بعد أن عاد الجميع إلى غُرَفهم بالفندق . أخذ «ماركو » حمامًا دافئًا قبل أن ينام . شعر جسده بالاسترخاء التام واستعد لنوم عميق . ارتدى رداء الحمام الخاص بالفندق وربط منشفة فوق رأسه كما تفعل أغلب النساء ليجفف شعره الطويل . خرج من الحمَّام ليفاجأ ب «جارديني » جالسًا بمنتهى الهدوء أمامه ومعه شنطة تَسَوُّق ورقية من النوع الذي تُباع فيه الملابس . أذهلته المفاجأة وتوقف فجأة !
- كيف دخلت هنا؟ !
- حقًّا؟ هل هذا سؤال؟ أنت تعرف أنني أستطيع التسلل لخزينة بنك بعد منتصف الليل والخروج دون حتى أن أظهر على أية كاميرا وتتعجب أنني دخلت غرفة في فندق؟
- أنا أسأل لأتعلم منك . ما زلتَ تُدهشني كل يوم . لن أستبعد حتى أنك تكون هبطت على الشرفة من سطح الفندق .
- كلما كبرت في السن قلَّ اعتمادك على عضلاتك وجسدك وزاد اعتمادك على عقلك . وقد علَّمَتني الأيام أن العقل أقوى بكثير، لا حدود لقوة العقل . قد تستطيع بجسدك وعضلاتك الدخول لأي مكان بطريقة ما، لكن عقلك يستطيع أن يهديك عشرات الطرق المختلفة والمُبتكَرة .
- نعم، ولهذا الاعتماد على عقلك مع جسدي وعضلاتي يبدو مثاليًّا .
- «ماركو ».. ذَكِّرني منذ متى تعمل معي؟
- سنيور «جارديني ».. منذ تسع سنوات وأنا أُجيب عن هذا السؤال تقريبًا كل يوم !
- بعد هذه السنوات، لو فرضنا أن هناك شيئًا واحدًا فقط أريدك أن تتعلمه جيدًا مني، أتعلم ما هو هذا الشيء؟
- أتمنى من الله أن تُحدد أنت الإجابة عن هذا السؤال ولا تُغَيرها .
- «ماركو »...
- نعم سنيور «جارديني ».. ما هو هذا الشيء «الواحد » الذي يجب أن أتعلمه منك؟ !
- أن تعتمد على عقلك أنتَ وليس عقل أي شخص آخر .. ولا حتى أنا .. مقتنع؟
- طبعًا .. لقد تعلمتُ ذلك منك .. من الآن سأعتمد على عقلي أنا .
- عظيم .. الآن انسَ عقلك تمامًا واستمع لما سأقوله لك . أريدك أن تحفظ ما سأقوله لك وتُنفذه بالحرف الواحد وبالثانية الواحدة .. اسمع، ولا تجادلني ولا تسألني أيَّ سؤال منذ هذه اللحظة، وأنا أعدك أنني سأجيب عن كل أسئلتك بعد انتهاء العملية بسلام .
ناوله «جارديني » الشنطة وبدأ «جارديني » يشرح بهدوء وثبات كل خطوات العملية المتوقعة . استمعَ «ماركو » باهتمام بالغ .
ثم خَلَد إلى النوم وعقله ما زال يعمل في سرعة مدهشة . في الصباح استيقظ «ماركو » في السابعة لتنفيذ تعليمات «جارديني » بالحرف الواحد وبالثانية الواحدة .
استيقظ «ماركو » في السابعة صباحًا على مكالمة من الفندق، كما كانت تعليماته لهم قبل أن ينام . اتجه للحمام حيث اغتسل سريعًا ثم ارتدى الملابس الرياضية التي أحضرها له «جارديني »: قميصًا رياضيًّا أبيض عاديًّا جدًّا، حذاءً رياضيًّا من نفس النوع . و«بنطلون » أسود واسعًا مريحًا من نفس النوع أيضًا . وفوق رأسه وضع قبعة رياضية من نفس النوع أيضًا . بدا كشابٍّ رياضي يستعد لتمرين ألعاب قوى بعد قليل في الشمس . يبدو البنطلون عاديًّا جدًّا إلا في تفصيلة صغيرة . الجيب الأيسر عادي جدًّا، أما الأيمن فقد تحسس «ماركو » داخله فوجد الجيب ممتدًّا بطول البنطلون حتى الركبة، وهناك أسطوانة صغيرة داخله لا يكاد يلحظها أحد من الخارج . أخذ «ماركو » محفظةً صغيرة، بعضَ النقود، هاتفَه ونظارتَه الشمسية، وانطلق نحو قاعة الإفطار .
في تمام الثامنة صباحًا كان «ماركو » يتناول إفطاره بالفندق مع «جارديني ». بدا للجميع من عمال الفندق أن الثنائي يستعد لجولة سياحية . بعدها بالفعل ذهب «جارديني » مع «ماركو » وحجزا معًا سيارة من سيارات الفندق للذهاب لمنطقة الأهرام . كما اتفق «جارديني » مع الفندق على إرسال السيارة ذاتها في الثالثة عصرًا لتُعيدهم إلى الفندق .
في تمام التاسعة انطلقا، وعند العاشرة كان «ماركو » و «جارديني » في منطقة الأهرامات . اشترى الثنائي تذاكر الدخول . استأجرا إحدى العربات ذات الخيول إلى الهرم الأكبر . وعند مدخل الهرم الأكبر ترك «ماركو » «جارديني » وترك معه هاتفه المحمول وانطلق وحده عائدًا نحو منطقة الدخول . لم يجد أي صعوبة أن يجد سيارة أُجرة . طلب من السائق التوجه إلى ميدان الجامعة في الجيزة . انطلق السائق سريعًا وهو يحلم بمكافأة كبيرة من ذلك الشاب الأجنبي الرياضي . عند ميدان الجامعة طلب «ماركو » من السائق أن يتجه نحو شارع النيل حيث إنه سيذهب إلى صالة الألعاب الرياضية «جولدز جيم » المعروفة في المنطقة . أشارت عقارب الساعة لبضع دقائق قبل منتصف النهار بعد أن منح «ماركو » مكافأة سخية للسائق . ظل «ماركو » حريصًا طوال الوقت على أن يرتدي نظارته الشمسية التي أخفت نصف وجهه والقبعة التي أخفت شعره حتى لا يتعرف السائق عليه أبدًا .
لم يدخل «ماركو » الصالة الرياضية وانتظر حتى انتصف النهار كما أمره «جارديني » تمامًا . عند الساعة الحادية عشرة وتسع وخمسين دقيقة سمع أذان الظهر . عندها بدأ يمشي نحو متحف «محمد محمود خليل ». حفظ ونفذ كل كلمة وكل حرف من حروف «جارديني » كأنما كان يُمليها له في أذنيه . المسافة من صالة الألعاب حتى المتحف تستغرق خمس دقائق، قطعها «ماركو » في هدوء وبطء شديدَيْن حتى لاحت له حديقة المتحف الخلفية . ولاحظ أن المدخل الخلفي مفتوح مما جعله يشعر بالراحة . يبدو المكان كما كان في اليوم السابق .. شديد الهدوء . عليه أن ينتظر لأكثر من عشر دقائق أخرى حتى تأتيه الإشارة .
الإشارةُ التي أخبره بها «جارديني » هي خروجَ شخص من المدخل الخلفي للمتحف يرتدي قميصًا أسود و«بنطلون» من الجينز القديم . ذلك الشخص يعمل بالمتحف وخروجه يعني أن المكان خالٍ . انتظر «ماركو » ولم يخرج الرجل في اللحظة المنتظرة . بدا القلق على وجه «ماركو » إلا أنه تذكر كلمات «جارديني »: - لو تعدت الساعة الثانية عشرة والنصف ولم يخرج الرجل، الغِ العملية فورًا وأوقف سيارة أجرة وعُد وقابلني عند الهرم الأكبر . سيكون عندنا الوقت لمحاولة أخرى يوم الخميس، ومحاولة أخيرة يوم السبت قبل عودتنا .
أشارت عقارب ساعته إلى الثانية عشرة وخمسٍ وعشرين دقيقة . شعر «ماركو » بالإحباط كالطالب الذي قضى ليلته يذاكر استعدادًا للامتحان وما إن وصل للجنة وهو مستعد تمامًا، أعلن المراقب تأجيل الامتحان . دقيقتان ويغادر «ماركو ». ليس معه حتى هاتفه المحمول ليعرف لماذا لم يظهر الموظف . نظر «ماركو » مرة أخيرة في ساعة يده التي أوشكت على الإشارة لتمام الثانية عشرة والنصف . موعد إلغاء أو تأجيل العملية . رفع «ماركو » عينيه ليُوقف سيارة أجرة وعلامات الإحباط بدت بوضوح على وجهه .
***
قبل ذلك بساعات قليلة وفي صباح ذلك اليوم، استيقظ آدم واستطاع بالكاد أن يفتح عينيه ببطء شديد من فرط الإرهاق . قام متثاقلًا وهمَّ بإعداد فنجان من القهوة السريعة، إلا أنه تذكَّر أنه صائم . مشى متثاقلًا إلى الحمَّام حيث اغتسل وارتدى ملابسه بسرعة . مرَّ بسيارة أجرة على «داريا » واصطحبها معه لمبنى كلية الفنون الجميلة بالزمالك . من المفترض أن أغلب الطلبة كانوا صائمين يومها إلا أن دخول فتاة أوروبية جميلة يبدو أنه جذب الانتباه وبشدة، خاصة أن «داريا » كانت ترتدي فستانًا يصل إلى الركبة . بالنسبة لها فهو فستان رسمي ليوم عمل، أو على الأقل لائقًا لمناسبة عامة . أما بالنسبة لطلبة الكلية، فهو فستانٌ قصير للغاية، حتى أن الأصوات كلها سكتت في فناء الكلية . ولم يُسمع سوى همهمات مع استغفار البعض وحملقة البعض الآخر، والقليل من مَصْمَصَة الشفاه لبعض الفتيات . باختصار كان الحدثُ جَلَلًا في الكلية، والكل دفعه الفضول ليعرف مَن هذه الزائرة الأوروبية الجميلة .
لم يكن من المعتاد في الكليات المصرية رؤية فتاة ترتدي فستانًا قصيرًا، حتى أن «داريا » نفسها أحست بالرهبة من كثرة العيون المُصوَّبة إليها . في البداية ذهبت مع آدم إلى مكتبه، ويبدو أن الخبر انتشر سريعًا، فبعد ثلاث دقائق فقط هرولت د . سلوى في مكتب آدم لتعرف مَن هذه الزائرة التي يتكلم عنها الطلاب مع لفيف من الأساتذة وجميع عُمال الكلية . هدأت قليلًا عندما عرفت أنها «داريا » وسلَّمَت عليها سلامًا حارًّا كأنها ابنة خالتها التي تُقيم في الخليج ولم ترها منذ سنوات . احتضنتها وحاولت أن تُظهر للجميع أنها صديقة قديمة وهي تتحدث معها بلُكنتها الإنجليزية الركيكة .
- «داريا » حبيبتي .. أهلًا بكِ في الكلية .
- أهلًا د . سلوى .
- لو أنني أعرف أنكِ ستزوريننا كنت فَرَشْت أرض الكلية بالرمال .
- ولماذا تفعلين ذلك؟ !
- الرمال يا «داريا » تُستخدم عندنا لاستقبال الضيوف المهمة .
- آه فهمت . عندنا في إيطاليا نستقبلهم بالزهور .
- نعم، ونحن نفعل ذلك أيضًا، أحيانًا .
استمر المهرجان وتوافدت وفود من أعضاء هيئة التدريس للترحيب بالزائرة الجميلة في مكتب آدم، وتطور الموقف حتى جاء د . عماد وكيل الكلية بنفسه للترحيب بالضيفة . لولا أن عميد الكلية كان في إجازة سنوية لكان هو أيضًا موجودًا وسط المُرحبين . كلية الفنون الجميلة كانت في الماضي قِبلةَ فناني العالم، وكان وجود الفنانين الأوروبيين فيها أمرًا طبيعيًّا . أما الآن فدخول فنانة أوروبية حَرَم الكلية أصبح أشبه بدخول «مارلين مونرو » سجنًا مشددَ الحراسة مخصصًا للرجال . ولكي يَفُض آدم الاشتباك اعتذر للجميع بأنه و «داريا » يجب أن يُديرا حوارًا مفتوحًا مع بعض طلابه عن «بينالي » البندقية في إحدى قاعات الكلية .
اعتقد آدم أن الأمر انفضَّ على خير، وأنه سيلتقي مع طلبته كالمعتاد لمناقشة بعض مشاريعهم أثناء الإجازة الصيفية ثم يغادر . فوجئ آدم يومها بامتلاء قاعة المشاريع كمدرجات الدرجة الثالثة يمينًا ويسارًا يوم مباراة الأهلي والزمالك في يوم إقامة المباراة الفاصلة لتحديد بطل الدوري . لم يكن عدد الطلبة يتناسب مع كون اليوم من أيام الإجازة الصيفية وفي شهر رمضان أيضًا .
على الرغم من الإحراج الذي بدا على «داريا » ، إلا أن د .آدم بدأ بتعريفها للطلبة . حدَّثَهم لدقيقتين عن «بينالي » البندقية، وعن مدينة البندقية الساحرة، وفتح الحوار . الكارثة التالية كانت في اللغة . طلبة كلية الفنون الجميلة والمفترض أنهم أرقى فناني المستقبل في مصر يتحدثون الإنجليزية بالكاد، حتى أن آدم فكَّر في الاستعانة بمترجم يترجم له هو شخصيًّا اللغة الإنجليزية التي تحدث بها الطلبة . لم يجد آدم حلًّا سوى أن يسأل الطلاب بالعربية ويقوم هو بالترجمة ل «داريا » والعكس .
ومع صعوبة التواصل وتعدُّد اللكنات الإنجليزية في القاعة من اللكنة الإيطالية التي تتحدث بها «داريا » للإسكتلندية التي يتحدث بها آدم، للصعيدية التي حاول بها بعض الطلبة (إلا قليلًا منهم ) ، مع كل ذلك فقد كان الحوار مُمتعًا . تحدثت «داريا » عن تفاصيل كثيرة . حكت عن مدينتها المائية الساحرة، عن حواريها ومجاريها المائية، والمقاهي العتيقة . تحدثت باستفاضة وحُب عن ال «بينالي » وتاريخه منذ بداياته في نهاية القرن التاسع عشر وعن دوراته وفنانيه .
بعثت «داريا » في عقول وقلوب الطلاب الشوقَ لرؤية تلك المدينة الساحرة وذلك الملتقى الفني الكبير . تساءل بعض الطلبة : لِمَ لا تُقام مثلُ تلك المعارض الضخمة في مصر؟ أخبرهم آدم أن هناك «بينالي » يُقام في الإسكندرية؛ إحدى عواصم الفن في المنطقة، ولكنه ليس بشهرة ولا ضخامة «بينالي » البندقية . وأخبرهم أيضًا أن «بينالي » الإسكندرية ثاني أقدم «بينالي » عالمي بعد «بينالي » البندقية . تعجب الطلبة بشدة . أحس آدم أنه كمَن يُخبر مُشجعي الكرة في مصر أن مصر حصلت على كأس العالم من قبلُ ثلاثَ مرات . من العجيب أن طلبة كلية الفنون الجميلة قسم التصوير الزيتي لا يعلمون شيئًا عن المعارض الفنية التي تُقام داخل مصر . حتى أن أحدهم لم يحضر أي معرض خارج أسوار الكلية .
- ألم تذهب لأي معرض في أي بقعة في مصر؟
- لا .
- ولا في القاهرة؟ ولا في دار الأوبرا؟
- لا .
- ولا حتى في ساقية الصاوي؟ !
- لا والله يا أستاذ .
- والله أخاف أن أسألك إن كنت أصلًا حضرت أي معرض بالكلية أو في مدرستك !
- لا طبعًا حضرت الكثير .
- ما شاء الله .. الحمد لله يا أخي .
تساءل آدم : كيف مثلًا لمُخرج كبير أن يتعلم الإخراج ويُطور من نفسه وموهبته إذا ظل طوال عمره يشاهد أفلامًا محلية فقط؟
بالنسبة لفنان مثل آدم، فإن ما قاله للطلاب هو أمر بديهي تمامًا . لكن هذا الأمر نفسه بدا جديدًا لمعظم الطلاب . آدم مُنفتح على ثقافات كثيرة منذ ولادته . فأمه وأبوه كانا من ثقافتَيْن مُختلفتَيْن . كما أنه سافر كثيرًا وحضر عشرات المعارض وزار مئات المتاحف . لم تكن زيارة «داريا » للكلية مُخططًا لها، لقد تم كل شيء عفويًّا ودون تخطيط مُسبق، لكنها كشفت أن هناك من المفاهيم التي يجب أن تُدَرَّس للطلاب ما قد يكون أهمَّ من تدريس المادة العلمية وحدها .
مر الوقت سريعًا على «داريا » وآدم في المحاضرة . لا يعلم آدم هل استمتع بها طلابه بالفعل أم أنهم كانوا لا يزالون مُستمتعين بوجود فتاة أوروبية جميلة بينهم في الكلية؟ ! عقارب الساعة الكبيرة المُعلقة في قاعة المحاضرات كانت قد تخطت منتصف النهار ببضع دقائق . لقد انتهى الوقت المخصص للطلبة . وما زال يريد أن يصطحب «داريا » لشراء هدية لحبيبته .
لم يكن الخروج من القاعة أو من الكلية بأسهل من الدخول . د . عماد سأل سلوى عن «داريا » وعن أسباب وجودها في مصر . وعرف منها أن هناك أيضًا «جارديني » و «ماركو » معها . عندما خرج آدم و «داريا » من القاعة وَجَدَا د . عماد في الانتظار . داعب د . عماد «داريا » ببعض العبارات المُجامِلة . لم يكن آدم يُطيقه أبدًا . دعا عماد «داريا » وضيوفها لندوة في الكلية في اليوم التالي بعد أن عرف أنهم سيغادرون القاهرة يوم السبت . رحَّبَت «داريا » بالعرض ووعدت بعرض الأمر على «جارديني » و «ماركو » أيضًا .
أراد د . عماد أن يدعو «داريا » لشرب القهوة في مكتبه، ولكن آدم اعتذر له . غادر آدم و «داريا » وسط تَرقُّب عيون الطلاب والحسد والغيرة في عيون عماد وسلوى . استقلَّ آدم و «داريا » أول سيارة أُجرة .