«أعلن السيد فؤاد حسين وزير الثقافة المصري في بيان رسمي بثته وكالات الأنباء تَمَكُّن أجهزة الأمن المصرية من إحباط محاولة تهريب لوحة «زهور الخشخاش» للفنان «فان جوخ » ، بعد ساعات قليلة من سرقتها من متحف محمد محمود خليل، وتمكنت الأجهزة الأمنية بمطار القاهرة من ضبط اللوحة بحوزة شاب إيطالي حاول تهريبها للخارج ».
كان ذلك نص البيان الصحفي العاجل، والذي تم بثه من مكتب وزير الثقافة المصري لجميع الصحف ومحطات الإذاعة والأخبار المصرية والعالمية بشكل عاجل .
كان تعامُل الأمن مع «ماركو » و «داريا » حذرًا للغاية . من ناحية فقد شعر ضابط الأمن أنه ألقى القبض على اثنين من كبار المجرمين، حتى أنه بدأ يحلم بالشهرة والمكافأة . ومن ناحية أخرى فقد كان حريصًا في تعامُله معهم لأنهم من الأجانب، وخاصة أنه تم إخطار السفارة الإيطالية بناءً على طلب مدير الأمن . حيث طلب حضور مندوب عن السفارة مع مترجم أثناء إجراء التحقيقات . تم إيداع «داريا » و «ماركو » حجرة مغلقة ولمدة ساعة تقريبًا لم يتبادلا أي حديث خوفًا من وجود أية أجهزة للتنصت أو كاميرات للمراقبة .
بعدها بساعة واحدة حضر مندوب السفارة ومعه المترجم وبدأ التحقيق والذي أنكر فيه «ماركو » و «داريا » معرفتهما بأي شيء يخص أية لوحة مسروقة، ودار الحديث حول اللوحة المضبوطة، وأنها هدية من فنان مصري . بالطبع لم يصدق الأمن كل ما قيل، وأصر على التحفظ على اللوحة حتى يحضر مندوب وزارة الثقافة بنفسه . أيقن «ماركو » أن الطائرة قد أقلعت بدونهما وتحدث بالإيطالية مع مندوب السفارة والملحق الثقافي بالسفارة وشرح الموقف لهما . وطلب من الملحق الثقافي أن يُلقي نظرة على اللوحة ليتيقن بنفسه أن الأمر مُزحة سخيفة . اللوحة المضبوطة عادية جدًّا وتحمل توقيع فنان مصري اسمه آدم . وبالفعل طلب مندوب السفارة رؤية اللوحة، وما إن رآها حتى ابتسم؛ تيقن أن «ماركو » على حق . تحدث الملحق مع المترجم والملحق الأمني وهاتف السفير سريعًا .
دقائق قليلة وأصدرت السفارة الإيطالية بالقاهرة بيانًا رسميًّا ينفي جُملةً وتفصيلًا العثور على لوحة «فان جوخ » المسروقة مع شابين إيطاليين . وطالب البيان السلطات المصرية التأكد من الأخبار قبل إذاعتها . انقلبت الدنيا رأسًا على عقب . فقد صدر ساعتها بيانان رسميان : أحدهما من مكتب وزير الثقافة، والآخر من السفارة الإيطالية . بعض الصحف المصرية كانت قد صدرت بالفعل بأنباء العثور على اللوحة . عاد الوزير ليتحدث مع منير مرة أخرى، فالأخير من المفترض أن يكون بالمطار : - منير، أين أنت؟ !
- أنا في الطريق إلى المطار فورًا يا فؤاد بك .
- كان من المفروض أن تكون هناك منذ ساعة .
- لقد كنت أفطر .. كل عام وأنت بخير .
- أكمل إفطارك بالمطار أو حتى لا تفطر، السفارة الإيطالية نفت العثور على اللوحة، ألم تبلغني أنت أننا عثرنا عليها؟
- كيف نفوا الخبر؟ بعد دقائق سأكون في المطار .
- من أين أتيت أنت بأخبار العثور على اللوحة؟ !
- من كل وكالات الأنباء والصحفيين .. إنه خبر مؤكد .
- مَن هو مصدرك يا أستاذ منير؟ !
صمت منير طويلًا وعندما انفعل الوزير عليه أخبره بأن الخبر أُذيع في الإذاعة . استشاط الوزير غضبًا وأمره بأن يكون في المطار، وأن يُعاين بنفسه اللوحة ويتأكد من صحتها وصحة الخبر . وإلا فليُفرِج فورًا عن الإيطاليين قبل دخول الوزارة في أزمة دبلوماسية وسياسية، فضلًا عن الأزمة الثقافية والأمنية أيضًا !
وبالفعل، بعد قليل في المطار انهار شعبان وهو يرى اللوحة . واندفع متهمًا رجال الأمن بالجهل والتسبب في هرب اللصوص الأصليين . وظل شعبان يعتذر ل «ماركو » و «داريا ». قبل أن يرحلا أوقفهما رجل من المحققين وسألهم عن طريق المترجم : - هل قلتم إنكم أنتم بالفعل مَن كنتم في المتحف صباحًا؟
- نعم، لقد زُرناه زيارة عادية .
- وهل رأيتم لوحة «فان جوخ » صباحًا؟
- لا، لقد رأينا لوحة «مونييه » فقط اليوم . كنا نتجول في الدور الثاني .
- ومَن أيضًا كان معكم في الزيارة؟
- فنان مصري يعرف المتحف جيدًا . وهو أيضًا مَن رَسم هذه اللوحة .
- مصري ويعرف المتحف جيدًا، وكان بالمتحف صباحًا .. عظيم .. قبل أن يُخلَى سبيلُكم اتركوا اسمه وبياناته وكل ما تعرفون عنه .
بعدها أُخلِيَ سبيل «ماركو » و «داريا » وانتهى الموضوع بتوجيه الاعتذار الرسمي لهما وللسفارة الإيطالية . استقلَّا الرحلة التالية ليلحقا ب «جارديني » في إيطاليا !
***
في رد فعل أمني سريع وحاسم تم إبلاغ القوات وتوجهت قوة أمنية ضخمة لتُداهم منزلَ آدم لإلقاء القبض عليه والتحقيق معه . كانت الساعة تقترب من العاشرة مساءً، وكان آدم يستمتع ببعض الموسيقى الهادئة في بيته عندما سمع طرقًا شديدًا على باب المنزل انخلع له قلبه . فوجئ آدم بقوات الأمن تقتحم بيته ومعهم ضابط برتبة كبيرة يأمرهم :
- فتشوا البيت فورًا . فتشوا كل ركن . نريد أن نعثر على اللوحة .
اندفع شكري جار آدم، صاحب الشقة متشفيًا في آدم بين الضباط . أقحم نفسه بين الحاضرين ووقف يتابع ما يحدث في شقة آدم . وقف آدم مذهولًا مما يحدث حوله وحاول أن يسأل الضابط عن الأمر . أخبر آدم الضابط أنه سمع بأمر اختفاء لوحة «فان جوخ » من الإذاعة ومن بعض الأصدقاء في المتحف . قبل أن يُجيب الضابط سمع أحد الجنود يصرخ بحماس :
- يا افندم . لقد وجدت اللوحة .
نظر الضابط لآدم نظرة انتصار وآدم لا يزال في حالة ذهول .. وقبل أن ينطق بأي حرف سمعوا نفس الجندي يصرخ بحماس أقل :
- يا افندم .. أعتقد أنني وجدت لوحة أخرى .. لستُ متأكدًا .. هناك لوحات كثيرة هنا .. المكان هنا يبدو كمعرض لوحات .
ابتسم الضابط مرة أخرى بفخر أكبر وهو ينظر لآدم :
- لوحات كثيرة .. كم لوحة سرقت إذًا؟ واضح أنك مُحترِف .
- سَرَقْت؟ هذه لوحاتي .. أنا أستاذ دكتور بكُلية الفنون الجميلة قسم التصوير الزيتي .
نظر له الضابط بريبة وتحرك نحو المرسم ونظر للوحات . وبالفعل كانت كلها تحمل توقيع واحد لآدم .
- هل تعرف متحف محمد محمود خليل؟
- نعم، طبعًا أعرفه جيدًا .
- تحرياتنا تؤكد أنك كنت اليوم هناك قبل اكتشاف السرقة .
- لقد سمعت الخبر بالفعل في الإذاعة قبل الإفطار وذُهلت .
- أَجِبْنِي، هل كنتَ في المتحف صباح اليوم؟
- نعم، كنت هناك و ...
قبل أن يُجيب نادى الضابط على أحد جنوده وأمره بإلقاء القبض فورًا على آدم واقتياده معهم لقسم الشرطة لاستكمال التحقيقات . كما أمر الضابط جنوده بحصر اللوحات وفرز أية لوحة تحتوي على زهور وضمها ضمن أحراز القضية للعرض على خبير من خُبراء وزارة الثقافة .
تدخَّل شكري فجأة في الحوار :
- نعم يا حضرة الضابط . أعتقد أن آدم هو اللص . لقد رأيته ومعه عصابته من الأجانب . ومستعد للشهادة بذلك في أي وقت !
نظر له آدم بدهشة ولم يرد، خاطب الضابط مرة أخرى :
- حضرة الضابط، هناك لَبْسٌ في الموضوع . أنا أعرف لوحة «فان جوخ » أفضل من خُبراء وزارة الثقافة . اللوحات هنا كلها لي، وعليها توقيعي . أنا أستاذ دكتور ولست لصَّ لوحات !
- تفضل معنا أولًا وسنرى كلَّ شيء لاحقًا بالقسم .
ذَهِلَ آدم واستسلم للجنود وهم يقتادونه كالمجرم أمام جيرانه . المصيبة الأكبر كانت في جمع عشرات من لوحاته تحمل كلها توقيعه هو لعرضها على خبراء من وزارة الثقافة .
***
في تلك الأثناء كانت الأمور مشتعلة في أروقة وزارة الثقافة . أعلى قيادات سياسية في البلد تحدثت مع وزير الثقافة لمعرفة آخر المستجدات في القضية . الأوامر كانت صارمة بمحاسبة المتسببين في السرقة حتى ولو عادت اللوحة . بيان الوزارة بالعثور على اللوحة تم توزيعه ونشره وصدرت بالفعل الصحف ليلًا تحمل البيان . لذلك وعندما تلقى الوزير مكالمة منير شعبان والتي أخبره فيها بأن اللوحة ليست هي المسروقة . أُسْقِط في يد الوزير، لقد أصدر بيانًا رسميًّا بناء على مكالمة هاتفية فقط . تأخر الوقت وحل الليل والوزير ما زال في مكتبه والموضوع يتطور إلى الأسوأ كل دقيقة .
فجأة دخل مدير مكتب الوزير مهرولًا إلى مكتبه :
- سيادة الوزير، «عمر الكاتب » على الهاتف ويريد أن يتحدث مع معاليك الآن .
- عمر الكاتب، وماذا يُريد؟ !
- هو الآن على الهواء في برنامجه «العاصمة اليوم » وتحدث بشكل سيئ جدًّا عن سرقة اللوحة وأنباء استعادتها وأنباء أخرى عن عدم استعادتها، ومدير الإعداد بالبرنامج طلب أن يتحدث مع حضرتك الآن على الهواء .
- هل قلتَ له إنني في المكتب؟
- طبعًا .. أفضل من أن أقول إن الوزير ترك الأزمة وعاد لبيته، أو أنْ أعتَذِرَ بأي عذر آخر .
- حوِّل المكالمة لمكتبي فورًا .. والله لأحولك للتحقيق يا منير كما ورَّطني هذه الورطة .
بعد دقائق تكلم الوزير على الهواء مباشرة، حيث أكد أن اللوحة سُرقت وأكد بيان الوزارة الأول .
- ولكن حضرتك قرأنا بيانًا آخر يُفيد بأن اللوحة تم العثور عليها .
- للأسف، فهذه الأخبار عارية من الصحة .
- الأخبار أم البيان؟
- لم يتم العثور على اللوحة .
- أنا بين يديَّ الآن بيانان، بيان رسمي من وزارة الثقافة يُفيد بالعثور على اللوحة مع شابين إيطاليين قبيل مغادرتهما من مطار القاهرة . وبيان رسمي آخر من السفارة الإيطالية يُفيد بأن هذه الأنباء عارية من الصحة .
- بالفعل، أنا أنفي العثور على اللوحة .
- وبيان الوزارة؟
- كان هناك تضارب في الأنباء من قِبَل الأستاذ منير شعبان وكيل الوزارة وسوف نحاسب المسئولين عن الإهمال والسرقة تنفيذًا لتوجيهات السيد رئيس الجمهورية . لن يفلت المُقصِّرون بهذه الفعلة أبدًا .