15

عند الواحدة والنصف وسبع دقائق، وقف «ماركو » أمام «جارديني » بالقرب من أقدام أبي الهول .

- لقد تأخرت سبع دقائق كاملة، أعتقد أن التأخير حدث في شارع الهرم . مهما بلغت دقة الخطة فلن تصمد أمام مرور تلك المدينة !

- لقد تم كل

- أعلم، لقد وصلت الأمانة وبدقة في موعدها، والخطة تسير بنجاح .

- نظر «ماركو » حوله واقترب من «جارديني » هامسًا في أذنه : - بابا «جارديني » ، ما حدث اليوم هو أعجب ما مر بي طوال سنوات عملي معك، شيء لا يُصدقه عقل ولا أعتقد أنه سيحدث مجددًا أبدًا .

- لقد أثرتَ فضولي، يجب أن تحكي لي .

- بالطبع .. عندما كنت في انتظار الإشارة في الثانية عشرة والنصف تمامًا

- «ماركو ».. «ماركو ».. ليس هذا وقته بالتأكيد . سنتسمتع بوقتنا الآن و سنتكلم كثيرًا لاحقًا .

- ولكنني أيضًا أريد أن أسأل عن أشياء عجيبة كثيرة .

- لقد اتفقنا ألا تسألني .. سأقول لك كل شيء في الموعد المناسب .. الآن دعنا نلتقط بعض الصور معًا هنا مع أبي الهول والأهرامات .. أمامنا ساعة وثلث قبل أن يصطحبنا السائق .

- دعني ألتقط لك صورة سنيور «جارديني ».

- سيلفي «ماركو ».. سيلفي .. سنستخدم هاتفك هنا وهاتفي عند الهرم .

لم يكن «ماركو » ليسأل «جارديني » عن أي شيء، فقط التقط الصور وتسلَّق الهرم الأكبر وركب الخيل، وأمضى ساعة رائعة مع «جارديني ». بعدها عرف أن «جارديني » غيَّر توقيت جهازه المحمول وأخَّره لساعة حتى تبدو الصور الملتقطة بينها فارق زمني يكفي للانتقال من مكان لآخر . كما حرص الماكر «جارديني » على أن تكون هناك صور عليها تاريخ اليوم والساعة الثانية عشرة والنصف ظهرًا . أي أن تلك الصور تكفي لإثبات أن «ماركو » لم يغادر هضبة الأهرامات .

في الثالثة مساءً تمامًا، وحسب الاتفاق، كانت سيارة الفندق في الانتظار . استقل «جارديني » و «ماركو » السيارة عائدَيْن إلى الفندق في الزمالك . في الفندق حرص «جارديني » مرة أخرى على أن يشكر موظف الاستقبال على حُسن تنظيم الرحلة لهم من وإلى منطقة الأهرام . كان العجوز «جارديني » مُنهَكًا، ولكنه أشار إلى «ماركو » أن يتناولا الطعام أولًا . كان المطعم شبهَ خاوٍ إلا من بضع مناضد شغلها سائحون . بعد أن طلبا الطعام اعتدل «جارديني » وباغت «ماركو »: - استمتع بطعامك ولا تأكل كثيرًا . بعدها اذهب مباشرةً إلى حجرتك وحاول أن تنام .

- ليس هذا موعد نومي سنيور «جارديني ».

- «ماركو ».. افعل ما أقوله لك .. ستحتاج للنوم والراحة الآن حتى لا تتعب مما سيحدث هذا المساء .

- وماذا سيحدث هذا المساء؟ !

- سيتم إلقاء القبض عليك يا «ماركو »!!

- نظر «ماركو » ل «جارديني » باندهاش وانعقد لسانه . سكت للحظة، وعندما همَّ أن يسأل «جارديني » عما يقصد، فجأة انشقت الأرض عن آدم و «داريا » أمامهما على المنضدة .

- كيف كان يومكما؟

- كان يومًا عظيمًا زُرنا الأهرام وأبا الهول .. التقطنا العديد من الصور الجميلة .. ماذا عنكما؟

- لقد ذهبنا للكلية عند آدم حيث عقدنا جلسة نقاش مع الطلبة والأساتذة . قبل أن أنسى .. لقد طلبوا منا أن نذهب غدًا كلنا، وأنتما معنا، لندوة أخرى في الكلية . هل لديكما خطط سياحية أخرى غدًا؟

- لا، كنت فقط أريد أن أستكمل زيارتي لمتحف خليل وأتجول فيه لبعض الوقت قبل أن أسافر .

- اتفقنا، لنذهب يوم السبت كلنا للمتحف قبل السفر، أما في الغد فسوف نذهب للكلية .

- اتفقنا .. وأين ذهبتم بعد الكلية؟

- آدم اشترى هدية ذهبية جميلة لحبيبته الإيطالية، وسوف آخذها لها معي . ما رأيكم؟

فتحت «داريا » العلبة وفيها خاتم من الذهب الأبيض الخالص يعلوه حجر كريم . كان الخاتم جميلًا ولافِتًا للنظر جدًّا . أبدى «جارديني » إعجابه الشديد بالخاتم وأكد أن حبيبته ستحب الخاتم بكل تأكيد .

- عليك أن تحذر يا د . آدم . عندنا في إيطاليا إن أهديت امرأتكَ خاتمًا ذهبيًّا فأنت قد وقعت في الفخ . ستعتقد أنك تتقدم للزواج منها . لن يكون هناك مَفَر .

- سأخبرها أنني قد أرسلت لها بهدية، وعلى أي حال قريبًا سألحق بكم في إيطاليا ولعلي أشتري الخاتم الثاني سريعًا .

ظل «ماركو » وقتها ناظرًا للفراغ، لا يكاد يسمع لما يُقال حوله . حاول استيعاب ما قاله «جارديني » قبل لحظات عن الشرطة التي ستقبض عليه في المساء . كيف، وأين، ولماذا؟ هل رآه أحد؟ هل يمزح معه «جارديني » ؟ لم يكن من المعتاد أن يمزح معه «جارديني » في مثل هذه الأمور . انتظر «ماركو » أن يرحل آدم و «داريا » حتى يُكمل «جارديني » حديثه . بالفعل رحل آدم الذي كان صائمًا واتفق مع الجميع على اللقاء في صباح اليوم التالي للذهاب للندوة . بقيت «داريا ». وبقي «ماركو » منقبضَ القلب وساكنَ الوجه . لم يستطع حتى أن يأكل، ولم يستطع أن يتكلم مع «جارديني » في وجود «داريا ».

كان على «ماركو » الانتظار، ولكن يبدو أن «داريا » لم تكن تريد نومًا أو راحة ساعتها . حاول «ماركو » التخلص منها دون فائدة . لم يكن أمامه إلا أن ينصرف هو . اتفق مع «داريا » و «جارديني » على اللقاء في المساء . انصرف «ماركو » وفي ذهنه أن يذهب لاحقًا ليستكمل حديثه مع «جارديني ». دخل حجرته وأضاء الأنوار ليجد «جارديني » جالسًا في هدوء على حافة فراشه !

هذه المرة لم يهتم «ماركو » بكيفية دخول «جارديني » حجرته، ولا حتى كيف استطاع ذلك العجوز الماكر الوصول لحجرته قبله . وسأله بسرعة : - لماذا سيتم إلقاء القبض عليَّ؟

- اخلع بنطلونك أولًا .

- نعم؟ !

- عندما تأتي الشرطة ويفتشون متعلقاتك، هل تريد أن يعثروا على بنطلون فيه جيب سري يكفي لإخفاء لوحة؟

- إممم .. لا طبعًا .

- «ماركو ».. ذَكِّرني منذ متى تعمل معي؟

- سنيور «جارديني » ، لماذا ستأتي الشرطة هنا أصلًا؟

- منذ متى يا ماركو؟

- تسع سنوات ونصف سنيور «جارديني ».

- بعد هذه السنوات، لو فرضنا أن هناك شيئًا واحد فقط أريدك أن تتعلمه جيدًا مني، أتعلم ما هو هذا الشيء؟

- أنا أريد أن أعلم لماذا ستأتي الشرطة فقط !

- التفاصيل يا «ماركو ».. التفاصيل .. يجب أن تفكر في كل التفاصيل . نجاحك وفشلك يكمن في التفاصيل الصغيرة . أنت الآن ضابط بوليس في القاهرة وتمت سرقة لوحة ثمنها 50 مليون دولار من متحف . وتصادف أن آخر شخصين رَأَيَا اللوحة في اليوم السابق كانا تاجِرَي لوحات عالميين من إيطاليا . أضف إلى ذلك أن مدير أمن المتحف بنفسه رآهما بعد أن شاهدا اللوحة . هذه اللوحة سُرقت بعدها ب 24 ساعة . ستتهم مَن؟

سكت «ماركو » تمامًا وقد استوعب القنبلة التي ألقاها «جارديني ». لا بد أن «جارديني » لديه الحل لتلك الورطة، وإلا لما ورَّطهم فيها أصلًا . لاحظ «جارديني » الوجوم على وجه «ماركو » فضحك بشدة وهدَّأَه .

- الموضوع بسيط . كان يجب عليَّ أن أرى المكان واللوحة لأضع الخطة . ولا يوجد أي دليل من قريب أو بعيد أن لنا أية علاقة بالسرقة . في جميع الأحوال سيتم حصر كل مَن زار المتحف في الأيام الأخيرة عن طريق الشهود أو الكاميرات .

- إذًا لنسافر فورًا قبل أن يقبضوا علينا .

- بالعكس .. على العكس تمامًا . لو سافرنا سيكون ذلك أكبر خطأ . تذكَّر .. التفاصيل .

- كيف؟ !

- لو سافرنا الآن واكتشفوا السرقة بعدها بساعات وتم رصد اسمَيْنَا وقاد آدم الشرطة لشخصياتنا لأصبحنا المتهمَيْن الأولَيْن ولتم إخطار الإنتربول باسمَيْنا ولتعرَّضْنا لمشاكل مع الشرطة الإيطالية . وسيكون وقتها عليك إثبات سبب سفرك للقاهرة وتفريغ مكالماتك قبلها ومشاكل لا حصر لها .

- وماذا لو لم نسافر الآن؟

- بالضبط، نحن سائحان، جئنا مع «داريا » في مهمة عمل، زُرنا الأهرامات والبواخر النيلية وعقدنا الندوات . سيتم تفتيشنا بدقة ولن يجدوا أي شيء . طبعًا بعد أن تتخلص من ملابسك الرياضية بما فيها الحذاء . أنا سأتخلص منها بمعرفتي .

- تقصد أنك تتعمد أن يتم تفتيشنا؟ !

- بالضبط، أنا أريد أن يتم استجوابنا وتفتيشنا ومراقبتنا حتى نغادر القاهرة بسلام ولا نترك أي خيوط . الآن اخلع ملابسك وناولها لي وحاول النوم، ولننتظر الشرطة هذه الليلة .

- هل تعتقد أنهم اكتشفوا السرقة؟

- المفروض أننا الآن في الرابعة عصرًا، وأن المتحف يغلق أبوابه في الثانية عصرًا . حسب كل الحسابات من المفترض أن يتم إبلاغ الشرطة بين الثانية إلى الثالثة مساءً . المفروض أن تنقلب المدينة . صحافة .. إعلام .. شرطة .. تذكَّر ما حدث في باريس . يومها طارت الأخبار و انقلبت المدينة كلها في ساعات .

- واللوحة، أين هي؟

- لا تقلق، هي الآن في الطريق إلى لندن . فقط أتمنى أن تدخل لندن قبل أن تُعْلَن السرقة .

- شعر «ماركو » بالارتياح أخيرًا . كل مرة يثبت ذلك العجوز أنه يعرف جيدًا ما يفعل . أعطاه الملابس للتخلص منها . توجه «جارديني » نحو الباب ليخرج . توقف فجأة عندما أمسك بالباب ، التفت ل «ماركو » قائلًا بلهجة أبوية : - «ماركو » ، أحقًّا تثق فيَّ؟

- بالطبع، %100 بلا أدنى شك .

- سأطلب منك طلبًا واحدًا من الآن حتى نهاية العملية، وأرجوك أن تستمع لي جيدًا .

- كُلِّي آذان صاغية .

- عِدْنِي من هذه اللحظة ألا تسألني عن أي شيء أفعله أو أطلبه منك طوال العملية حتى انتهائها تمامًا . بعدها ستقُص عليَّ ما فعلتَ وسأجيب عن كل تساؤلاتك . أما الآن فكن في رحلة واستمتع .

- أَعِدُكَ سنيور «جارديني » ، ولكن عِدْنِي أنت أيضًا أن تُجيبني عن أسئلتي بعد انتهاء العملية .

أطرق «جارديني » بوجهه مُوافِقًا مُبتسِمًا . ابتسم «ماركو » ل «جارديني » في وُدٍّ وظهرت علامات الرضا على وجهه قبل أن تنقلب للاستغراب الشديد مرة أخرى وهو يعيد على مسامع «جارديني » ما قاله من قبل : - لقد كان اليوم عجيبًا حقًّا !