17

السبت الحادي والعشرون من أغسطس سنة 2010 ميلادية، الموافق الحادي عشر من شهر رمضان عام 1431هجرية كان يومًا تاريخيًّا في القاهرة . في ذلك اليوم تم اكتشاف سرقة لوحة «آنية وزهور » ، والمعروفة باسم «زهور الخشخاش » ، وهي من أعمال الفنان العالمي «فان جوخ ». سُرقت اللوحة التي تُقدر قيمتها بخمسين مليون دولار تقريبًا من متحف «محمد محمود خليل وحرمه » بالجيزة . لم يعلم أحد ولم يتوقع أحد أن تكون اللوحة قد سُرقت قبل ذلك التاريخ بأيام . يومها انقلبت الدنيا وأُعلنت حالة الطوارئ والتأهُّب القصوى في أروقة وزاراتَي الداخلية والثقافة، فضلًا عن النيابة العامة والصحف المصرية ووكالات الأنباء العالمية ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار . كيف انقلبت الدنيا يومها؟

نعود مرة أخرى لصباح ذلك اليوم، حيث فتح أحد موظفي المتحف أبوابه في التاسعة والثلث صباحًا . فض الشمع الأحمر على الباب الرئيسي وقام بفتح الأقفال . من المفترض أن يتم الفتح في التاسعة صباحًا ولكن لأنه كان يومًا من أيام شهر رمضان، والموظفون صائمون، كما أن هناك عزوفًا عامًّا من الجماهير عن زيارة المتحف، فلم تكن هناك أدنى مشكلة في التأخير عن موعد فتح المتحف .

وقف جندي بسيط من جنود الحراسة على باب المتحف، بينما أخرج الموظف دفتر التذاكر ودفتر تسجيل الزيارة والذي نادرًا ما يكتب فيه أي شخص . بالنسبة للموظف كلها إجراءات روتينية يقوم بها كل يوم ولا يتغير شيء . بل لا يزور المتحف أحد باستثناء القليل من الأجانب، خاصةً في شهر رمضان . في الدقائق التالية وحتى العاشرة والنصف بدأ توافد الموظفين على المتحف . أغلبهم اتجه فورًا لمكتبه في الطابق الأسفل حيث اعتادوا على تبادُل الحديث مع قراءة الصحف . وكالعادة لم يأتِ أحد من المديرين : مديرة المتحف، مدير الأمن، وكبار موظفي وزارة الثقافة . من المعتاد أن يتأخر الجميع، خاصةً أن ذلك التاريخ وافق شهر رمضان، حيث يسهر الجميع حتى الصباح ويقضون أغلب النهار في سُبات عميق !

نعى ذلك الموظف البسيط حظه وهو يُزيل الشمع الأحمر ويفتح أبواب المتحف . لو أنه من المديرين لنام هو أيضًا حتى الظهر على الأقل . لِمَ يستيقظ مبكرًا؟ هو لا يعمل في مجمع التحرير أو مرور مدينة نصر . على العكس تمامًا فهو يكاد يكون شبه متأكد أن أحدًا لن يأتي لهذا المتحف أبدًا، اللهم إلا بعض الأجانب أو السياح . مَن هو المصري المخبول الذي سيستيقظ من نومه مبكرًا يوم السبت، وفي رمضان، ليزور متحفًا فنيًّا؟؟ جالَ بخاطر ذلك الموظف أن المصري الأصيل حتى وإن زار باريس وعزم على زيارة اللوفر فلن يستيقظ مُبكرًا أبدًا من أجل هذه الزيارة . عاد وتذكَّر أنه قد يكون محظوظًا من جهة أخرى . فهو سيفتح أبواب المتحف فقط ثم يعود لقبو القصر حيث مكتبه ليصلي ركعات الضحى ويغفو قليلًا حتى يأتي بقية الموظفين تِباعًا . لم ينسَ الموظف أن يوصي جندي الحراسة بالخارج ببيع التذاكر لمَن يأتي من الزائرين إن حدث . عملية بيع تذاكر الدخول لا تعني ذلك الجندي من قريب أو بعيد، إلا أنه كان يتحين تلك الفرصة بين الحين والآخر . بما إن معظم زوار المكان من الأجانب فقد كان ينتظر نفحة سخية من هؤلاء الفنانين الأجانب . ربما أعطاه أحدهم ورقة بعشرة دولارات أو باليورو أو حتى بالين الياباني .. لا يهم . لم يزر المتحف أبدًا أحد من العرب، فقط الأوروبيون وبعض المصريين في حالات نادرة .

جلس الجندي في مَلل واضح يتأمل المارَّة في الشارع . كانت الساعة حوالي العاشرة صباحًا، واليوم من أيام السبت الهادئة . هدوء شديد أحاط بالمنطقة كلها . مجرد جندي صائم يحلم بكوب الشاي الصباحي . ينتظر بفارغ الصبر أن ينتصف النهار فيغير ورديته في الحراسة . لم يكن يقرأ أو يكتب، والأعجب أنه لم يسبق له أن دخل المتحف من قبل . هو فقط يحرسه من الخارج ولا يعرف عنه أي شيء . يعرف بالكاد أنه يحرس متحفًا .

اقتربت سيارة أجرة من المدخل الرئيسي للمتحف حيث جلس الجندي . توقفت أمامه بالضبط . نزل منها الشخص الجالس بجوار السائق وتبعه ثلاثة أجانب كانوا على المقعد الخلفي . لم يكن ذلك إلا آدم، «جارديني » ، «ماركو » و «داريا ». اصطحبهم آدم بناءً على طلب «جارديني » ليزور الدور الأعلى ويُشاهد باقي القِطَع الفنية بالمتحف .

سلَّم آدم على الجندي وسأله عن التذاكر .

- تحت أمرك يا معالي الباشا .

- نريد أربعَ تذاكر للمتحف .

- من عينيَّ الاثنتين، كل عام وأنت بخير .

فهمَ آدم تلميح الجندي وأخرج مبلغًا من المال يكفي لشراء التذاكر ولمكافأة الجندي أيضًا . أخذها الجندي بفرح وراح يُرحب بالأجانب باللغة العربية دون أن يفهم أحد منهم ما يقول، إلا آدم بالطبع . تقدم الجميع نحو الحديقة الأمامية الكبيرة وعبروها نحو المدخل الرئيسي للقصر . وقف «جارديني » ينظر لتمثال في آخر الحديقة وعند مدخل القصر . لمحه آدم فسارع بالقول : - وهذا التمثال ل «كيوبيد » هو قطعة أصلية، من المفترض أن يكون إحدى قِطَع المتحف وليس لتزيين الحديقة .

بعدها استكمل «جارديني » التقدم نحو المدخل، وهناك لمح دفتر الزائرين .

- لا أعتقد أنني رأيت هذا الدفتر في المرة السابقة .

- ولا أنا .. يبدو أن شخصًا تذكَّر هذا الدفتر فجأة اليوم .. هل تحب أن تكتب شيئًا؟

سكت «جارديني » وهمَّ بالاعتذار ولكنه بعد لحظة تردُّد عاد ورحَّب .

- لِمَ لا؟ لنكتب جميعًا .

لم يكن مع أيٍّ منهم أيُّ قلم، نادى آدم الجندي مرة أخرى وأعطاه عشرة جنيهات إضافية وطلب منه قَلَمًا . خرج الجندي ليبحث عن قلم في الخارج تاركًا الجميع عند مدخل القصر . اقترح «جارديني » أن يتحركوا ليشاهدوا المتحف حتى لا يضيع الوقت . صعدوا السلالم مرة أخرى . عند الطابق الأول لاحظ الجميع أن باب قاعة لوحة «فان جوخ » كان لا يزال مُغلَقًا . العجيب أن أحدًا لم يُعلق أو يتحرك نحو القاعة التي شاهدوها من قبل . أراد «جارديني » بأية طريقة أن يتأكد من اكتشاف السرقة أثناء وجوده بالقاهرة . توجه الجميع نحو الطابق الثاني حيث شرح لهم آدم كأنما يأخذهم في جولة في بيته :

- الدور الأول الذي زُرناه فيه مُقتنيات قليلة، وهو عبارة عن ثماني قاعات . أما الدور الثاني ففيه سبع قاعات فقط، ولكنه يحتوي على مقتنيات وكنوز أكثر . أهمها لوحة عملاقة ل «كلود مونييه » لجسر فوق مُستنقَع . وهي لوحة قَيِّمة جدًّا، وهي الوحيدة ل «كلود مونييه » في مصر .

بدا الاهتمام والحَماس على وجه «جارديني » كطفل تُحدِّثه عن لعبة جديدة . قفز فوق السلالم كشابٍّ في العشرين، وبالفعل فقد قضى ساعة كاملة يتأمل اللوحات والتماثيل والقِطَع الأصلية في انبهار كامل . ساعة كاملة ظل آدم يقوم بدور المُرشد ويشرح تاريخ كل قطعة كأنما هو في إحدى محاضراته بالجامعة . أفاق الجميع بعد مرور الساعة أن الوقت يمضي سريعًا . صار على «جارديني » و «ماركو » و «داريا » أن يعودوا للفندق للخروج النهائي من الغُرَف والتوجُّه للمطار . حاول آدم مرة أخرى الاتصال بعبد القادر، ولكن كالعادة لم يجد إجابة . عندما نزلوا للدور الأرضي هرع الجندي نحوهم بالقَلَم، كتب كلٌّ منهم بعض كلمات الشكر في دفتر الزائرين . توجَّه «جارديني » لدورة المياه وعاد . وعندما هموا بالمغادرة دخل فجأة مجموعة أخرى من الزائرين . ظهرت الدهشة على الوجوه . سلَّموا عليهم ودعاهم «جارديني » لتدوين بياناتهم بالدفتر أيضًا . كانوا خمسة من الإسبان في زيارة للقاهرة . تعرفوا عليهم بسرعة ثم انصرف آدم ومجموعته . فجأة وقف «جارديني » والتفت للخلف ونادى الإسبان قائلًا :

- لا تنسوا لوحات «جوجان » و «فان جوخ » و «مونييه » ؛ إنها أروع ما في المتحف .

ها قد فعلها العجوز . في بضع دقائق سيتم اكتشاف السرقة . بعدها سيتم إبلاغ كبار المسئولين الذين سيقومون بدورهم بإبلاغ الشرطة . وبعدها ستتم مراقبة المطارات وإيقافهم هم بالتحديد لأنهم مُسجَّلون في دفتر المتحف . سيتم التحقيق معهم وتفتيشهم بكل دقة ثم الاعتذار لهم ومرافقتهم بكل أدب واحترام إلى الطائرة . وبذلك يخرجون تمامًا من دائرة الشبهات .

وبالفعل، لم تمضِ نصف الساعة إلا وقد فتح أحد الزائرين الإسبان باب الغرفة ورأى ما رأى من بعثرة في مُحتويات الغرفة وبودرة ملونة على الأرض وإطار لوحة فارغ من لوحته . وكالنار في الهشيم طار الخبر حيث اندفع الزائرون باحثين عن أي موظف في المتحف . اتجه الإسبان نحو مكاتب الموظفين، وجدوا أغلبها مهجورًا إلا من مكتب واحد . ما إن اقتحموه حتى وجدوا الموظف نائمًا . أيقظوه وظلوا يحدثونه بالإسبانية تارة فلم يفهم، وبالإنجليزية تارة أخرى فلم يفهم . وكان عبد القادر قد وصل هو أيضًا . جاء على صوتهم وفَهِم منهم أن هناك كارثة . اندفع الجميع للأعلى حيث فوجئوا بالمشهد المروع . هنا تقمص عبد القادر دور وزير الداخلية وأمر الموظف بإغلاق المتحف فورًا والاتصال بمديرة المتحف .. وبالشرطة .