مرت خمسة شهور حتى الآن على سلوى . بعد أن اعتقدت أن آدم بدأ يشعر بها ويقترب منها أخيرًا، صدمته بخبر ضياع رئاسة القسم منه للأبد . آدم فنان رقيق؛ ولهذا فعندما يُصدم يكون ردُّ فعله كبيرًا وغير متوقع . لامها كثيرًا، أقسمت له إنها ساندته وحاولت كثيرًا ولكن الموضوع أحيانًا يخرج عن السيطرة . لا تعرف سلوى هل فعلًا صدَّقها آدم أم لا؟ هل أحبها أم لا؟ هل أُعجب بها فعلًا أم لا؟ هي فقط تعرف أنها غالبًا فقدته للأبد .
حاولت كثيرًا أن تُصالحه . عرضت عليه أن تُعوضه بالمشاركة في المزيد من المعارض والمسابقات الدولية . رفض كل عروضها وعاد لبروده القديم معها . لو أنه أُعجب بها حقًّا لصَدَّقها . حاولت معه قليلًا بما تبقى لها من كرامة الأنثى . ثم رضيت بمكانتها القديمة لديه، مجرد زميلة في العمل . أما هو، فقد اكتأب بكل ما تحمله الكلمة من معنى .
تقدم بطلب إجازة مفتوحة من العمل بالكلية لعدة شهور . من عجائب الأقدار أن رئيس القسم الجديد هو الذي وقَّع على الموافقة . اكتأب آدم أكثر عندما علم أن عماد هو الذي يتعين عليه أن يوافق أو يرفض طلب الإجازة . عزم على عدم الذهاب للكلية بغض النظر عن موافقة أو رفض عماد . أظلمت الدنيا في عينيه . صار يرى الجميع كالحمقى : عماد وسلوى وحتى صديقه عبد القادر . لفترة طويلة تجاوزت الشهرين أغلق هاتفه المحمول . سافر بعيدًا إلى أسوان وهو يعلم أن أحدًا لا يذهب إلى هناك صيفًا . كان سابقًا عندما يحزن يأكل كثيرًا، ويبحث عن شخص قريب للحديث معه . هذه المرة الموضوع تعدى الحزن إلى الاكتئاب . لم يعد يفكر في الطعام، هجره لأيام . فَقَد وزنه وهو النحيف أصلًا، وضعفت صحته فزاد وَهَنًا على وَهَن . لم يرسم ولم يتكلم مع أحد . فقط سافر ونام كثيرًا . نام كثيرًا جدًّا . لم يدرِ كم مر من الوقت : أسبوع أم شهر . عاد إلى القاهرة وقد نَمَت لِحْيَته بشكل مزعج . وهو من كان من قبل حريصًا على تهذيبها طوال الوقت . خلال شهر كامل نسي نفسه، أهمل حتى في علاقته ومراسلاته مع حبيبته الإيطالية . شعرت هي بما يُعانيه وحاولت كثيرًا أن تُخرجه من عُزلته، ولكن الأمر لم يكن سهلًا . باختصار، اختفى آدم من الحياة تقريبًا .
بعد مرور شهر آخر بدأ آدم يعود تدريجيًّا للكلية ولحياته العادية . حتى أنه زار عبد القادر أكثر من مرة . عاد آدم لمراسلة حبيبته أيضًا . عاد للتدريس وبدا أن حالته بدأت في التحسن . وكذلك عاد لسيرته الأولى في التهرب من سلوى . ولم تعد هي تحاول معه مرة أخرى . بل إنهما صارا كالغرباء لم يتكلما معًا لفترة طويلة . أدركت سلوى مع الوقت أن آدم لن يكون لها أبدًا . ولم يكن لها أن تطارده من البداية . منذ خمسة عشر عامًا كانت شابة يافعة ناضرة إن أعجبها أحدهم اكتفت بنظرة إليه وهي تعلم أنه سوف يطاردها . لم تعد تلك الأساليب مجديةً إذًا . المرأة لا تشعر بأنها كبرت لعدد سنوات عمرها أو لضعفٍ يصيب صحتها، المرأة تشعر بالشيخوخة فقط عندما تعجز عن الحصول على الرجل الذي تريده، ولو كانت في العشرين من عمرها .
حتى كان ذلك اليوم الذي تلقت فيه سلوى مكالمة من «داريا لوتشي ». «داريا » تعمل منذ فترة للإعداد ل «بينالي » 2011. منذ شهرين تقريبًا طلبت «داريا » مساعدة الكلية في انتداب أحد الأساتذة من ذوي الخبرة والدراية الكاملة بالفن التشكيلي بصفة عامة للعمل في ال «بينالي » لمدة عام . كانت تريد شخصًا خبيرًا بمدارس فنون التصوير وعلى اطلاعٍ واسع بالمشهد المعاصر الخاص بفناني الشرق الأوسط . كان على سلوى بحكم موقعها أن تُرشح أستاذًا أو أكثر للاختيار . اليوم تلقت سلوى مكالمة طويلة طلبت فيها «داريا » أن تقابل المرشح أو المرشحين في نفس الأسبوع وعلى وجه السرعة .
شعرت سلوى بحيرة شديدة . المواصفات المطلوبة لا تنطبق إلا على آدم فقط . هو الوحيد الذي يجمع بين العلم والفن . يعرف كل الفنانين التشكيليين عالميًّا وعربيًّا . ثم إنه هو أيضًا الوحيد الذي ليس له عائلة في مصر، بمعنى أنه يستطيع أن يحزم حقائبه ويسافر في اليوم التالي مباشرة . مما زادها حيرةً وخوفًا أيضًا . أولًا فهي لا تريد أن تُفاتحه في موضوع آخر . ما زالت تشعر بجرح لكرامتها الأنثوية فلا تريد أن تبحث هي عنه لتقدم له عرضًا جديدًا . وماذا لو فشل الموضوع؟ هل سيُلقي باللوم عليها مرة أخرى؟ وثانيًا السؤال الأهم : ماذا لو تم اختياره بالفعل وسافر؟ هل سيعود؟ هل ما زالت متعلقة به؟
تمنت أن تُخرج نفسها من الموضوع كله . فقط إلحاح «داريا » أن تقابل المرشح خلال نفس الأسبوع وسريعًا هو ما ضغط عليها . لقد وعدتها من قبل بترشيح بعض الأساتذة، ولن تستطيع أن تتراجع الآن و «داريا » في الطريق . باتت ليلتها تفكر في الموضوع . بعد الفجر راودتها فكرة جيدة، تستطيع أن تترك الأمر للدكتور عماد بصفته رئيسًا للقسم، وتبقى هي بعيدًا . كان حلًّا بسيطًا ولكن ماذا سيكون رد فعل آدم عندما يستدعيه عماد؟ بل ماذا سيحدث لو رشح عماد شخصًا آخر وأهمل آدم تمامًا . آدم يعرف بالطبع أن هذه البعثات والترشيحات تخرج من مكتبها هي . ثم إن «داريا » صديقة شخصية لها وهي وعدتها أن تكون معها حتى يقع الاختيار على الشخص المناسب .
لم يكن هناك مفر إذًا . ستُرشح آدم ومعه أُستاذين آخرَيْن و «داريا » تختار مَن تريد . انتظرت حتى وصلت لمكتبها وبدأت تفكر فيمَن يصلح من الأساتذة . بعد جهد شديد استطاعت الوصول لاسمين . لم يكونا بأي حال من الأحوال كآدم، ولكن ما باليد حيلة . كانت تعلم يقينًا أن هذه الفرصة ستذهب لآدم . ولذلك فلم تخبر بها العميد ورؤساء الأقسام . أرادت سلوى أن تقابل «داريا » المرشحين بشكل ودي حتى تختار منهم مَن تريد . بعدها سيكون على مَن تم اختياره أن يسوي أموره مع إدارة الكلية بطلب إجازة . بعد نصف ساعة فقط قابلت سلوى المرشحين الآخرين دكتور علي ودكتورة هناء . أَبْدَيَا موافقة مبدئية على المقابلة وشَكَرَا سلوى على الترشيح . دكتورة هناء أبدت تحفظًا شديدًا على فكرة السفر وحيدة إلى إيطاليا بعيدًا عن زوجها وأولادها، واقترحت إن تم اختيارها أن تعمل من القاهرة وتسافر على فترات . بالطبع لم يكن لسلوى أن تقبل أو ترفض وتركت الأمر كله ل «داريا ».
بقي آدم . لم تتحدث معه منذ شهرين تقريبًا . ألهذا جاءت اليوم للكلية في قمة أناقتها؟ تركت مكتبها وذهبت لدورة المياه لتعدل من هندامها وتضبط وجهها ببعض مساحيق التجميل . بعدها أضافت بعض قطرات من عِطرها المفضل . مرت سلوى بمكتب آدم ولكنه كان مغلقًا كالعادة . عادت لمكتبها واتصلت بهاتفه المحمول . جاءها صوته متعجبًا ومستفهمًا . عرفت أنه ليس في الكلية . طلبت أن تقابله لأمرٍ هام . أخبرها بأنه سيأتي لمكتبها في الكلية .
ساعة كاملة مرت عليها كشهر . حتى جاء فخفق قلبها بشدة . تلعثمت ولم تعرف كيف تبدأ حتى سألها هو . حاولت جاهدة أن تزيح مشاعرها جانبًا وأن تتعامل بشكل رسمي :
- دكتور آدم، «داريا لوتشي » صديقتي القديمة من «بينالي » البندقية عندها فرصة عمل لفنان وأستاذ على دراية كافية بمدارس الفن التشكيلي والفنانين العالميين والمعاصرين . وأعتقد أنك أنسب شخص لذلك المنصب .
- أي منصب؟ ما هي الوظيفة؟
- تعمل ب «بينالي » البندقية لمدة عام .
- ومَن قال إنني الأنسب؟ أعتقد أن هناك جهات أخرى تعرف الأنسب .
- هذه المرة ...
- لا توجد هذه المرة . أرجوكِ تكلمي مع دكتور عماد أو مَن اختاروه لرئاسة القسم، بالطبع هم أدرى .
- هذه المرة الموضوع غير رسمي، وأنا الذي أُرشح و «داريا » التي ستختار .
- وهل ترشيحك نهائي؟ هل أبلغتِ «داريا » باسمي .
- الحقيقة أنني رشحتك أنت ودكتور علي ودكتورة هناء، وسوف تقوم «داريا »…
هنا وقف آدم واستعد للرحيل .
- إذن أبلغيهم سلامي وتمنياتي لهم بالتوقيق .
- دكتور آدم أرجوك، كنت فقط مضطرة لإرسال عدة أسماء، ولكنني متأكدة ...
- كلنا كنا متأكدين من قبل . لا يوجد شيء مؤكد . ما المطلوب مني بالضبط؟
- «داريا » ستأتي إلى القاهرة غدًا ومعها لجنة صغيرة للقاء المرشحين والاختيار . أرجو فقط أن تقابلها .
- اسمي وأعمالي وتاريخي معروفة للجميع . لست مستعدًّا بعد كل ذلك أن أذهب لمقابلة عمل كأي خريج جديد، شكرًا لاهتمامك .
قالها وخرج قبل أن ينتظر ردًّا . لم يعد هناك مفر . سترسل الاسمين الباقيَيْن، فإن اختارت «داريا » أحدهما كان بها . وإن لم يكن، ساعتها ستفتح الموضوع مرة أخرى مع آدم العنيد !