعدًّا للجدال . قال في قرارة نفسه : لندخل الآن للمعرض وسأجد أي طريقة للتخلص من هذه ال «نيكول ».
د . آدم أستاذ التصوير الزيتي، ونائب رئيس قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة . تلك الكلية العريقة التي أخرجت لمصر وللعالم العديد من الفنانين على مدى عشرات السنوات . أسماء كبيرة خرجت من تلك البقعة الساحرة في ذلك الحي الراقي بالقاهرة، الزمالك . منذ أطلق الفكرة الأمير الفنان يوسف كمال أوائل القرن الماضي مرورًا بمئات الأسماء مثل : راغب عياد، محمود مختار، آدم طاهر، شادي عبد السلام، حسين بيكار ... وغيرهم الكثير والكثير .
د . آدم في أوائل الأربعينيات من عمره . هو فنان ومُدرس للفن، وعلى قدر كبير من الثقافة والوسامة . فهو ذو ملامح أوروبية وَرِثَها عن أمه الإسكتلندية . بدأ حياته الفنية منذ الطفولة على يد والدته . كان والده قد عاش قِسطًا وفيرًا من حياته في أوروبا قبل أن يتزوج من والدته ويعود إلى مصر . حيث وُلِد آدم ونشأ في مرسم والدته . نشأ بين الألوان واللوحات . لعب بالألوان الزيتية قبل أن يتعلم الحبو ! رسم أولى لوحاته قبل أن يتكلم . مما لا ينساه آدم أن أمه أخبرته أنه تأخر في الكلام، لدرجة أنها طافت به على العديد من الأطباء والذين أجمعوا كلهم أنه سليم وسيتكلم قريبًا . نصحوها بأن تتكلم معه كثيرًا، وأن تُسمعه الأغاني، ففعلت حتى بدأ يتكلم . وبالتدريج أدرك الطفل أن لسان أبيه يختلف عن لسان أمه، وأن عليه أن يتعلم لُغتين في هذه السن . أدى ذلك بالإضافة إلى ملامح الطفل الأوروبية المميزة لابتعاد أغلب الأطفال عنه . لم يلعب الكرة ولم يكن متفوقًا في الدراسة . فقط ظل يرسم . رسم حتى أبهر كل مُدرسي الرسم بمدارسه الابتدائية والإعدادية . في المدرسة الثانوية ملأت لوحاته ممرات المدرسة . أقامت له المدرسة المعارض . في إحدى المرات حضر وزير التعليم ذاته أحد هذه المعارض وأثنى على موهبة آدم وتوقع له أن يكون من أبرز فناني مصر في المستقبل .
أخيرًا دخل المعرض . كان اليوم الأول من المعرض مخصصًا للافتتاح ولكبار الزوار . أعطى ذلك لآدم انطباعًا بأن القاعات ستكون خاوية إلا من الفنانين، الا أنه فوجئ بزحام كبير لم يكن يتوقعه . هو لا يحتمل الزحام ولا الضجيج . لقد تركهما خلفه في القاهرة ولم يتخيل أن يلاحقاه حتى في معرض فني كبير . بالنسبة له، فقاعة المعرض الفني كقاعة الأوبرا، يجب ألا يُسمع فيها سوى الهمس .
- هذه قاعة الفن الحديث .. أما القاعة الكبرى فخُصصت لكبار العارضين من أنحاء العالم .
هكذا جاء صوت «نيكول » بإنجليزية ركيكة تُشير إلى أنها أتت من إحدى دول شرق أوروبا . حيث تهرب الفتيات الجميلات من الفقر إلى الدول الأفضل اقتصادًا بحثًا عن وسيلة للوصول لمستوى أعلى . أدرك آدم، منذ نطقت «نيكول » ، أنها لا تفقه شيئًا لا عن المعرض ولا عن الفن عمومًا . وعلى الرغم من جمالها فقد ازدادت رغبة آدم في التخلص منها والاستمتاع بالمعرض وحيدًا . كان يفضل أن يضع سماعتَيْه في أُذنيه ويعيش مع موسيقى «شوبان » أو «بيتهوفن » أو «موزارت ». «وولفجانج أماديوس موزارت » ، الذي يعشق آدم موسيقاه وما إن تذكَّره حتى لاحت له فكرة خبيثة .
- «نيكول » أين أجد أعمال صديقي «وولفجانج أماديوس » ؟
- إممم، هل هو من الفنانين العارضين هنا هذا العام؟
- بالطبع، هو فنان نمساوى عظيم من «سالزبورج ». عرفه العالم كله وهو في الخامسة والثلاثين فقط . أين أعماله؟
- هل تسمح لي بدقائق لأسأل؟
- بالطبع، اسألي وسأنتظرك هنا على أي حال .
ابتسم آدم وهو يراها تُهرول بعيدًا . ها قد حان وقت الاستمتاع بالفن والموسيقى معًا . وبالفعل، فقد بدأ آدم في الاستماع لإحدى سيمفونيات «موزارت » وألقى بنفسه بين أمواج العارضين و «كبار الزوار » حتى لا تعثر «نيكول » عليه مجددًا . سار يتأمل القِطَع الفنية المعروضة ويتابع أسماء الفنانين والمعارض . كلما مر بفنانة بريطانية تذكَّر والدته . في عيني آدم هي فنانة عظيمة ولكنها لم تحظَ بمثل هذه الفرصة أبدًا . لوحاتها تملأ منزل الأسرة بالزمالك . عُرِضَت لوحاتها على الملأ مرة واحدة كنوع من التأبين بعد وفاتها . حيث نظم آدم المعرض في حُب والدته، ولكنها تُوفيت قبل أيام قليلة من الافتتاح ! أقام آدم المعرض لأمه وحضره أساتذة وطلبة الكلية .
سار وحيدًا، لم تفارقه تلك العزلة منذ كان طفلًا . عاش وحيدًا مع والديه . ثم مع والدته المُسنة بعد وفاة والده . وها هو يعيش بين اللوحات والمعارض والموسيقى الكلاسيكية وبعض قِطَع الجاز الكلاسيكية أيضًا . لا يهتم عادةً بما يهتم به الآخرون . لا يفهم في الكرة ولم يلعبها قط . بالنسبة له فالأهلي هو ذلك البنك العتيق، والزمالك هو ذلك الحي الجميل الذي يعيش فيه . لا يعرف شيئًا عن السياسة، وبالكاد يعرف اسم رئيس الجمهورية ووزير الثقافة فقط لمجرد كونه فنانًا تشكيليًّا . لا يهتم بالطعام وقد ينساه بالأيام إذا ما انشغل برسم لوحة جديدة . ومَن يرى نحافته يستطيع أن يصل لهذا الاستنتاج سريعًا . لا يقود السيارات ولا يعرف أنواعها . لم يبقَ له أي اهتمام مما يهم الناس عادةً إلا علاقته الغريبة المُعقدة بالدين وبالنساء .
أما الدِّين، فقد نشأ في بيت فيه دِينان، أبوه كان مُسلمًا متدينًا يحافظ على الصلوات ويصطحب آدم معه إلى المسجد في كل جمعة، وأمه كاثوليكية مُتدينة أيضًا بل وتصطحب آدم معها إلى الكنيسة صباح كل أحد . حتى أنه ظل يشعر بالرهبة نفسها في المسجد والكنيسة . شعر بالغموض والروحانيات نفسها مع صوت المؤذن وأصوات أجراس الكنيسة . تراتيل الشيخ الحصري وعبد الباسط لا تفارق أذنيه كما لا تفارقها ترانيم الكنيسة ليلة عيد الميلاد . آدم أحب وعبد الرب نفسه . يدعو بنفس الدعاء في الكنيسة وفي المسجد . فقط عندما توفي والده، أحس آدم بالرهبة وأن نصفه المسلم قد تركه ورحل . فما كان منه إلا أن ارتاد المساجد بكثرة . أطلق لحية طويلة وبدأ في حضور الدروس الدينية وسط دهشة والدته . لم تشأ أن تمنعه ولكنها توجست خيفة من اتجاهه، حتى انتهت هذه الفترة سريعًا في حياة المراهق آدم . انتهت تلك المرحلة بقصة طريفة . حيث حضر آدم أحد الدروس لشيخ سلفي حول بر الوالدين . يومها ظل الرجل يتحدث عن بر الوالدين وبخاصة الأم لساعتين من الزمن . فصَّل في الأمر وأكثر من التفصيل وعظَّم الأمر في قلوب الحاضرين . يومها اشترى آدم هدية لأمه في طريقه للبيت . اشترى لها شريطًا لموسيقى البيانو من عزف «ريتشارد كلايديرمان ». فرحت أمه كثيرًا للهدية وفرح هو لفرحها . ظل يعتني بها كثيرًا ويلاحقها بالهدايا حتى أن أمه سُرَّت حين علمت أن شيخ المسجد هو مَن حثه على بر أمه . في الأسبوع التالي كان الدرس عن تحريم الموسيقى . وقد كانت الموسيقى جزءًا من حياة آدم وأمه . بعد الدرس المليء بالتهديد والوعيد ذهب آدم للشيخ وسأله :
- يا فضيلة الشيخ، ألم تأمرنا ببر الأم؟ !
- يا بُنيّ لست أنا مَن أَمَر، بل أَمَرنا الله بهذا .
- لقد بررت أمي بما تحب وكما علمتني .
- خيرًا فعلت يا ولدي، جزاك الله خيرًا .
- لقد أهديتها شريطًا للموسيقى التي تحبها .
- أستغفر الله العظيم، لا بأس يا آدم يا ابني، إنك لم تكن تعلم، فلتوضح لأمك خطورة الموسيقى وتُب إلى الله .
يومها خرج آدم محتارًا مترددًا لا يعلم هل ما فعل مُحببًا لله أم خطيئة تستوجب التوبة . أيُخبر أمه أم يأخذ الشريط أم ينسى الأمر برمته؟ ظل على هذه الحيرة لفترة . قرر في النهاية أن يتجاهل الأمر كله كأن لم يكن . لكنه لم يستمع لأي موسيقى طوال ذلك الأسبوع . حتى جاء موعد الدرس الأسبوعي الذي غيَّر حياة آدم ونظرته للدنيا والدين للأبد !
بدأ درس الشيخ السلفي الأسبوعي كالمعتاد بعد صلاة العشاء وصال وجال عن وجوب مخالفة اليهود والنصارى . تكلم عن عدم السلام عليهم وعدم جواز تهنئتهم ولا دخول معابدهم ولا كنائسهم . تكلم وتكلم حتى قامت ثورة شك وغضب وتوهان عظيم في رأس المراهق الصغير . ألم يأمرني ذلك الشيخ ببر والدتي؟ والآن يأمرني بألا أهنئها بعيدها؟ كيف أفعل الاثنين في نفس الوقت؟ ثم لماذا يتكلم هذا الشيخ عن المسيحيين بهذه اللغة العدائية أصلًا؟ ماذا لو عرف ذلك الشيخ أنني أصلًا أذهب مع أمي للكنيسة؟ غالبًا سيتهمني أنا بالكفر والفسوق .
بعد انتهاء الدرس ظل آدم منتظرًا ليسأل الشيخ الذي تجمع الناس حوله بعد الدرس . استمع إلى بعض الأسئلة وهالَه ما سمع من إجابات . شعر بالرهبة من الرجل لأول مرة . هل هذا هو دينه فعلًا أم رأيه الشخصي؟ المهم أنه قرر أن ذلك الرجل مجنون، ومن الأفضل ألا يخبره أصلًا أن أمه مسيحية أو «نصرانية » كما يطلق عليهم الشيخ وهو يقولها باستحقار واستعلاء . قرر آدم وقتها أنه من الأسلم أن يذهب بلا عودة . لم يكن لآدم أعز من أمه وهو لن يحتمل أن يستمع لمجنون يُحقر منها أو من دينها أمامه .
تلك الواقعة مثلت نهاية علاقة آدم بدروس الدين في المسجد . خلال أسبوعين كان قد هذَّب ذقنه وقصَّرها إلى الحد الذي بقيت عليه بعدها . عاد ليستمع للموسيقى . منذ ذلك الحين اقتصرت علاقته بالمسجد على صلوات الجمعة التي حافظ عليها منذ كان طفلًا مع أبيه . كما حافظ على الذهاب مع أمه للكنيسة بانتظام حتى تُوفيت . لم يكن آدم متدينًا . اكتفى ببعض الصلوات على فترات . كان يدعو الله كثيرًا في خشوع في سره . طالما دعا الله ليغفر لوالده ولوالدته . أخذ من الدين الخُلق والدعاء ولم يكترث كثيرًا لكلام الشيوخ حول الحلال والحرام، فقد اعتاد أن يستفتي قلبه .
فجأة قَطَعت استمتاع آدم بالموسيقى واللوحات يدٌ تربت على كتفه، التفت وهو ينزع السماعتَيْن من أذنيه :
- سيد بديع أنا آسفة جدًّا، لقد عُدت لكتيب المعرض وراجعته مرات عديدة ولم أجد أثرًا لأي فنان في المعرض اسمه «وولفجانج أماديوس ».
اللعنة على هذه الفتاة . أليس هناك في المعرض غيري الليلة؟
- لا بأس يا «نيكول » ، لقد استمتعت ببعض أعماله بالفعل . هو غير مشارك بالمعرض هذا العام . شكرًا لكِ . ليلة سعيدة .
ووضع السماعتَيْن في أذنيه مرة أخرى . فربتت على ظهره مرة أخرى :
- هل تسمح لي أن أصطحبك إلى القاعة الكبرى؟
- لا، شكرًا، سأذهب بنفسي . ليلة سعيدة .
- هل تريد أن تسأل عن أي فنان آخر في المعرض؟
صمت للحظة وابتسم بخبث . أحس بالذنب أنه كذب على فتاة بسيطة تؤدي عملها المطلوب منها . فكر في حيلة بسيطة ليخبرها أنه كان يمزح معها فقط .
- أين أعمال صديقي الرسام الكبير «فينسنت فيليم » ؟ هل سمعتِ عنه؟
- لا، دقيقة واحدة سأراجع كتيب المعرض .
- «فينسنت فيليم فان جوخ » ، ألا يُذكركِ هذا الاسم بأي شيء؟
- أعتقد أنني سمعته من قبل، سأسأل وأعود فورًا .
- «فان جوخ » ؟ لا؟
- آسفة مستر «بديع ». سأسأل وأعود فورًا .
- لا، لا شكرًا ، سأجده وحدي، ليلة سعيدة لكِ يا «نيكول ».
أخيرًا تخلص منها . بدت له كفتاة بلهاء . مجرد شكل بلا أي مضمون . علاقة آدم بالنساء كانت معقدة كعلاقته بالدين ! بالنسبة لآدم، فالمرأة الحقيقية هي التي تشبه أمه : جميلة، مثقفة، لبقة، مُحبة، وقبل ذلك كله .. فنانة . لقد كانت أمه أول حب في حياته . نشأ بين يديها . لم يعجب، أو يحب أية فتاة طوال فترات صباه ومراهقته . عاش مع أمه بعد وفاة والده . لم ير مثلها . عندما ماتت تركت فراغًا كبيرًا داخله . فراغًا لم يفهمه ولم يعرف كيف يُعوضه . كان يومها مُدرسًا بكلية الفنون الجميلة . وقتها بدأ يشعر بالنساء حوله . وقتها أدرك أن الكثيرات منهن يرغبن فيه . فجأة أحس كمَن رُد إليه بصره ففهم لماذا ظلت الكثيرات تتوددن إليه . لطالما تعامل مع الجميع من باب الأخوة والزمالة فقط . وقتها بدأ يفهم أنه شاب وسيم أوروبي الملامح يعيش وحده في شقة في الزمالك . فهم أن تلك المواصفات وحدها كفيلة بإيقاع نصف مُدرسات الكلية وثلاثة أرباع الطالبات في حُبه . في البداية اندفع في علاقة عاطفية سريعة مع إحدى الفتيات . دخل في نزوة لم يفهمها لكنه خرج منها سريعًا وقد أدرك أن هذه الفتاة ليس فيها جزء من ألف مما يريد . جميلة كانت هي، كما بدت مثقفة، ولكنها لم تكن فنانة . كانت كمَن يتحدث لغة أخرى .
بعدها عرف آدم الحب الحقيقي مرة واحدة، في الثلاثين من عمره . وقتها فكر آدم لأول مرة وبجدية في الزواج . أخيرًا عثر على فتاة أحلامه . فنانة جميلة، التقاها في معرض فني في الزمالك . خفق قلبه حين رآها . تعرف عليها سريعًا . أحبها من أول نظرة، إلا أنه لم يستطع البوح بما حاك في صدره تجاهها . ولحُسن حظ ولوسامة آدم فقد وقعت هي أيضًا في حبه، وبسرعة . اندفعا بعدها في علاقة طويلة حتى ملأت حياة آدم وقلبه . تسللت بهدوء لأعماقه حتى صارت محور حياته . صار كالخادم المطيع وهو الذي كان بين النساء سيدًا يشير لإحداهن فتأتيه مُهرولة . اندفع في علاقته معها دون حذر . كل تجاربه السابقة أشارت إلى أنه هو نفسه معشوق للنساء، فما باله بمَن عشقها قلبه هو ! قضى معها أجمل سنتين من عمره منذ وفاة والدته . صارت هي وقته وتفكيره حتى قرر أخيرًا أن يتقدم للزواج منها . وبالفعل وكما يفعل الأوروبيون أراد أن يفاجئها في ذكرى بداية علاقتهم الثانية بشراء خاتم الزواج . لم يكن لديه أدنى شك في أنه قد اختار أجمل هدية لأجمل امرأة . دعاها على العشاء في أحد المطاعم الهادئة وحرص على إخفاء الخاتم . وبعد أن جلسا وهنأها وطلبا الطعام . بدا عليها الارتباك وطلبت أن تحدثه في موضوع . وإذا بها تُحطم أحلامه وآماله كلها على خبر هبط على قلبه كصخرة كبيرة وقعت على نملة صغيرة فحطمتها تمامًا في لحظة . فقبيل لحظات من إظهار آدم للخاتم الماسي الذي كلفه نصف ما يملك . فاجأته حبيبته الفنانة أنها تستعد للسفر والزواج من شاب مصري تعرفه عائليًّا منذ طفولتها، هاجر لأوروبا وأصبح مليونيرًا، ولما أراد الارتباط رشحتها له عائلته، فتحدث مع أهلها، ومعها .. فوافقت . لم يستوعب آدم ما كانت تقوله . ما قالته لم يخطر له على بال أبدًا في أسوأ الفروض . وماذا عنه وعن حبهما؟ تلعثم وألجمته الصدمة وسكت تمامًا . لم يستطع أن يرد . ظل الخاتم في جيبه . قاوم بشدة لئلا تسقط منه أية دمعة أمامها . قضى آدم شهورًا في صدمة . المصيبة أنه ظل كالمدمن يفكر فيها ويتذكر أيامه معها . أحيانًا يقول لنفسه إنه قد يظل على علاقة جيدة بها ويهنئها على الزواج من قلبه . وأحيانًا أخرى يراها على هيئة الوحش الذي نهل من عمره ومشاعره وتركه حين وجد فريسة جديدة . لقد فعلت فيه الكثير، وأخطر ما فعلت أنها أول من حطم تمثال ثقته في نفسه . لم يظن أن يأتي عليه اليوم الذي يزحف هو خلف امرأة وتتركه بعد أن اعتادها . لم يذق الطعام لأيام ولم يعرف أحدٌ أبدًا السر وراء ذلك الاكتئاب المفاجئ . شعر بالضبط كالمُدمن الذي بدت عليه أعراض انسحاب المخدر من دمه . اشتاق إليها في ليالٍ كثيرة ولم يكن هناك ما يمكن أن يفعله بعد أن رحلت بالفعل وتزوجت .
قرر آدم وقتها ألا يقع في فخ الحب مرة أخرى . قرر لسنوات طويلة أن يعيش وحيدًا . وبالفعل أغلق قلبه المكسور لسنوات طويلة . كلما خفق قلبه عاد عقله ليُذكره بما قد تئول إليه الأمور فيرتدع ويعود راهبًا في صومعته مُغلقًا كل باب . ومع عودة بصيرته إليه، وبعد سنوات طويلة بدأ تدريجيًّا يلاحظ تقرب النساء منه . كم من فرصة ضاعت عليه ليتقرب من نساء جميلات وجديرات بحبه، لكنه لم يَرَهُن أصلًا . بعد سنوات طويلة وعلى مشارف الأربعين بدأ تدريجيًّا يشعر بالوحدة واشتاق للشعور بالحب مرة أخرى . اشتاق لفنانة من الداخل والخارج مثل أمه . جميلة ومثقفة مثل أمه . تفهم في الفن وتُقدّره وتعمل به أيضًا . وقبل كل ذلك تحبه طوال عمرها مثل أمه رحمها الله . مع مرور السنوات ترسَّخ لديه قناعة تامة أنه من الصعب أن يجد هذه الفتاة في مصر . فقد كان يرى انحدارًا، بل وانهيارًا عامًّا للذوق في مصر لأسباب كثيرة، مما جعله يشعر بأن امرأته ستكون كأمه، أوروبية . من أبرز الأحداث التي أقنعته بتلك الفكرة علاقته بزميلته في الكلية د . سلوى مجاهد . تلك قصة أخرى سيأتي ذكرها لاحقًا .
الخلاصة أن رحلات آدم الفنية لمختلف المعارض حول العالم جعلته يعرف تحديدًا المرأة التي يحتاجها . ظل طويلاً كمَن يعرفها ولا يجدها . كلما سافر بحث عنها . لم يفقد الأمل يومًا . ها هو يستمع لموسيقى حالمة رومانسية بينما عقله يتساءل، هل سيراها الليلة أم سيتأجل اللقاء لزمان ومكان آخرَيْن؟
أخيرًا دخل آدم القاعة الكبرى حيث توجد الأعمال الأكثر أهمية . لم يشعر أن المعرض به جديد هذا العام . أحس بأن معظم العارضين هم أنفسهم مَن عرضوا أعمالهم في المعرض ذاته من العام السابق . حتى أنه كاد أن يجزم أنه رأى بعض القِطَع من قبل . أكمل سَيره وأخرج هاتفه المحمول واختار بعض قِطَع البيانو التي كانت تعشقها أمه ل «ريتشارد كلايدرمان ». تذكر أنه أهدى نفس القطعة لأمه في شريط الكاسيت منذ سنوات طويلة . ثم عاشت أمه لترى أسطوانات الموسيقى الصغيرة . ولكنها لم يَطُل بها العمر لترى ذلك الجهاز الصغير الذي يحمل ساعات وساعات من الموسيقى . نفس هذه الموسيقى كانت تحتاج لمكتبة تحتل جدارًا كاملًا في المنزل ! صار الآن يحمل المكتبة كلها في جيبه . ترحَّم آدم على أمه التي ظلت دائمًا في عقله وكيانه .
كاد آدم ينتهي من القاعة الكبرى وقد ملَّ من ندرة الأعمال المميزة ومن الزحام . قرر أن يتراجع إلى فندقه الفخم على أن يكمل المعرض في اليوم التالي . لعل الزوار العاديين في اليوم التالي يكونون أقل عددًا من كبار الزوار . في اللحظة التي اتخذ فيها قرار الانسحاب استدار فوقعت عيناه على لوحة زيتية كبيرة ألوانها ملفتة للنظر جدًّا، رأى عملًا عظيمًا بحق . بحركة تلقائية وجد نفسه ينسى المعرض كله ويتجه ببطء لهذه اللوحة يتأملها ويتفحصها . اللوحة لميدان واسع فيه برج قديم كتلك الأبراج التي تحمل أجراس الكنائس . البرج يشق السماء الممتلئة بسحب وغيوم أضافت رهبة كبيرة للمشهد . بينما امتلأ الميدان الواسع بالبشر؛ مما أعطى اللوحة حركة وحياة . كانت لوحة زيتية كبيرة ومميزة . وقف آدم لدقائق على بُعد خطوات من اللوحة . وما إن زالت الرهبة من قلبه بدأ يقترب من اللوحة حتى كاد يلامسها . خلع نظارته الطبية وهو يمعن النظر في كل زواياها . تفحصها حتى وصل للتوقيع، ظل قلبه ينبض بسرعة . رأى توقيعًا ولكنه لم يتبين منه الاسم . تراجع للخلف باحثًا عن اسم الفنان أو اللوحة . عادةً ما يكون هناك بطاقة تعريفية صغيرة تحت اللوحة باسمها واسم صاحبها . أدار عينيه حول اللوحة وهو يستمع للموسيقى الرائعة، ثم نظر يمينًا ويسارًا، وتراجع أكثر للخلف لعله يجد أية إشارة أو معلومة عن اللوحة أو صاحبها .
مازالت موسيقى بيانو «كلايدرمان » تعلو في أذنَي آدم . شعر بنشوة حقيقية حين انساب الفن الراقي ليملأ أذنيه وعينيه معًا . تلك هي اللحظات التي يبحث عنها دائمًا . ابتسم آدم بينما ظل يبحث عن البطاقة التعريفية ليتعرف على هذا الفنان الرائع . لحظات ممتعة انتهت سريعًا . فأثناء عودته للوراء وهو يبحث عن اسم الفنان اصطدم آدم بشخص خلفه فوقعت السماعة من أذنه . أحس أنه اصطدم بفتاة . أحس فجأة برائحة عطرها الجميلة تملأ أنفه مما زاد من جمال تلك اللحظة . انتزع السماعة الأخرى من أذنه ليبادر بالاعتذار . وقبل أن يستدير أو يعتذر جاءه صوتٌ ملائكيٌّ جميلٌ بإنجليزية ذات لُكنة غريبة :
- أعتقد أنك تبحث عني !