لم يرَ آدم عبد القادر منذ ما يقرب من عشرين عامًا . صحيح أنه ظل يتابع صفحته على «فيس بوك » مؤخرًا، ولكن عبد القادر نفسه لم يُغير صورته منذ أن تزوج . عندما رآه أخيرًا بدا له أنه لم يتغير كثيرًا . فقط زاد وزنه وانتشرت بعض الشعيرات البيضاء هنا وهناك . بعد الأحضان والقُبلات والمقدمات التقليدية، وقبل أن يبدأ آدم في استشارة صديقه صاحب الخبرة باغته الأخير بسؤال مفاجئ :
- ما رأيك في سوسو؟
- سوسو؟ مَن تكون سوسو؟
- سُعاد، السكرتيرة ! ألم تلفت نظرك أبدًا؟
- آه، نعم، هي جميلة فعلًا .. ولكن دعنا منها الآن، كم أريد الحديث معك، عندي الكثير من الحكايات والأسئلة .
وبدأ آدم بحكايته مع الفنانة الإيطالية . وأطال الكلام والوصف حتى ظل يحكي أكثر من ساعة . وبعدما سمع عبد القادر كل الحكاية وهو غارقٌ في مقعده الوثير، اعتدل فجأة وقاطع آدم :
حبيبي آدم، اهدأ قليلًا، أما هذا الموضوع فبسيط ولا يحتاج كل هذا الشرح . أنت تحب هذه الفتاة، ببساطة ووضوح وصراحة حاول أن تقابلها مرة أخرى، وكن صريحًا معها . مثل هؤلاء الأجانب لا يفضلون التلميحات . توكل على الله وصارحها الآن مباشرةً . الآن بما أنك غارق في الحب بهذا الشكل .. ما هو الموضوع الآخر؟
- د . سلوى !
- مَن هي د . سلوى هذه؟
- هذه قصة أخرى طويلة .
- لم يعد هناك وقت . يجب أن أغلق المتحف بالشمع الأحمر وأغادر بعد عدة دقائق، لِمَ لا نتقابل معًا لنستمتع بأم كلثوم على نفس المقهى الذي طالما ارتدناه معًا، أتَذْكُره؟
- نعم، ولكن للأسف لم أعد أذهب إلى هناك بعد أن تبدل الحال فأصبحت الكلمة العليا هناك لمباريات الكرة، وبعض الأغانى الشعبية العجيبة التي لا أعرف حتى مَن يغنيها .
- بسيطة، لنتقابل في بيتك، ستكون فرصة عظيمة لي للخروج من البيت الليلة، عندي الآن حجة عظيمة لأفلت من الحكومة في البيت وأخرج لمقابلتك اليوم . وقد أتحجج بك وأخرج طوال الأسبوع .. نورتني يا أبو آدم .. والله زمان !
سلَّم آدم على عبد القادر وكاد يغادر إلا أنه تذكر شيئًا فجأة فعاد مرة أخرى :
- عبد القادر، أنت قلت لي إنك مدير المتحف، بينما قالت لي السكرتيرة ...
- سوسو؟
- نعم، سوسو، قالت لي إنك مدير الأمن، ما علاقتك بالأمن؟
- وما الفارق؟ أنا هنا الكل في الكل . أنا مسئول عن القِطَع الأصلية كلها . أنا أفتح وأغلق المتحف . المديرة تقريبًا لا تأتي، أنا هنا المدير الفعلي .
اتفقا على اللقاء في التاسعة مساءً . وعاد آدم لبيته وهو يفكر فيما قاله له عبد القادر . لقد حل له نصف اللغز الأسهل . أما سلوى فهي النصف المعقد . كعادة آدم ظل يستمع للموسيقى الكلاسيكية في أذنيه أثناء صعوده لسلَّم بيته القديم بالزمالك . فجأة صدمه شخص أخرجه من بين موسيقاه وأفكاره . ذلك جاره العجوز شكري، مالك البناية كلها والذي يقطن أسفل شقة آدم .
- يا أخي ركز، لقد أصبحت رجلًا كبيرًا ولا تزال تجري كالأطفال على السلم . لم أعد أحتمل .
- أنا آسف يا أستاذ شكري .
- آسف آسف، كل ما آخذه منك هو الأسف، متى ترحل وتترك لي هذه الشقة؟ يبدو أنني سأموت وأنت جاثم على صدري هنا .
- وهل ضايقتك يا عمي شكري؟
- أولًا أنا لست عمك، وثانيًا نعم ضايقتني . طوال اليوم تركض صاعدًا أو هابطًا . موسيقى غريبة تسمعها ليلًا، وفي النهاية تدفع لي عشرة جنيهات إيجارًا لبيت مثل ذلك في الزمالك؟
- يا عم شكري أنا ولدت هنا وعِشت عمري كله هنا، وليس لي مكان غيره . ثم إنني لست بالمليونير ولم أرث عن أهلي إلا بعض اللوحات .
تجاهل آدم لعنات شكري وصعد مهرولًا من جديد . على باب بيته وكالعادة تجمعت مجموعة كبيرة من القطط التي كانت تقيم على باب بيته . لطالما اعتنى آدم بهذه القطط ويشتري لها الطعام . ورث آدم حبه للقطط من أمه . لولا أنه دائم السفر لاقتنى من هذه القطط الكثير . ربت آدم على ظهور القطط التي تجمعت حوله في فرح كمن يطلب منه المزيد من الماء والطعام . اندفع داخل بيته بسرعة، وعاد للقطط بما لذ وطاب من طعام وماء . مرة أخرى أحس آدم فجأة بالحنين لأمه، أخرج صورتها من حافظته وأطال النظر . لو كانت معه الآن لاستشارها ولأشارت عليه . ساعتها نام آدم طويلًا .
استيقظ آدم فوجد الشقة غارقةً في الظلام . عقارب الساعة تشير للثامنة والنصف . ارتدى ملابسه بسرعة استعدادًا لاستقبال ضيفه الذي لم يزره منذ عشرين سنة . أثناء الانتظار وكعادة آدم، بحث في أسطواناته عن موسيقى تناسب ما يشعر به . قلَّب معظم الأسطوانات حتى وقعت عيناه على أسطوانة لم يستمع لها منذ فترة طويلة . ظل ينظر لفترة بحثًا عن اسم إحدى المقطوعات ثم وضع الأسطوانة في الجهاز وانسابت موسيقى التانجو الحزينة من عزف آلة الكمان مع البيانو . استرخى آدم على مقعده المفضل في شرفة بيته . تلك الشرفة الجميلة المليئة بالأزهار والنباتات والتي تطل على أحب شارع لقلبه في أحب حي لقلبه في القاهرة : الزمالك . وأغمض عينيه وانتشى بالموسيقى الجميلة الحزينة .
أغمض عينيه وظل يفكر وأحس بالدمع الحار يملأ وجهه، وكلما انتهت القطعة أعادها مرة أخرى . لم يعكر صفو هذه اللحظة الجميلة إلا قرع الباب . مسح آدم عينيه وفتح الباب . ما إن دخل عبد القادر ورأى آدم حتى سكت ونظر حوله : ضوء خافت وموسيقى حالمة .
- هل جئتُ في وقت غير مناسب؟ هل أنت وحدك؟
- وحدي بالتأكيد، كالعادة .
- ما هذه الموسيقى الجميلة . أعتقد أنني سمعت هذه القطعة من قبل . هل هي موسيقى كلاسيكية؟
- لا، هذه موسيقى لأغنية تانجو أرجنتينية قديمة حزينة . لا تتصور لأي مدى أشعر بهذه الموسيقى، بكلمات الأغنية، حتى باسمها .
- وما اسمها؟
- ترجمة الاسم بالعربية هو «بفارق رأس ».
- «بفارق رأس »! ما هذا الاسم العجيب؟ ! وكيف تقول إنه يعبر عما تشعر به؟ !
- «بفارق رأس » هو مصطلح شائع في سباقات الخيول . كما تقول كلمات الأغنية القديمة . عادةً ما يكون هناك فرس سباق أصيل، يعرف الجميع أنه الأفضل بلا شك . فببساطة تراهن عليه بكل ما لديك . ويبدأ السباق، ومنذ اللحظة الأولى فجوادك في المقدمة . وفجأة قبيل خط النهاية يبطئ الجواد متثاقلًا منتشيًا بفوز لم يتحقق بعد . فيباغته الحصان التالي ويكسب السباق بفارق رأس واحدة . عند عودة الجواد بعد السباق يخيل إليك أنه ينظر إليك ويبتسم ساخرًا كأنه يقول : لم يكن يُفترض أن تُراهن عليَّ من البداية . شعور بالحسرة، بالإحباط، بالانكسار . هل جربت ذلك الشعور من قبل؟
- بالطبع كثيرًا، فأنا زملكاوي وأعرف هذا الشعور جيدًا . ماذا عنك؟ كيف ومتى شعرت بأنك خسرت «بفارق رأس » ؟ !
- لم يفارقني هذا الشعور أبدًا، عندما ماتت أمي قبل أسبوع من أول معرض فني لها في حياتها أحسست أنني خَسِرت «بفارق رأس ». عندما منعتني إدارة الكلية من السفر لتمثيل بلدي في مسابقة عالمية قبل السفر بيوم لأن هناك شخصًا آخر لا يستحق ولكن له علاقات مهمة أراد المشاركة بدلًا مني فقد خسرت «بفارق رأس ». عندما قررت أن أتزوج الإنسانة الوحيدة التي خفق لها قلبي، فإذا بها تخبرني أنها ستهاجر وتتزوج من شخص مناسب فقد خسرت «بفارق رأس ».
أوقف آدم الموسيقى وأضاء أنوار البيت . ذهب مع صديقه لإعداد الشاي على أنغام «أنت عمري » لأم كلثوم . بعدها جلسا معًا في الشرفة مرة أخرى وبدأ آدم يحكي لعبد القادر عن مشكلته مع د . سلوى . كيف أنه لا يطيق سماع صوتها ولكن مستقبله الوظيفي ووضعه في الكلية يتوقف على رأيها فيه . هذه المرة لم يطل آدم الشرح عكس المرة السابقة . لم يكن الموضوع شيقًا بالنسبة له .
- ياااه يا آدم، فارق كبير جدًّا بين ما أراه في عينيك الآن وما رأيته وأنت تحكي عن حبيبتك .
- حقًّا ! كيف؟ أنا لم أشعر بأي فارق .
مستحيل، عندما حكيت لي عن تلك الإيطالية الجميلة لمعت عيناك وأدمعتا، وقد فصَّلت وكررت ووصفت . لقد كدت أراها أمامي من وصفك، حتى أنك لم تسكت حتى قاطعتك أنا .
والآن؟
لا أثر لذلك البريق في عينيك، وكأنك أوقفت أغنية أم كلثوم تلك وأدرت إحدى «سيمفونيات » شعبان عبد الرحيم .
الغريب أن رد فعل عبد القادر هذه المرة فاجأ آدم . في المرة الأولى أشار عبد القادر على آدم بأن يحسم الأمر ويتكلم بصراحة من قلبه وهو ما استحسنه آدم وعزم على تنفيذه . هذه المرة أشار عبد القادر على آدم أن يكون مراوغًا وأن يستغل د . سلوى قدر استطاعته . لقد أشار عليه أن يُلاعبها وأن يقوم بدور العاشق المغرم بها، فيحصل على ما يريد ببساطة . لم يوافق ذلك الرأي فطرة آدم التي تميل للصدق والصراحة . أحس أنه لو بالغ في التظاهر بالاهتمام بسلوى فسينكشف بعد أول عشر دقائق . أصر عبد القادر على رأيه ونصح آدم بأن يتقرب من د . سلوى حتى ولو لأسبوع حتى يتأكد من حصوله على منصب رئيس القسم . بعدها فعليه بالانسحاب التدريجي . لم يقتنع آدم تمامًا . ولكنه وعد عبد القادر بأن يحاول .
وقد كان .