«حبيبتي ..
عادةً أنا لا أحب الكتابة ولا أجيدها . لذلك لا تنتظري مني رسائل إلكترونية طويلة . حاولت الاتصال بكِ اليوم ولم أستطع . بالأمس قابلت صديقًا قديمًا وحكيت له عنكِ . نعم، لأول مرة أتحدث عنكِ مع أي شخص . كم استمتعت وأنا أحكي له عنكِ وعن لقائنا الأول في دبي . أرجو أن نلتقي قريبًا . سأنتظر مكالمتكِ في أي وقت .
آدم ».
أرسل آدم الرسالة من مكتبه بمبنى الكلية قبل أن يتذكر بقية نصائح عبد القادر . ولأول مرة منذ مدة طويلة يذهب آدم مباشرةً لمكتب سلوى ولا يحاول التسلل كما يفعل كل مرة . حاول آدم جاهدًا أن يبدو مهتمًّا ولو قليلًا بسلوى . تحامل على نفسه كثيرًا وهو يسألها عن أحوالها وعن أهلها . وعلى مدى يومين متتاليين ظل عبد القادر يشجعه ويدفعه للتقرب منها أكثر فأكثر حتى وقعت الواقعة وطلبت سلوى منه أن يخرجا للعشاء معًا . تعلل آدم بأنه مرهق ويحتاج للراحة إلا أن سلوى قالت له إن لديها بعض المستجدات التي تريد أن تُطلعه عليها بخصوص الترقية المنتظرة . في البداية سال لعاب آدم ولكنه عاد ورثى لحاله . فطرته تأبى عليه أن يتلاعب بمشاعر زميلته من أجل ترقية أو وظيفة هو أصلًا الأَوْلَى بها من غيره . كرر اعتذاره لها، وبالطبع فقد نهره عبد القادر وقال له إن تكرار رفض دعوتها سيجرحها كأنثى وبالتالي سيغامر بمستقبله . أكد له عبد القادر أن النساء لا يُفرقن بين العمل والحياة الشخصية، وأن مشاعرهن تتحكم في كل شيء . لم يجد آدم مفرًّا من دعوتها على العشاء . العجيب أنه حين ذهب لمكتبها لدعوتها حتى يصالحها وافقت فورًا . لم تكتفِ بالموافقة، بل إنها حددت الموعد والمكان . حددت التاسعة مساءً في مطعم بمركز «سيتي ستارز » بمدينة نصر .
كان الموعد متأخرًا قليلًا بالنسبة لآدم . أما المكان فكان كارثيًّا بكل المقاييس . آدم لم يكن يُحبذ الخروج من الزمالك إلا في أضيق الحدود . هو يشعر بالتوتر الكبير في الأماكن الكبيرة والمزدحمة . كما أنه لا يقود السيارات ويتعب من المشاوير الطويلة . الخروج في رحلة لمدينة نصر، وبالتحديد في سوق تجاري كبير يعد بالنسبة له كابوسًا لم يخطر على باله أبدًا . ولو فرض أنه انتهى من العشاء في العاشرة فلسوف يحتاج لأكثر من ساعة للعودة للزمالك مرة أخرى، ولكن لم يكن هناك بدٌّ، فقبل على مضض . بل توجب عليه أن يظهر بمظهر الشخص السعيد أمام سلوى .
يومها عاد آدم إلى بيته واستخدم الإنترنت ليراجع خريطة القاهرة ويرى كم من الوقت سيحتاج للوصول لذلك المجمع التجاري الكبير . وعاد وتحدث لعبد القادر مرة أخرى وسأله عما يجب أن يلبس . لم يخرج آدم لعشاء مثل ذلك منذ زمن طويل . هل عليه أن يراعي أنه في موعد عشاء ويرتدي أفخر ما لديه من ثياب؟ أم أنه ذاهب لمركز تجاري عادي فيرتدي ملابس أبسط؟ استشار عبد القادر وارتدى ملابس بسيطة واستعد قبل الموعد بفترة كافية . استقل سيارة أجرة شقت طريقها الطويل وسط الزحام . ساعة قضاها آدم فوق كوبري أكتوبر ينظر للوحات الإعلانات العملاقة بانبهار .
- مَن هؤلاء المطربون وما كل هذه الإعلانات؟ !
- يبدو أنها موجه غنائية جديدة . أنا مثلك تمامًا لا أعرف أيًّا من هؤلاء . أنا كنت أعمل سائقًا في شرم الشيخ . هناك يأتي الأجانب من كل أنحاء العالم . أتعرف حضرتك ما هي الموسيقى التي يستمع إليها الجميع باحترام في شرم الشيخ؟
- لا .. الموسيقى الكلاسيكية؟ «ياني » مثلًا؟
- لا، مَن «ياني » هذا؟ أنا أقصد الموسيقى المصرية، هناك موسيقى مصرية يستمع إليها العالم كله الآن .
- رائع، لم أكن أعلم، أتقصد عمر خيرت؟
- لا يا سعادة الباشا، أقصد «أوكا وأورتيجا ».
- مَن؟ !
- يبدو أنك لستَ من مصر .. استمع معي .
ثم ضبط السائق موسيقى السيارة على إحدى أغنيات أوكا وأورتيجا فاتسعت عينا آدم من الانبهار . رفع السائق صوت الأغنية وبدأ يرقص بينما السيارة تكاد تكون شبه متوقفة فوق كوبري أكتوبر . صرخ فيه آدم بأن يوقف الأغنية فورًا . كاد السائق أن يطلب من آدم أن يغادر السيارة فوق الكوبري لولا ستر الله . أحس آدم بالخطر عندما تصور أن يتركه سائق الأجرة فوق الجسر .
- أنا لا أقصد أن توقف الأغنية، فقط قَلِّل مستوى الصوت قليلًا .
- ما رأيك يا سعادة الباشا؟ موسيقى عالمية .
نظر له آدم بابتسامة صفراء باردة متظاهرًا بتأييد وجهة نظره :
- فعلًا، جميل «أوتيكا » هذا .. جميل .
أحس آدم براحة شديدة بعد مغادرة سيارة الأجرة . هل كان ذلك السائق استثناءً؟ هل يستمع كل السائقين لمثل هذه الموسيقى؟ هل هي حالة عامة بين السائقين؟ هل يمكن أن تكون هذه هي الموسيقى التي يستمع لها الشعب كله؟ كم انحدر ذوق المصريين منذ أن كانت الأوركسترا تعزف على الأرصفة في مقاهي وسط البلد في الأربعينيات . نظر آدم للمبنى الضخم أمامه وراوده شعور أنه في التسعين من عمره ويعيش في بلد غريب . لا يعقل أنه نشأ في نفس هذا البلد، بل ونفس تلك المدينة . ما الذي حدث إذًا؟ هل تغير هو أم تغيروا هم؟ ومتى حدث ذلك بالضبط؟ وأين كان هو؟
استوقفه موظف الأمن وهو يقوم بالتفتيش الروتيني . لقد وصل مبكرًا مما قلل شعوره بالتوتر . سأل عن المطعم ولم يُجبه أحد . نصحه أحدهم بالذهاب لمكتب الاستعلامات . عاد ليسأل عن مكتب الاستعلامات . أخيرًا وبعد عناء وحوالي نصف ساعة من البحث وصل إلى المطعم في تمام التاسعة . اتخذ مكانه في المنضدة المخصصة له وانتظر سلوى . بدأ شعوره بالتوتر يعاوده مرة أخرى كسائح صومالي ضل طريقه في أسواق الصين . سلوى تعيش في مدينة نصر، ولهذا فقد اعتقد أنها ستكون في انتظاره . اتصل بها واعتذرت بحجة أن الزحام شديد .
- إن شاء الله عشر دقائق فقط وأكون معك، أنا عند مدخل السوق التجاري .
بعدها بنصف ساعة اتصل مرة أخرى .
- أنا هنا في موقف السيارات، أحاول العثور على أي مكان لإيقاف السيارة، إن شاء الله خمس دقائق وأكون معك .
وبالفعل، فقد وصلت بعدها بحوالي عشرين دقيقة كاملة . كانت عقارب الساعة قد تعدت العاشرة مساءً . في مثل ذلك الوقت يُفترض أن يكون آدم على استعداد للنوم . بالطبع فقد استغل الساعة الكاملة التي قضاها وحده في دراسة قائمة الطعام دراسة وافية حتى صار يعرف كل الأصناف بأسعارها ومكوناتها . وبعد أن طلبا الطعام بدأت سلوى في الحديث . تحدثت عن المرور والزحام . أخبرها عن السائق الغريب الذي أتى به لمدينة نصر . وعن الموسيقى العجيبة التي سمعها طوال الطريق . وكيف أن السائق سبَّه بعد أن دفع له الأجرة المحددة في العداد .
- لقد سبني بعد أن نزلت بأبشع الألفاظ، سائق غريب .
- لا أحد يدفع الأجرة تبعًا للعداد في القاهرة، ماذا قال لك؟
- آسف، لن أستطيع أن أُكرر العبارة؛ فهي شديدة البذاءة . والله أكاد أبكي حين أتذكر أنه سبني بها .
- ما هذه العبارة؟ أرجوك .
- لقد قال لي : «مولد وصاحبه غائب ». تخيلي لأي حد وصلت بذاءة البعض؟
- أكمل، لأي حد؟ ماذا قال بعدها؟
- مشى بالسيارة، قالها وجرى قبل حتى أن أرد .
- أتعني أن هذه العبارة التي قالها لك هي نفسها السبة البذيئة؟
- للأسف !
- أعتقد أنه يمزح معك، بالنسبة لسائقي سيارات الأجرة فذلك نوع من الغَزَل العفيف !
تعجب آدم وسكت . أرادت سلوى تغيير الموضوع فباركت له قُرب صدور قرار الترقية . أخبرته أنه بعد يوم أو اثنين سيصدر قرار رئيس الجامعة بتعيينه رئيسًا لقسم التصوير بالكلية . أكدت له أن الكل يعرف أن د . علا مريضة وغير مهتمة بالمنصب، وأن د . عماد صغير السن ولا يمكن وصفه بالفنان أصلًا، علاقة د . عماد بالفن أكاديمية بحتة فضلًا عن أنه مكروه بين طلبته بعكس آدم . شعر آدم بالامتنان من حديث سلوى وطمأنته أن الأوراق جاهزة ويتبقى فقط إمضاء رئيس الجامعة . لأول مرة يشعر آدم بأن الرحلة إلى مدينة نصر جاءت بفائدة .
- هل سمعتِ عن مطرب اسمه أوتيكا أو أورتيكا أوشيئاً من هذا القبيل؟
- هذا ليس اسم مطرب .
- ذلك ما قلته والله .
- أقصد أن هذين مطربان اثنان وليس واحدًا فقط .
- إحم، اثنان، يمكن، لا أعلم، المشكلة أنني لم أفهم أي كلمة من كلمات الأغنية .
بعد العشاء، استعد آدم لرحلة العودة . اقترحت عليه سلوى أن تأخذه بسيارتها خارج المركز التجاري وهناك سيجد العديد من سيارات الأجرة . قبل منها ذلك . وبعد أن تركها استقل إحدى سيارات الأجرة . السائق هذه المرة كان شابًّا مختلفًا، ظل في حوارات مع أفراد عائلته عبر هاتفه المحمول . بدا لآدم أنه يحاول الصلح بين عدة أطراف دون فائدة . ظل تركيز السائق مُنصبًّا على الهاتف . بالطبع فقد كان ذلك أفضل لآدم من سماع المزيد من الأغنيات الشعبية التي لا يفهمها . تثاءب آدم وأغلق عينيه ونام . أيقظه السائق في الزمالك قرب بيته . مشى قليلًا حتى البيت . كانت الساعة تقترب من منتصف الليل . فجأة شق سكون الليل صوت مكالمة هاتفية من عبد القادر . سأله عن الليلة والعشاء وأخبار الترقية . أجابه عن كل ما سأل على مضض .
- عبد القادر، هل سمعت من قبل عن مطربَيْن اسمهما أوكا وأورتيجا؟ !
- إنهما ليسا مطربَيْن .
- ذلك ما قلته أيضًا، سلوى تعرفهما جيدًا، أنا أيضًا قلت إنك رجل فنان ومدير متحف قد الدنيا .
- أقصد أنهما أشهر مُطربي الأغنيات الشعبية في مصر الآن .
- عبد القادر، تصبح على خير !
- هل أعجبَتك أغنياتهما؟ عندما ألتقي بك فسأهديك بعض الأغنيات .
- عبد القادر، أغلق الخط قبل أن أسبَّك !
- اهدأ يا أبو آدم، لن أغلق الخط، سبني كما تشاء .
- مولد وصاحبه غائب !
- وانت من أهله .
نام آدم ليلتها بالبدلة . عندما استيقظ وجد رسالة نصية على هاتفه من حبيبته الإيطالية ردًّا رقيقًا على بريده الإلكتروني .
«أنا أيضًا تكلمت مع صديقتي عنك وأريد بالفعل أن ألقاك مجددًا . سأحادثك الليلة ».
ابتسم آدم وهو يقرأ، وشعر بقلبه يرقص من الفرحة . رد على رسالتها الرقيقة . منذ زمن بعيد لم يشعر بمثل هذه المشاعر . عزم على أنه بعد أن ينتهي من الحصول على منصب رئيس القسم سوف يخصص أوقاتًا أكثر للحديث معها كما نصحه عبد القادر . أيضًا فقد قرر أن يصارحها بما يشعر به ويحاول أن يلتقي بها في أقرب فرصة . ربما احتاج سلوى مرة أخرى لتساعده على السفر لأي معرض فني . استعد يومها للعمل ومشى من بيته للكلية كالعادة . انتهى سريعًا من إحدى المحاضرات . توجب عليه بعدها أن يساعد بعض الطلبة في العمل على استكمال لوحاتهم الزيتية .
عاد بعدها متأخرًا لمكتبه . مر بمكتب سلوى ولم تكن هناك . مر سريعًا بمكتبه . كان لا يزال مجهدًا من سهرة الليلة الماضية . عزم على العودة لبيته ثم النوم لبضع ساعات . عند خروجه من مكتبه سمع صوت سلوى . اتجه نحو مكتبها وسمع صوتها وهي تتحدث عبر الهاتف .
- ألف ألف مبروك يا دكتور . يجب أن تعزمنا جميعًا على العشاء . لقد أردت أن أكون أول مَن يبشرك بالبشرى السعيدة .
انقبض قلب آدم . مَن هذا الذي تُهنئه؟ هل هو رئيس لقسم آخر؟ انتظر حتى هدأ صوتها وطرق الباب ودخل الحجرة . ما إن رأته سلوى حتى شحب وجهها وأطرقت نظرها للأرض .
- د . آدم أنا آسفة . والله لقد فعلت كل ما أستطيع .
- ماذا حدث؟
- لقد صدر قرار بتعيين د . عماد رئيسًا للقسم .
- كيف؟ ولماذا؟ مَن الذي اختاره؟
- لا أحد يعلم، ولكن العميد قال لي إن دكتور عماد له صلات قوية بجهات عليا، وإن الموافقات الأمنية هي التي تحدد مَن يفوز بالمناصب . لقد كانت توصيتي وتوصية العميد لك أنت، ولكن هناك مَن تدخل وغيَّر القرار . أنا آسفة جدًّا .
لم يستطع آدم الرد . لقد كانت لطمة قوية لكل خططه . لطمة قوية لمستقبله . خرج من مكتب سلوى يمشي بانكسار واضح . لقد أخطأ مجددًا . لم يكن من المفترض أن يضع آماله في يد غيره . لم يكن من المفترض أن يسعى وراء أي منصب . لم يكن بحاجة للتودد إلى سلوى أو سماع نصائح عبد القادر السخيفة . ها هو يشعر بنفس الشعور مرة أخرى . أظلمت الدنيا في عينَي آدم وشعر بمرارة شديدة في حَلْقِه . دارت به الدنيا فلم يدرِ بمَ أجاب سلوى أو كيف قادته قدماه لبيته . ها قد خسر مجددًا وأيضًا «بفارق رأس ».