4

بعد عدة أيام - القاهرة

عاد آدم من دبي بشعور عجيب . يبدو أنه وقع في الفخ مرة أخرى . لقد أُعجب بتلك الفنانة الإيطالية الساحرة . لقد كانت كل ما يحلم به . كان كل شيء مثاليًّا ومنطقيًّا، إلا أنه لا يزال يخاف من فكرة الحب نفسها . هل يكتم مشاعره هذه المرة كما فعل سابقًا وخسر؟ أم يتكلم معها بصراحة ووضوح؟ لقد أحس أنها أيضًا أُعجبت به . لقد تبادلا الحديث وأرقام الهواتف والبريد الإلكتروني . بحث عنها في كل مواقع التواصل . بحث عن أعمالها، وما إن رأى ما صنعته من فن حتى انفتح قلبه على مصراعيه نحوها . ذهب إليها تقريبًا كل يوم من أيام المعرض . حتى أنه دعاها للعشاء في ليلته الأخيرة بدبي ولم ترفض . قضى ليلة شعر فيها بآدميته ورجولته . شعر أن ما يبحث عنه موجود بالفعل . أن ما يريده ليس دربًا من دروب الخيال ولا أسطورة كطائر العنقاء . يومها أدرك أن الإنسانة التي يبحث عنها ليست كشخصيات مجلات الأطفال التي لا وجود لها . حتى وإن لم يظفر بهذه الإيطالية الجميلة فقد أدرك فقط أن الله أرسل له إشارة . ولم ينسَ آدم أبدًا تلك الفنانة الجميلة . ظلت تطارده في أحلامه ورسائل محموله وبريده الإلكتروني حتى انهارت قواه وأسلم نفسه للحب للمرة الثانية .

أمام هذا الكم الهائل من الأفكار التي ازدحمت في رأسه، ولأول مرة أراد آدم أن يتحدث مع صديق . ليس لديه أي صديق مُقرب يُخبره عن تلك الفتاة أو يستشيره . أخذ يفكر ويتذكر كالتاجر الذي يبحث في دفاتره القديمة . عاد للوراء بحثًا عن أي شخص عرفه يومًا من الخبراء في أمور الحب والنساء . وبعد جهد كبير وتفكير طويل وبحثٍ تذكَّر زميل الدراسة القديم عبد القادر مراد . لم يكن آدم يريد أن يستشير أحدًا . كل ما أراده أن يحكي عن حبيبته فقط . لم يكن لديه أصدقاء مقربون . فقط زملاء عمل وبعض المعارف . شعر بالحنين لأصدقاء الجامعة، وكان أقربهم منه وقتها عبد القادر .

عبد القادر ظل معروفًا أيام الكلية أنه زير نساء . كان لديه فهم عميق لما تريده كل البنات . في الوقت الذي كان كل زملاء عبد القادر وآدم يتصببون عَرَقًا حين يلقون تحية الصباح على إحدى جميلات الكلية، كانت الجميلات أنفسهن يتسابقن من أجل كلمة مع عبد القادر . لم يكن عبد القادر وسيمًا كآدم إلا أن شيئًا ما جذب الفتيات نحوه . لم يستطع آدم أن يفهم ذلك الشيء أبدًا . لطالما شعر بالتعجب من قدرة عبد القادر على الوصول سريعًا لقلوب جميلات الكلية . حتى غير الجميلات منهن، كُن يتقربن منه ويعتبرنه أخًا لهن ويسعين سعيًا حثيثًا للتودد إليه . بعد الكلية مباشرةً ظل آدم على علاقة وثيقة بعبد القادر، حيث ظلا يرسمان معًا، ويستمتعان معًا بأمسيات هادئة على أنغام أم كلثوم في أحد مقاهي الزمالك . حتى تزوج عبد القادر . ورويدًا رويدًا انسحب من بين رفاقه . آخر ما عرفه عنه آدم أنه صار موظفًا بوزارة الثقافة ثم انقطعت أخباره .

منذ عدة سنوات عثر آدم عليه في أحد مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنه لم يستطع أن يلتقيه أبدًا . يومها بعث له آدم برسالة عبر الموقع وجاءه الرد بعدها بثوانٍ وفيه رقم هاتف عبد القادر . لم ينتظر آدم بل هاتفَ عبد القادر في لحظتها . ها هو صوته المَرِح على الهاتف . لم يتغير أبدًا . عرف آدم منه أنه الآن مدير لمتحف «محمد محمود خليل وحرمه » بالجيزة . تعجب آدم جدًّا لأنه دائمًا ما يرتاد هذا المتحف الرائع ولم يقابل عبد القادر هناك حتى ولو صدفة . أخبر آدم عبد القادر أنه يحتاج لرأي خبير في الحب والنساء لأنه حتى اللحظة لا يفهم النساء أو طباعهن الغريبة . رحَّب عبد القادر بشدة بعد أن أكد أنه كالعادة جاهز في أي وقت، وأن الزواج زاده خبرة، حتى أنه الآن صار خبيرًا عالميًّا في المسائل العاطفية والنسائية والزواجية أيضًا . يومها وعد آدم عبد القادر بزيارته في اليوم التالي مباشرةً في مكتبه بالمتحف .

في صباح اليوم التالي كان على آدم أن يتجه مبكرًا للكلية . فعليه أن ينتهي من إلقاء محاضرة لطلبته . كما كان عليه أيضًا أن يتجنب بأي شكل لقاء د . سلوى مجاهد !

د . سلوى، هي وكيلة الكلية، على الرغم من أنها أصغر بسنوات قليلة من آدم ! بل إنها أيضًا كانت تساعد العميد مباشرةً، بل وتنوب عنه أحيانًا . أغلب البعثات العلمية والرحلات التي تتكفل بها الكلية تمر عبر مكتبها . دعوات حضور والمشاركة في أكبر المعارض الفنية تخرج من مكتبها . اكتسبت سلوى كل هذه الأهمية لكون والدها عميدًا سابقًا لنفس الكلية . كان أستاذًا للعميد الحالي، وبما إنه ساعده حتى اعتلى المنصب، فقد كان تقريبُ ابنته أبسطَ رد للجميل . آدم رآى في ذلك فسادًا واضحًا . لم يشعر يومًا أن سلوى فنانة أصلًا، فضلًا عن أن تمارس التدريس لطلبة الفنون الجميلة . في البداية تعامل معها في حدود العمل وبلباقة شديدة . حتى انفصلت سلوى عن زوجها . لم يعرف آدم أي شيء عن الموضوع في البداية حتى دعته سلوى مرة لمكتبها وأخبرته بأمر انفصالها . تعجب جدًّا من حديثها معه في ذلك اليوم . إلا أن شكوكه تأكدت، فقد بدأت د . سلوى في إلقاء شِباكها عليه . تجاهل آدم الأمر مرة بعد مرة حتى كادت تُصرح له بإعجابها به في إحدى المرات .

لم تكن سلوى بالجميلة أو الدميمة . هي امرأة عادية بالنسبة لآدم . لم يفكر أبدًا فيها كأنثى أو كفنانة . لقد كانت علاقته بها معقدة . فقد ظل يحتاجها بشدة من أجل أن يسافر ويشارك في المعارض والمؤتمرات الفنية . كما أنها تظل شخصية مهمة جدًّا حتى في حصوله على ترقياته العادية بالكلية . وقتها كان آدم على وشك الحصول على منصب رئيس القسم . على الرغم أن العمل الأكاديمي لم يعنِ شيئًا لآدم، إلا أنه أراد أن يرأس القسم بشدة . بالنسبة لآدم فرئاسة القسم منصبًا فنيًّا لا إداريًّا . أراد آدم من خلال ذلك المنصب تخريج دفعات من الفنانين التشكيليين القادرين على الوصول للعالمية . أراد أن يجعل من القاهرة عاصمة فنية كالبندقية وباريس . ومع اقتراب وصوله لرئاسة القسم أدرك أن عليه أن يمسك العصا من منتصفها . عليه أن يتجاهل سلوى ويبعدها عنه عاطفيًّا، وفي نفس الوقت عليه ألا يصدها بحدة فيتجمد مستقبله الوظيفي كله . من أجل كل ذلك حرص على تجنب رؤيتها أو الثرثرة معها بالكلية . كثيرًا ما تسلل لمكتبه المجاور لمكتبها . إن أمسكت به يومًا، تظاهر بالاستمتاع بالحوار معها والذي قد يكلفه نصف ساعة أو أكثر من وقته . وبالطبع فقد كانت هي الطرف المتحدث طوال هذه المدة، أما هو فيكتفي بالاستماع والتظاهر بالاهتمام .

عزم آدم على الاستعانة بصديقه خبير النساء عبد القادر ليحكي له عن أميرة قلبه الإيطالية . كما أراد أن يسأله النصح في كيفية التخلص من سلوى دون أن يخسر عمله . كعادته كل صباح، سار آدم مشيًا من بيته لمقهى مجاور، حيث اشترى قهوته الصباحية المفضلة . احتسى القهوة بينما ظل يستمتع بالموسيقى الكلاسيكية التي انسابت مباشرة عبر السماعتَيْن إلى أُذنيه مانعةً وصول أبواق السيارات وضوضاء الشارع . فسار وسط الزحام بينما ظل عقله في مكان آخر تمامًا حتى وصل لكليته مبكرًا كالعادة . بعد محاضرة رائعة، خرج آدم من القاعة عازمًا أن يستقلَّ سيارة أجرة إلى المتحف ليقابل صديقه . تسلل سريعًا من القاعة . دخل دورة المياه ووضع السماعتَيْن في أذنيه ونظر إلى الخارج مرتابًا . عليه التأكد من أنه غير مراقب وأن سلوى لن توقفه . تجنب المرور من عند مكتبها . مر من بوابة الكلية وشعر بالارتياح . هنا أخرج السماعتَيْن الصغيرتين من أذنيه ونظر في الشارع ليبحث عن سيارة أجرة . أشار لإحدى السيارات، لكن السائق تجاهله تمامًا . انتظر قليلًا، ها هي سيارة أخرى . لم تقف أيضًا . نظر في ساعته وهو يلعن حظه . رفع عينيه للشارع فإذا بسيارة صغيرة تقف أمامه مباشرةً وفيها د . سلوى .

- آدم، تعالَ أوصلك .

- لا، لست ذاهبًا للبيت، عندي مشوار .

- لا توجد مشكلة، هيا اركب .

- أنا ذاهب للجيزة .

- رائع، تعالَ معي في طريقي .

تعجب من إصرارها . هو يعلم أنها تُقيم بمدينة نصر، فكيف أصبحت الجيزة فجأة في طريقها؟ لم يشأ أن يعارضها . على العموم فقد وجد وسيلة تنقله فورًا للمتحف حيث يلتقي بصديقه ويستشيره في التخلص منها . في الطريق فتحت معه موضوع الترقية . عرف منها أنها رشحته لرئاسة القسم . العميد طلب منها أسماء ثلاثة أساتذة . تقدمت هي بأسماء أقدم ثلاثة أساتذة في القسم . الأقدمية مهمة ولكنها ليست المعيار الوحيد في الاختيار . عندما سألها عن الاسمين الآخرين لم تشأ أن تخبره أولًا إلا أنها عادت وأخبرته في دلال أنها لا تستطيع أن تُخفي عنه أي سر . أخبرته أن الاسمين الآخرين هما د . علا، وهي الأقدم بين الثلاثة، ود . عماد . شعر آدم بالارتياح فهو الأقدم والأكفأ بلا شك . هو أيضاً الأكثر مشاركةً في المعارض والمحافل الدولية والأكثر حصولًا على جوائز عالمية . كما أنه محبوب من زملائه ومن طلبته أكثر بكثير من د . علا، ود . عماد . الكل يعلم كل ذلك . أكدت له سلوى نفس الكلام عندما قالت له في دلال واضح إنها رشحته هو من بين الثلاثة بلا أدنى شك في اختياره لرئاسة القسم بعد خروج الرئيس الحالي للمعاش .

- لقد أضفتك في «فيس بوك » ، ألم ترَ طلب الإضافة؟

- ها؟ غريبة، لا لم أره . عادةً لا أقبل طلبات إلا من أصدقائي المقربين .

- طبعًا، وأنا أيضًا لا أطلب الصداقة إلا من أصدقائي المقربين جدًّا جدًّا .

قالتها وربتت بيدها على آدم في حركة مفاجئة، بينما انكمش هو في الكرسي ولم يرد . لم يعرف ما يقول لها . ليت عبد القادر يخبره كيف يرد عليها . بالطبع فقد رأى طلب الصداقة الذي تقصده، وعرفها رغم أن صورتها تختلف كليًّا عن الواقع . تبًّا لهذه المواقع، لا بد أن سلوى قضت عطلة كاملة بين صالونات التجميل والشعر والجلد . ثم تسوقت لأسبوع كامل قبل أن تعثر على مصور محترف استطاع التقاط 500 صورة لها على الأقل حتى عثر على صورة أو اثنتين قابلتين للنشر . وبالطبع فبرامج إصلاح وتعديل الصور أضافت بعض الرتوش وحذفت بعض الزوائد وهذَّبت الشكل والحجم فخرجت صورتها على «فيس بوك » بهذا الشكل . لقد تمنى أن يرفض طلب الإضافة إلا أنه فضَّل تجاهله . كانا قد وصلا قريبًا من المتحف فطلب منها أن توقف السيارة ففعلت . شكرها وهو يغادر السيارة بسرعة .

- لا تنسَ طلب الإضافة .

- طبعًا طبعًا، بالتأكيد لن أنسى .

- وطبعًا لن أوصيك بأن ترى صوري وتُعلق عليها كما يحلو لك .

- أكيد، ضروري .

- منتظرة تعليقاتك وإعجاباتك .

ابتسم آدم وهو يُهرول مبتعدًا . تمنى وقتها أن يمسح حسابه كله . بالطبع فعليه أن يقبل طلبها، بل وألا يُغضبها بأي شكل من الأشكال في ذلك الوقت الحرج حتى لا يخسر رئاسة القسم الذي طالما حلم به .

على باب المتحف اشترى آدم تذكرة عادية كأي زائر للمتحف . حرص أولًا على الصعود للطابق الأول ليشاهد لوحة «فان جوخ » الرائعة «آنية وزهور » المعروفة أيضًا باسم «زهور الخشخاش » والتي احتلت حجرة خاصة لقيمتها . كما حرص على تأمل بعض لوحات «بول جوجان » ، وبخاصة لوحته الشهيرة «الحياة والموت » والتي احتلت حجرة خاصة هي الأخرى . آدم يعشق ذلك المكان بشدة ويحفظ تمامًا كل ما بالمتحف من لوحات وتماثيل وقِطَع فنية .

بعد هذه الجولة السريعة عاد مرة أخرى للدور الأرضي حيث بحث عن أي شخص يدله على مكاتب الموظفين فلم يجد . ظل يمشي ودخل من مكان لآخر ولم يعثر على شيء . حاول الاتصال بعبد القادر إلا أن هاتفه ظل خارج نطاق الخدمة . قادته قدماه لسلم هابط إلى طابق سفلي . أحس كأنه مُتطفل تسلل لقصر «دراكولا » المهجور وليس زائرًا محترمًا في متحف . أخيرًا وصل آدم للمقر الإداري لأول مرة . لم يعرف أبدًا أن المتحف فيه مكاتب كثيرة لموظفي وزارة الثقافة . سأل عن مكتب المدير فأجابوه أن «المديرة » غير موجودة . تعجب آدم عندما سمع أن للمتحف «مديرة » وأنها غير موجودة . سأل آدم عن عبد القادر بالاسم، فعرف أنه مدير أمن المتحف فقط، وليس المدير العام كما فهم من عبد القادر .

على باب عبد القادر استوقفته سكرتيرة صغيرة السن وجميلة إلى حد ملحوظ . لاحظ آدم أنه على الرغم من جمالها الواضح إلا أنها بسيطة المظهر بوضوح أيضًا . بدا له أنها من أسرة شديدة الفقر، ملابسها تبدو بالية، ترتدي حذاءً قديمًا يكاد يتمزق في قدميها .

- الأستاذ عبد القادر مدير المتحف موجود؟

- حضرتك تقصد مدير أمن المتحف؟

- تقريبًا، الأستاذ عبد القادر مراد .

طلبت منه الانتظار حتى تستأذن له . لاحظ أيضًا أنها غابت بالداخل لعدة دقائق زائدة عن الحد الطبيعي . عادت وسمحت له بالدخول .