معنا على الهواء مباشرةً في مداخلة مباشرة الأستاذ «منير شعبان » وكيل وزارة الثقافة ومدير قطاع المتاحف، أهلًا بحضرتك يا أستاذ منير .. ما الذي حدث؟
حكى منير كل ما يعرف عن الحادث مُسترجِعًا أحداث يوم السبت الأسود منذ استيقظ على الخبر وحتى الساعات الأولى من صباح الأحد . في هذا الحوار المباشر نفى العثور على اللوحة وأعلن مسئوليته عن تضارب التصريحات في الوزارة، ولكنه قبل أن يُنهي المكالمة فتح على نفسه بابًا كبيرًا لم يستطع أن يُغلقه بعدها أبدًا .
من ناحية لأنه وللمرة الأولى – ورغم تحمُّله مسئولية التصريحات المُتسرعة – ألقى باللوم على الوزير مباشرةً . ومن ناحية أخرى فقد اعترف منير ضمنيًّا وعلى الهواء مباشرةً أن هناك تقصيرًا داخل الوزارة، وكان من الطبيعي أن تتم محاسبة المُقصِّرين . لقد أهدى منير للنيابة العامة ليلتها الخيط الأول لاتهامه وآخرين بالتقصير والإهمال؛ فقد قرر منير أن السرقة تمت لأنه خاطبَ الوزير لتغيير كاميرات المراقبة القديمة والتي تم تركيبها من خمس عشرة سنة إلا أن الوزير لم يَسْتَجِب . باءت محاولاته لاحقًا بإلصاق التهمة للوزير بالفشل، لقوة علاقة الوزير بالسلطة ولسهولة إثبات وجود تقصير في القطاع الذي يرأسه منير . وبالتالي فكما يقولون فقد ارتدَّت رصاصة منير إليه هو شخصيًّا . ففي الصباح، وبعد عدة ساعات لم يستطع خلالها أن يُغلق عينيه، تم استدعاؤه للنيابة العامة للتحقيق .
ليلًا، وأثناء عرض البرنامج، بات آدم الليلة في قسم الشرطة قبل عرضه على النيابة في الصباح للتحقيق . تم تحريز عشرين لوحة من لوحاته رغم وضوح توقيعه عليها جميعًا . حتى أن آدم طلب من الضابط في القسم أن يطلب صورة للوحة المسروقة ويقارنها بلوحاته، ولكن الضابط لم يُعره أيَّ انتباه . تعامَل ضابط الشرطة بقسوة مع لوحاته . تم إتلاف بعضها أمامه وسط دهشته وعجزه . فكر للحظة، كيف يتعاملون مع هذه اللوحات بهذه الطريقة؟ وكيف لو أن اللوحة المسروقة التي تساوي ملايين الدولارات كانت بينها بالفعل؟
كانت ليلة كارثية قضاها آدم في مَحبسه بين المُجرمين والمُتهمين . حاول بعضهم الحديث معه ولكنه انكفأ على نفسه، أغمض عينيه بعد أن باءت كل محاولاته للدفاع عن نفسه بالفشل ولم يستطع أن ينام ! شعور عميق بالأسى أن يقضي فنان ليلته بين المجرمين والقتلة . خليط من الظلم والذل والانكسار استسلم له آدم تمامًا . على عكس الآخرين . هناك مَن يصرخ أو يستغيث . صمت آدم تمامًا فجلس صامتًا . قضى وقتًا طويلًا محاولًا إبعاد بعض المُتحرشين من المجرمين المسجونين معه . تحمَّل تحرشهم به وسرقة ما معه من جنيهات من محفظته، ولم يَرُد أو يطلب الغوثَ أو يصرخ كما يفعل الآخرون . صمت حتى تركه المجرمون وناموا، أما هو فقد انكفأ على جنبه صامتًا .
لم ينطق بكلمة في الصباح . لم يَرُد سلامًا لأحد . ابتلع الأمر كله في كبرياء وسكت عن الكلام . سِيق كالمجرمين مُكبَّل اليدين لمبنى النيابة حيث كان وكيل النيابة يُحقق في القضية . أثناء الانتظار وقبل العرض على النيابة رآهم كلهم هناك .
رأى آدمُ صديقَه عبد القادر مراد وسكرتيرته سعاد، أو سوسو كما كان عبد القادر يُطلق عليها . رأى صديقه الفنان منير شعبان . رأى أيضًا مديرة المتحف مريم باهر . الجميع كانوا هناك و معهم الكثير من موظفي وحُراس المتحف . وقف الجميع في الانتظار . استغرق التحقيق الواحد ما بين نصف ساعة إلى ساعة . أثناء الانتظار حاول منير وعبد القادر تجاذُب أطراف الحديث مع آدم، إلا أنه ظلَّ على صمته . لم ينطق .
تعجَّب منير وعبد القادر من وجود آدم . فقد كان الجميع تقريبًا من موظفي وزارة الثقافة على العموم والمتحف على الخصوص إلا آدم . وظل آدم صامتًا وحده مَذهُولًا مُعترِضًا بطريقته .
داخل حجرة النيابة جلس السيد «شريف المنشاوي » وكيل النائب العام يُطالع أخبار القضية التي شغلت الرأي العام طوال اليوم السابق . تلك القضية التي نالت اهتمام أعلى قيادات سياسية في البلاد . كانت مُعاينة النيابة في اليوم السابق كارثية . كاميرات تصوير لا تعمل، أجهزة كشف السرقة لا تعمل، جهاز كشف المعادن عند دخول المتحف لا يعمل، دفتر الزوار غير مُستخدم غالبًا، تقريبًا لا توجد حراسة داخلية في المتحف، إجراءات فتح وإغلاق المتحف كانت شكلية تمامًا . اختصارًا .. كان الوضعُ كارثيًّا ! أدرك منذ الوهلة الأولى أنه حتى وإن لم تتمكن النيابة من التوصل للسارق، فإن هناك الكثير من الإهمال والتقصير في القضية . لعل أحد المسئولين عن المتحف يكون متواطئًا أيضًا مع السارقين . لوجود كمًّ هائلٍ من إهمال بهذا الحجم، وُسِّعت دائرة الاشتباه لتشمل العديد من المسئولين بالمتحف وبالوزارة . إستعد شريف جيدًا لمعركة طويلة من الاستجوابات والاستنتاجات .
بين كل الأسماء المُقدَّمة للنيابة من مسئولين وجد هناك اسم واحد غريب : د . آدم عبد البديع، وهو غير مُتهم بشيء، ولكنه فقط مُشتبَه به كونه المصري الوحيد الذي زار المتحف يوم اكتشاف السرقة . تعجَّب شريف من سبب الاشتباه وقرر أن يبدأ به هو قبل أن يبدأ تحقيقاته مع المسئولين المُتهمين بالتقصير والإهمال .
في الخارج ظل آدم صامتًا إلى أن نُودِي على اسمه فتقدم وجلس بين يدي وكيل النيابة . والذي ما إن رآه حتى هوَّن عليه الأمر :
- الأوراق التي بين يدي تقول إنك من المُشتبه فيهم بدليل وجودك في المتحف قبل اكتشاف السرقة .
- بالفعل، ففي بلد مثل هذه، فزيارة متحف للفن الراقي جريمة، يُصنَّف فاعِلُها من المجرمين والمشتبه بهم !
- ولا يوجد أي شيء آخر في الأوراق غير بعض الأحراز لبعض اللوحات .
- دليل آخر يؤكد أنني مُجرم ومشبوه !
- الخُبراء أكَّدوا أن هذه اللوحات لا تَمُت بِصِلَة لتلك اللوحة المسروقة .
- وهل يحتاج الأمر إلى خُبراء ليعرفوا الاختلاف بين لوحاتي ولوحات «فان جوخ » ؟ ! وهل يحتاج الأمر إلى خُبراء ليتمكنوا من قراءة توقيعي على لوحاتي؟ ! وهل يحتاج الأمر إلى خُبراء ليستبعدوا أنني سرقت لوحة ل «فان جوخ » في الصباح، ثم ذهبت لبيتي ووضعتها بين لوحاتي ونِمْت؟ !
- يبدو أن في الأمر سوءَ تفاهُم كبير . لماذا زُرت المتحف بالأمس؟
- سوء تفاهُم؟ ! الأمر كله معكوس . أنت تسألني لماذا زُرت المتحف؟ وأنا أسأل لماذا لا يَزورُه الناس كلهم؟ ! لماذا يذهب الآلاف لمشاهدة أفلام العيد الهابطة والتحرُّش بالفتيات، بينما يعزف نفس الناس عن زيارة دار الأوبرا للاستماع لسيمفونية أو لمشاهدة عرض مسرحي أو معرض لوحات؟ ! عندما تنقلب الآية وأُصبح أنا الوحيد الذي يزور المتحف فأنا أكيد المتهم والمجرم في نظر ذلك المجتمع .
- أرجوك يا أستاذ آدم أن تهدأ . لنبدأ من أول الحكاية، مَن أنت؟ وما عملُك؟ ولماذا كنتَ هناك بالأمس تحديدًا؟
هدأ آدم واسترخى وبدأ يحكي منذ البداية . حكى عن حياته وعمله كفنان وأستاذ بكلية الفنون الجميلة . حكى كيف عرف «داريا » و «جارديني » و «ماركو ». وحكى عن زياراته المُتكررة للمتحف، وعن صداقته لعبد القادر مراد مدير الأمن بالمتحف .
- د . آدم، هل رأيتَ صديقك عبد القادر مراد بالمتحف بالأمس؟
- لا، لم أَرَه .
- د . آدم، أنا شخصيًّا سأكتفي بأخذ أقوالك على المحضر وستنتظر معنا بالخارج حتى إنهاء بعض الإجراءات .
- سكتَ آدم كأنَّ القرار لم يُعجِبه . توقع أو تمنى أن يُخْلَى سبيلُه فورًا . لم يُعلق وهو ينظر بعدم رضا نحو شريف والكاتب . قبل أن يُمسك بالقلم ويُوَقِّع باسمه تحت الأقوال . في هدوء استدار آدم، وقبل أن يَفتح البابَ ناداه شريف مرة أخرى كمَن تذكَّر أمرًا كان غائبًا عنه تمامًا :
- د . آدم، هل رأيتَ اللوحةَ المسروقة بالأمس أثناء زيارة المتحف؟
- لا، لم أرها أمس، لم أَمُر على القاعة التي بها اللوحة، وأظن أن باب القاعة كان مُغلقًا .
- ومتى كانت آخر مرة رأيتَ اللوحةَ بما إنك من مرتادي المتحف؟
- يوم الثلاثاء الماضي، رأيت اللوحة وكانت جميلة ومُستقِرة مكانها .
- كلامُك خطير، معنى ذلك أن السرقة قد تكون تمت يوم السبت، أو حتى قبلها بأيام؟
- لا أعرف، ولكنْ بالطبع المسئولون عن فتح وإغلاق وجَرْد المتحف يوميًّا هم مَن يعرفون .
- شكرًا يا د . آدم، أنا آسف لإزعاجك .
غادر آدم حُجرة وكيل النائب العام، إلا أنه ظل بمبنى النيابة مُنتظِرًا قرارًا بالإفراج عنه . وعاد من جديد إلى صمته . خرجَ الحاجب من حُجرة وكيل النيابة ونادى بأعلى صوته : - عبد القادر مراد .
انتفض عبد القادر واقفًا وهرول نحو باب الحجرة وهو يقول في سره : اسْتُر يا رب !