22

دخل عبد القادر مراد على وكيل النيابة مُرتبِكًا منذ اللحظة الأولى، ومن النظرة الأولى أدرك شريف بحسه وخبرته في التحقيقات أن ذلك الرجل يُخفي وراءه الكثير . قد يكون ذلك «الكثير » فيضًا من الإهمال أو الفساد أو التواطؤ، أو حتى السرقة ذاتها . على كل الأحوال، وفي أحسن الفروض، فهناك تقصير أمْنِي، وعبد القادر هو المسئول الأول عن تأمين المتحف . بدأ البداية التقليدية بالاسم والسن والعنوان . تعجَّب شريف من كون عبد القادر من خريجي كلية الفنون الجميلة . عادةً ما يكون مديرو الأمن من رجال الأمن السابقين وليسوا من الفنانين . ولكن عبد القادر أجاب ببساطة أنه بالأصل موظف بوزارة الثقافة في قطاع المتاحف . بالنسبة له كلها وظائف إدارية لا فرق بينها . ومنذ اللحظة الأولى اتخذ عبد القادر موقفًا دفاعيًّا شديدًا وأنكر كل الاتهامات وألقى بها على الآخرين في مهارة عجيبة .

- بصفتك مُديرًا للأمن، متى كانت آخر مرة رأيت اللوحة؟

- يوم الثلاثاء الماضي .

- ألا يُعد ذلك تقصيرًا من جانبك ألا تراجع وجود لوحة في عُهدتك ثمنها 55 مليون دولار؟

- هي ليست في عُهدتي، بل هي في عُهدة أمينة العُهدة في المتحف . وهذه وظيفتها الوحيدة .

مر عبد القادر برشاقة ومهارة من المصيدة الأولى، وبدأ يستعيد ثقته في نفسه، بينما ظل شريف هادئًا يراجع أفكاره قبل أن يعاود الهجوم بحثًا عن ثغرة أخرى .

- أنت مدير الأمن في المتحف، لماذا لا تعمل الكاميرات والتي أعتقد أنها في عُهدتك؟

- بالضبط، هي في عُهدتي وأنا مسئول عن تشغيلها .

- عظيم، إذن أنت تعترف بالتقصير في صيانة وتشغيل الكاميرات .

- يا افندم أنا أعرف كل كاميرا مراقبة في المتحف، أعرف التي تعمل والتي لا تعمل والتي تحتاج فقط لبطارية ثمنها 50 جنيهًا لتعمل، أعرف كل شيء وذلك عملي . ولكنني تقدمت بطلبات كثيرة لمديرة المتحف لصرف المبالغ المطلوبة للصيانة ولكن لم يتم صرف أي مبلغ لي !

- وهل رفضَتْ؟

- لا، وافقت طبعًا وتقدمت بدورها بنفس الطلب للسيد مدير عام قطاع المتاحف .

- وهل رفض؟

- لا، وافق فورًا ورفع الطلب للسيد وزير الثقافة .

- وبالطبع وافق ورفعَ الطلب للسيد رئيس الوزراء .

- لا يا افندم، على حد علمي السيد وزير الثقافة ظل لفترة يُراجع ميزانية الوزارة للصرف على المتاحف فلم نتلقَّ منه الرد .

- منذ متى وأنتَ تنتظر؟

- سنتين على الأقل يا افندم .

سكتَ شريف وأخذ نفَسًا عميقًا . فقد نجح عبد القادر في الهروب من المناورة الثانية وأخذ يُفكر كيف يسأله في صميم عمله هو حتى لا يهرب كما فعل .

- أستاذ عبد القادر، بالأمس وعند اكتشاف الجريمة كان هناك جندي واحد يحرس المتحف من الخارج وهو تابع لوزارة الداخلية، أين حُراس المتحف من الداخل؟ هل من المفترض أن متحفًا كهذا ليس فيه حراسة داخلية؟

- لا طبعًا، خطة الحراسة تقوم على وجود ثلاثة حُراس داخل المتحف، كل واحد منهم مسئول عن دور كامل من أدوار المتحف .

- كلام جميل، أين كانوا؟

- للأسف، فعندنا حاليًّا حارس واحد فقط بعد أن تقدم اثنان بالاستقالة . للأسف الراتب الشهري للحارس 300 جنيه مصريًّا فقط . كيف نُعين حارسًا يحرس مليارات الدولارات ونعطيه 300 جنيه فقط؟ ! للأسف، كلما عيَّنَّا حارسًا، يعمل لشهر أو اثنين ثم يستقيل . وقد تحدثت في الأمر مع السيدة مُديرة المتحف ...

- والتي رفعت الأمر للسيد وكيل الوزارة والذي بدوره ...

- لا لا .. هي وافقت وتمَّ رفع الراتب ل 500 في الشهر، وكنا نستعد لتعيين حارسَيْن جديدَيْن .

مرة أخرى راوغ عبد القادر شريف وتنصَّل من أية مسئولية وألقى بها على رؤسائه . لم يكن شريف مقتنعًا أن مدير الأمن لم يُقصِّر في تأمين متحف مما أدى لسرقة لوحة ثمنها 55 مليون دولار على الأقل . عاد يُفكر كي ينقضَّ عليه مرة أخرى !

- أستاذ عبد القادر، قلتَ لي إن هناك حارسًا واحدًا كان من المفترض أن يكون موجودًا بالأمس، أين ذهب؟

- هو في إجازة مَرَضية، وقد قدَّم لي شهادة مَرَضية مُعتمدة منذ أسبوع . وأنا عندي هذه الشهادة .

- وماذا عنك أنت؟ أين كنتَ وقت اكتشاف السرقة؟

- أنا كنتُ موجودًا بالمتحف بالأمس في مكتبي .

- لكن في حوالي الحادية عشرة والنصف صباحًا اختفيتَ ولم تكن موجودًا وقتَ اكتشاف السرقة .

- لا، أنا كنتُ موجودًا، يمكن فقط تركت مكتبي عشر دقائق لأُصَلي الظهر .

- أين كنتَ تُصَلي؟ في المتحف؟

- لا، في المسجد المُقابل للمتحف .

- ولكن لا يوجد مسجد مُقابل للمتحف .

- إنه على الجانب الآخر من الطريق الرئيسي . فقط أعبر الطريق وأكون هناك .

- ولكن الطريق الرئيسي لا يمكن عبوره أمام المتحف؛ حيث إن هناك حاجزًا من الحديد في منتصف الطريق لمنع عبور المُشاة .

- آه فعلًا .. حضرتك تعرف المنطقة جيدًا .. أنا فعلًا أمشي مسافة بسيطة حتى النفق، ثم أعبر النفق وأمشي نحو المسجد .

- أستاذ عبد القادر، حضرتك تمشي ثُلث ساعة للذهاب وثُلث ساعة للعودة، وتنتظر الأذان والإقامة، كل ذلك غير وقت الصلاة نفسها .. وصلاة السُّنَّة وغيرها .. بالتأكيد أنتَ تكون خارج المتحف لمدة لا تقل عن ساعة !

- كل عام وحضرتك بخير . عمومًا أنا أُصلي في المسجد في رمضان فقط . أيام مُباركة .

- وقد حلَّت البركة عليك وتمَّت سرقة لوحة ثمنها 55 مليون دولار لأنه لم يتواجد أي شخص تابع لأمن المتحف وقت السرقة .

للمرة الأولى بدأ شريف يهدم جزءًا من دفاعات عبد القادر القوية . سكت عبد القادر وقد أدرك أنه سيُحاسَب بلا أدنى شك . كانت خلاصة استجواب عبد القادر تأكيد شكوك شريف بوجود إهمال وتقصير . فتح عبد القادر المجال لشريف ليستجوب مُديرة المتحف ووكيل الوزارة لشئون المتاحف . وقد يصل الأمر لاستجواب وزير الثقافة . عاد شريف يُفكر مرة أخرى في عبد القادر وعلاقاته بكل مَن كان مُتهمًّا أو مُشتبهًا به في القضية .

- أستاذ عبد القادر، هل تعرف د . آدم عبد البديع؟

- نعم، طبعًا هو صديقي . فنان وإنسان مُحترم ومُرهف الحِس .

- لقد كان في المتحف بالأمس .

- هو يأتي كثيرًا . آدم يعرف المتحف أفضل مني ومن مُديرة المتحف ذاتها .

- وذلك يجعله خطيرًا جدًّا ومن المُشتبه بهم أيضًا . فضلًا عن وجوده بالمتحف .

- هو فنان، مثل مُخرج السينما الذي يذهب كثيرًا للسينما، وجوده هناك منطقي . ثم دعني أُخبرك بشيء، اللوحة المسروقة ليست أغلى لوحات المتحف، في القاعة المجاورة لوحة ل «جوجان » تُقدر بحوالي 80 مليون دولار . وهناك في الطابق الأعلى لوحة ضخمة ل «مونييه » قيمتها قد تصل أيضًا لنفس المبلغ . لوحة «مونييه » كبيرة ويَصْعُب سرقتها . ولكن لوحة «جوجان » صغيرة ومهمة . وآدم يعرف ذلك كله . أنا لا أُبالغ إن قلتُ إن آدم يأتي للمتحف على الأقل مرة كل أسبوع لو ذكرت لي اسم شخصٍ آخر غير آدم لشككت في وجوده في المتحف في ذلك اليوم المشئوم .

- آه فهمت . عمومًا سنحتاج توقيعك على الأقوال . سيتم استجواب بقية المُتهمين ثم سأعود إليك مرة أخرى .

أحسَّ قلب عبد القادر بالانقباض . وكيل النيابة لا يثق فيه وسيستجوبه مرة أخرى . ثم كانت الطامة الكبرى في الجملة التي قالها وكيل النيابة بكل بساطة منذ لحظة . لقد ألقى وبمُنتهى البساطة بقنبلة كبيرة عندما قال «بقية المتهمين ». وقتها فقط أدرك عبد القادر أنه «متهم » ، وأن الأمر لا يبدو بالبساطة التي توقعها . عاد يطلب من الله الستر في سره وهو في طريقه لخارج غرفة التحقيقات .