الثلاثاء 17 أغسطس 2010
فندق ماريوت بالزمالك – القاهرة
في الشرفة الواسعة المطلة على النيل جلس «باولو جارديني » مع مساعده «ماركو » و «داريا » ود . سلوى . كان الفريق الإيطالي قد وصل فجرًا ونام الجميع بضع ساعات قليلة قبل أن توقظ «داريا » الجميع للقاء د . سلوى . اجتمعوا على مائدة الإفطار وظهر التذمر واضحًا على وجه «جارديني » وهو يتذوق القهوة . بسرعة نادى على النادل وسأله عن هذه القهوة العجيبة، فعرف منه أنها قهوة سريعة التحضير . احتقن وجهه وكأنما شعر بالإهانة . قام «ماركو » بسرعة وشرح للنادل أن «جارديني » يريد «إسبرسو » من القهوة الإيطالية بأي شكل . انصرف النادل وهو يحاول أن يفهم ما قاله له ذلك الإيطالي بلغة إنجليزية ولُكنة إيطالية مميزة . الوحيدة التي لم تكن تأكل هي د . سلوى . كانت صائمة؛ حيث إن ذلك اليوم كان يوافق السابع من شهر رمضان .
دقائق وحضرت د . هناء حسب الموعد المُتفق عليه . بدت كشابة رقيقة وكما أخبرت سلوى الجميع فهي فنانة وأستاذة مميزة أيضًا . منذ اللحظة الأولى التي ظهرت فيها هناء فقد خطفت كل الأنظار . فقد دخلت للشرفة وهي تهرول كمن يبحث عن طفل تائه في حديقة كبيرة ممتلئة بالناس يوم العيد . تنظر في كل اتجاه كأنها جاءت متأخرة لساعات، مع أنها جاءت قبل موعدها بدقائق . كانت تحمل حقيبة يد كبيرة في إحدى يدَيْها وتهرول وهي تبحث بعينيها عن د . سلوى، بينما ظل عقلها مشغولًا بمكالمة هاتفية كانت تجريها أثناء البحث . كادت تسقط أرضًا عندما اصطدمت بإحدى الموائد وهي تشير بيدها ذات الحقيبة لسلوى . هرولت نحوهم وسلمت على الجميع وهي ما زالت تُكمل المكالمة . عندما جلست أسرعت بإنهاء المكالمة والاعتذار للجميع .
- لقد جئتُ خصيصًا من بيتي لأقابلكم، من المفترض أنني في إجازتي السنوية . آسفة جدًّا، لقد كنت مشغولة على ابني الأصغر، فدرجة حرارته عالية ولا بد أن يأخذ مضادًّا حيويًّا، فكنت أصفه للمربية على الهاتف .
هدأتها د . سلوى وعرَّفتها بالفريق وشرحت لها أنهم يبحثون عن فنان مصري معاصر ليعرض بعض أعماله كما يقود العمل مع بعض الفنانين العرب في «بينالي » البندقية الرابع والخمسين عام 2011. شرحت «داريا » لهناء أن ال «بينالي » يُقام كل عامين، وهو من أهم وأعرق المعارض الفنية في العالم . كما شرحت لها أن ال «بينالي » المقبل سيُقام في نوفمبر 2011 ، وأن أمامهم عامًا كاملًا من العمل الشاق والتجهيزات . كادت د . هناء أن ترد إلا أن هاتفها سبقها برنين مزعج . اعتذرت وعادت لمكالمة المُربية مرة أخرى وشرحت لها كيف تُجهز المضاد الحيوي وكيف تعطيه للطفل . كما طلبت منها أن تتأكد من بقائه في فراشه، واختتمت المكالمة ببعض التعليمات الأخرى قبل أن تُعاود الاعتذار للجميع .
- إنه بالطبع شرف لي أن أشارك في مثل هذا ال «بينالي » العظيم . أي فنان لن يترك أبدًا هذه الفرصة .
- د . هناء هل يمكن أن نرى بعض أعمالك؟ هل عندك موقع إلكتروني عليه بعض الأعمال؟
اندفعت د . هناء بحماس نحو «داريا » وهي تعرض لها بعض الصور على هاتفها المحمول وتشرح لها أبعاد اللوحات والألوان المستخدمة والدلالات . للمرة الثالثة والرابعة عاد هاتفها ليقاطع الجميع، وظلت هناء ترد ثم تعتذر، ثم ترد ثم تعتذر، حتى ظهر الضيق على وجه «جارديني ». لم يتمكن «جارديني » بعد من إلقاء سؤال واحد على هذه الفنانة المصرية المشغولة .
- د . هناء، هل هناك معرض أو متحف فني فيه قِطَع فنية أصلية هنا لتأخذينا إلى جولة فيه؟
- بالطبع، هناك الكثير من المعارض هنا في منطقة الزمالك، كما أن هناك العديد من اللوحات العظيمة عندنا في الكلية، وفي دار الأوبرا، وفي متحف الفن المعاصر .
ظهر السرور على وجه هناء وسلوى و «داريا » ، بينما ظل وجه «جارديني » خاليًا من أي تعبير كأنما ينتظر كلمة لم يسمعها بعد . كادت هناء أن تُكمل قبل أن يهاجمها هاتفها مرة أخرى، وهنا صرخ «جارديني » بصوت أعلى من رنين الهاتف نفسه :
- هل هناك متحف يضم مقتنيات عالمية أصلية؟
- نعم بالطبع، هناك قِطَع أصلية في متحف الفن المعاصر ومتحف خليل ...
هنا اعتدل «جارديني » كمن لسعته حية فجأة وسألها قبل أن توقف رنين الهاتف وتجيب :
- ما هو متحف خليل؟
اعتذرت هناء وعادت لهاتفها تشرح للمربية كيف تسلق الكوسة وتعد الشوربة وتنظف الشرفات قبل أن تعود هي للمنزل . وكالعادة، وقبل أن تعتذر باغتها «جارديني »: - لا توجد مشكلة، قلتِ «خليل ...» ، ما هذا المتحف؟
- هو متحف لأحد كبار مُقتني اللوحات في مصر في الخمسينيات على ما أظن . وأعرف أن فيه قِطَعًا أصلية كثيرة .
- هل زُرْتِه؟
- مرة واحدة منذ زمن طويل، لماذا تسأل عنه؟
- في الحقيقة لقد سمعت الكثير عن هذا المتحف . إن فيه لوحة ل «جوجان » ، وهو فناني المُفضل .
- أعتقد فعلًا أن هناك لوحة ل «جوجان » على ما يبدو .
- أعتقد أن أي فنان مصري يُقدر الفن ويريد أن يعمل في مكان ك «بينالي » البندقية يجب عليه أن يعرف القِطَع الأصلية الموجودة في محيطه . هل تأخذيننا إلى جولة في هذا المتحف؟
- آه، طبعًا، ولكن للأسف فالولد طريح الفراش، سأحاول أن أزور المتحف معكم غدًا أو بعد غد .
ظهر الضيق على وجه «جارديني » ، يبدو أنه يجب أن يأخذ ميعادًا من هذه المصرية قبل وصوله بشهر . هنا تكهرب الجو وسكت الجميع . قطعت «داريا » السكوت وسألت هناء سريعًا : - إن حصلتِ على هذه المنحة وعملتِ معنا لعام هل ستتركين ابنكِ وزوجك؟
- لقد كنت أنوي أن أسألكِ هذا السؤال، هل أستطيع أن أعمل هنا وأسافر على فترات؟
ساد الصمت مرة أخرى، فعادت «داريا » لإنهاء الحوار كله بالضربة القاضية : - عمومًا عندنا اجتماعات مع بعض الفنانين، ومع نهاية هذا الأسبوع سأقرر مَن الأفضل لهذه المهمة . لقد تشرفت بلقائك .
وكما جاءت هناء مُهرولة فقد غادرت مُهرولة أيضًا . جميع نزلاء الفندق سمعوا مكالمتها مع المُربية ودعوا لابنها بالشفاء . بعد أن غادرت بدا الضيق على وجوه الجميع . وبدأت سلوى في الدفاع عن نفسها : - والله هناء فنانة جميلة ومُطَّلعة لأقصى حد . هي فقط مشغولة ببيتها وأولادها .
- وهل مُرشحكِ التالي مشغول أيضًا؟
- لا، د . علي متفرغ تمامًا للفن والرسم والتدريس . هو على وصول الآن .
انتظر الجميع د . علي الذي لم يظهر لنصف ساعة كاملة . بل إنه حتى لم يتصل بسلوى للاعتذار . بادرت هي بالاتصال به، فإذا هو يُجيبها بأنه على وشك الوصول، وأنه تأخر في المواصلات . ظهر الضيق على وجه سلوى وهي تطلب منه الحضور بأسرع ما يمكن . بعدها بدقائق ظهر د . علي بمظهر غريب وملابس رثة، وشعر أشعث طويل . لم يكن ذلك بالغريب عمومًا على مجتمع الفنانين؛ لذا فقد تجاهلوا شكله ودخلوا إلى قلب الموضوع مباشرةً :
- د . علي، هل لنا أن نرى بعض أعمالك؟
- بالطبع، ممكن في الكلية، أو عندي بالمنزل .
- ألا توجد بعض الصور على هاتفك المحمول مثلًا؟
- لا والله، أنا أستخدم هاتفًا بسيطًا ولا علاقة لي بالتكنولوجيا ...
قاطَعَتهم د . سلوى :
- أنا عندي صور لبعض لوحات د . علي، سأبحث عنها على موقع الكلية .
- نعم، هناك لوحة لي بيعت ب 10 آلاف دولار في إحدى الدول العربية .
قالها بمنتهى الفخر كأنه يتكلم عن صفقةٍ رَبِحَ منها ملايين الدولارات . بالنسبة لتاريخ «جارديني » الطويل فعشرة آلاف من الدولارات لا تعني أي شيء . بل شعر أنه هو نفسه أو مساعده «ماركو » لو رسم لوحة في ساعتين فسيستطيع أن يبيعها هو بأكثر من هذا المبلغ . عادت «داريا » تسأل د . علي مرة أخرى : - د . علي، هل أنت متزوج؟ مشغول؟ هل عندك مشكلة في السفر لعام أو اثنين؟
- لا، أنا لست متزوجًا، ويمكنني أن أسافر من الغد إن أردتم . أنا ولوحاتي تحت أمركم وقتما شئتم .
تنهدت سلوى وهي تنظر ل «داريا » و «جارديني » لترى ردَّ فعل ذلك على الوجوه . إلا أن د .علي باغت الجميع كمَن ألقى كرسيًّا في «الكلوب » كما يقولون : - أنا أعرف «بينالي » البندقية جيدًا . وهو مكان رائع وعمل عظيم لا يُرفض بالطبع . فكم تدفعون هناك لفنان مثلي؟ وهل تشترون لوحاتي أيضًا أم تدفعون لي ثمنًا لاستغلالها في المعرض؟ يجب أن تضعوا في الاعتبار أنني سأترك بلدي وعملي في الكلية وبعض الأعمال الأخرى من أجل السفر معكم لمدة عام . فأتمنى أن يكون المقابلُ مُجْزيًا .
صمت الجميع مرة أخرى . لم يَرُقِ الكلام ل «داريا » أبدًا . بينما بدا أن «جارديني » مهتم بذلك الشخص . بالنسبة ل «جارديني » فأمثال د . علي يمكن شراؤهم بسهولة . حاولت «داريا » أن تشرح له أهمية المعرض والعمل وتجنبت الإجابة براتب مُحدد . لم يَرُقْ ذلك أيضًا لعلي . أوشك اللقاء على الانتهاء وأثناء مصافحة د . علي ل «جارديني » سأله الأخير عن متحف خليل سريعًا . أجاب بأنه يعرفه بالطبع، وإن لم يكن قد زاره من قبل إلا مرة واحدة سريعة مع بعض الطلبة . شكره «جارديني » فانصرف سريعًا وساد الصمت وسط عدم اقتناع أحد بالمرشح الثاني .
بدا من الواضح أن الجميع لم يجدوا ضالتهم . عزم «جارديني » على أن يزور المتحف في نفس اليوم مهما كلفه الأمر . لقد كان يأمل أن يصطحبه أحد الفنانين ليكون غطاءً جيدًا للزيارة ولا يشك فيه أحد . ولكن في النهاية إن لم يجد ضالته فإنه سيذهب كسائح ويُنهي هذا الأمر بسرعة . نظر «جارديني » لساعته والتي أشارت إلى الحادية عشرة صباحًا . المتحف قريب، وهو يعرف أن موعد الإغلاق هو الثانية ظهرًا .
- د . سلوى، أنا ما زلت أريد أن أرى بعض أعمال د .هناء ود .علي، وأريد أيضًا الاطلاع على أعمال كبار الأساتذة بالكلية وبعض الطلبة المتميزين أيضًا، لقد جئنا في هذه الزيارة لعدة أيام وهدفي العودة بالشخص المناسب . متى يمكن أن نرى المزيد من الفنانين المتميزين، أريد أن يكون أستاذًا أكاديميًّا وأن يكون فنانًا تشكيليًّا في نفس الوقت .
- بصراحة هناك شخص أعلم يقينًا أنه مَن تبحثون عنه ولكن ...
- ولكن ماذا؟
- هذه قصة طويلة، المهم أن كرامته تمنعه من التقدم لإجراء مقابلة . لن يتحمل أن يتم رفضه لأي سبب .
- هل لنا أن نرى أعماله وأن تحكي لنا عنه قليلًا؟
وهنا انطلقت د . سلوى في تعداد محاسن د . آدم، وكيف أنه من أهم الفنانين المُعاصرين . أجمَلت وفصَّلت في فضله وعلمه وإتقانه وفنه، وفي لوحاته وتاريخه والجوائز التي حصل عليها .
- هل يعيش مع عائلته؟ هل يستطيع السفر بسهولة؟
- د . آدم وحيد وغير متزوج، ويسافر دائمًا وقتما شاء .
- هل يُجيد الإنجليزية؟
- والدته إسكتلندية .
- هل يعرف متاحف مصر وأماكن عرض أهم القِطَع هنا؟
- يحفظها عن ظهر قلب .
نظر الجميع لبعضهم البعض ثم قامت د . سلوى بإخراج كُتيب عن الكلية وأشارت فيه لبعض أعمال د . آدم والتي لفتت الأنظار بشدة حتى أن «جارديني » نفسه خلع النظارة الطبية والتقط الكتيب من د . سلوى وظل يحدق في إحدى اللوحات لفترة مُبدِيًا دهشة وإعجابًا شديدَيْن .
- أريد أن أرى مستر آدم فورًا، الآن .
- لو حاولت أنا الاتصال به فلربما لن يرد ...
قاطعتها «داريا » مُخرجةً هاتفها المحمول : - أعطيني رقمه وأنا سأتحدث إليه وسأقنعه بالحضور فورًا .
- أعتقد أنه لن يأتي .
دوَّنت «داريا » الرقم على هاتفها وقامت مُبتعدة عن الجميع وهي تطلب د . آدم على هاتفه . انزوت في ركن من أركان المقهى . لم تفلح المحاولة الأولى ولم يرد . لم تيأس، حاولت للمرة الثانية . وهنا رد فورًا بالإنجليزية : - صباح الخير، د . آدم عبد البديع يتحدث، مَن معي؟