خارج حجرة وكيل النائب العام ظل آدم يُواصل احتجاجه الصامت . لم يتكلم مع أحد . حاول شعبان الحديث معه فلم يرد . عندما خرج عبد القادر من حجرة التحقيقات كان وجهُه مُسوَّدًا . صمت هو أيضًا لفترة . اقترب بعدها من آدم وهمس له أن وكيل النيابة سأل عنه وعن علاقته به . نظر له آدم بغير اكتراث ثم أطرق نظره للأرض مرةً أخرى وسكت . تراجع عبد القادر وقلَّب بصره بين الحاضرين، وكان تقريبًا يعرف الجميع . نظر نظرةً طويلة لسكرتيرته سعاد ثم عاد وجهه للعُبوس وصمت . نادى الحاجب على مريم باهر مُديرة المتحف . هي الأخرى فنانة . كان مقر النيابة العامة يعج بالفنانين التشكيليين كقاعة من قاعات الأوبرا يوم افتتاح معرض أحدهم .
أثناء الانتظار سَرَت شائعة أن النائب العام قد يستدعي السيد وزير الثقافة للشهادة . بينما الجميع ينتظر لِما ستُسفر عنه الأحداث المتلاحقة فوجئ آدم بمَن يسأل عنه . وجد نفسه وجهًا لوجه أمام آخر شخص يتمنى أن يراه في هذه اللحظة وعلى هذه الحالة !
***
- أستاذة مريم، أين كنتِ وقتَ اكتشاف السرقة؟
- كنتُ في الطريق للمتحف .
- ما هي المواعيد الرسمية للمتحف في رمضان؟
- من التاسعة صباحًا حتى الثانية عصرًا .
- ولكنكِ كنتِ في الحادية عشرة والنصف صباحًا في الطريق للعمل .
- حضرتك تعلم أن العمل أقل في رمضان . كما أنني لستُ المسئولة عن فتح وإغلاق المتحف . هناك لجنة برئاسة أمينة العُهدة ومعها بعض الموظفين .
- أستاذ عبد القادر مراد قال في التحقيقات إنه رفع مُذكرة طالبًا فيها من حضرتك إصلاح الأعطال بالكاميرات وزيادة رواتب الحراسة الداخلية .
- بالفعل، وقد وافقتُ على زيادة الرواتب، وأما الكاميرات فقد ...
فكررت مريم ما قاله عبد القادر عن الخطابات الموجهة من كل مستوى إلى الذي يليه والروتين المُصاحب للعملية، ولكنها أضافت :
- ولكنَّ هناك مبلغًا تم اعتماده بالفعل لإصلاح بعض الكاميرات .
- كم هو هذا المبلغ؟
- خمسة آلاف جنيه . بالإضافة لاثني عشر ألف جنيه أخرى ميزانية سنوية لتعيين حراسة داخلية .
- ولماذا لم يتم التعيين؟
- مَن قال ذلك؟ لقد وقَّعت بنفسي على عقود تعيين اثنين من الحُراس في بداية أغسطس .
- وأين هما؟ لماذا لم يتواجدا بالأمس؟
- لا أعرف .. يُسأل عن ذلك أستاذ عبد القادر المسئول عن أمن المتحف .
***
في هذه الأثناء، وخارج حجرة التحقيقات، فوجئ آدم بدكتورة سلوى ومعها دكتور عماد رئيس القسم . بدا د . عماد واثقًا جدًّا في نفسه وهو يتقدم د . سلوى بخطوات ثابتة مرتديًا بدلة أنيقة باهظة الثمن ونظارة شمسية . سلَّم آدم عليهم في فتور واستمر في صمته . حاول د . عماد التخفيف عن آدم وتهوين الأمر عليه .
- لا تَخَف، لقد تحدثت مع بعض المسئولين حين وصلت الأخبار . لا شيء عليك بالمرة .
- أعرف أنه لا شيء عليَّ ولكنني ما زلت هنا .
- دقائق وسيتم الإفراج عنك . اطمَئِن .
- كيف عرفت بوجودي هنا؟
- النيابة أرسلت تستفسر عنك وعن عملك بالكلية . كما طلبوا انتداب خبير ليفحص لوحاتك المُحرزة . أبشر يا د . آدم؛ فالنيابة العامة تعتقد أن مستواك الفني يقارب مستوى «فان جوخ ».
- بل قُل إن النيابة العامة أصلًا لا تعرف مَن هو «فان جوخ »! ولولا الحادث لما سمع به أحد هنا أبدًا .
- لا تُبالِغ، إنها إجراءات روتينية . أتعلم أن هناك بعض لصوص اللوحات ممن يسرقون اللوحة ثم يرسمون فوقها لوحة أخرى بألوان أخرى لإخفاء ملامح اللوحة الأصلية . وبعد تهريب اللوحة تُزال الطبقة العليا وتعود اللوحة الأصلية .
- أعرف ذلك، ولكنني لستُ لصَّ لوحات .. هؤلاء المجانين تركوا متحفًا كهذا بلا حراسة . الناس كلهم مجانين لأنهم لم يُقدروا وجود هذا الكنز من الأعمال العظيمة في القاهرة . ولو أنهم سافروا لفرنسا مثلًا لدفعوا الكثير لزيارة اللوفر أو غيره من المتاحف .
- اهدأ يا آدم .. كلنا يعرف أن المجتمع لا يفهم في الفنون بشكل عام .
- إذن اللص الحقيقي هو الذي وصل بالمجتمع لهذا الحد من التدني . نحن أصلًا بهذا الإهمال والحس الفني الهابط لا نستحق أعمال «جوجان » و «فان جوخ » و «مونييه ». حتى التُّحَف العظيمة من التماثيل في الميادين العامة يُشوهونها ويحفرون أسماءهم عليها .. قمة الانهيار والانحطاط !
- اهدأ يا آدم .. سأتركك لحظات ثم سنغادر المبنى معًا .
وبالفعل فقد أجرى د . عماد بعض المكالمات الهاتفية والتي انتهت باستدعاء وكيل النيابة لآدم وتقديم الاعتذار له بعد الاطلاع على تقرير خبير الأعمال الفنية . وتم الإفراج عن آدم من مقر النيابة العامة بضمان محل إقامته . عاد آدم لبيته مُنهَكًا صامتًا . لم يَسْلَم يومها أيضًا من تَحرُّش جاره العجوز كالعادة . هذه المرة لم يُعِرْه آدم أي اهتمام ولم يرد عليه بالمرة . ما إن دخل بيته حتى اغتسل بماءٍ دافئ . ثم استلقى على فراشه ونام نومًا عميقًا .
***
استمرت تحقيقات النيابة تقريبًا طوال اليوم . وشملت العشرات من العاملين بالمتحف وبوزارة الثقافة وبقطاع المتاحف، وحتى مكتب وزير الثقافة شخصيًّا . تفاصيل مخزية كثيرة وردت خلال التحقيقات من تبادُل للاتهامات إلى العشرات من التقارير والمئات من المستندات . تقارير أمنية مُهمَلة، طلبات لترميم المبنى وطلبات أخرى لتغيير الأجهزة التي لا تعمل . كلها تفاصيل ضلَّت طريقها بسبب الروتين الحكومي العميق . كشفت المستندات عن كم كبير من الفساد والإهمال الذي لم يكن ليظهر لولا اختفاء اللوحة . فقد اختفت تلك اللوحة التي كانت تستر عورات العشرات وتركتهم عرايا يواجهون القانون ويتبادلون الاتهامات بينهم . كلٌّ منهم يظن أنه ضحية، وأنه سيكون كبشًا للفداء . لم يجرؤ أيهم أن يعترف بأن هناك قُصورًا جماعيًّا في إدارة ذلك المتحف العظيم . بل إن ذلك الإهمال الذي تم كشفه في مكان واحد قد يكون مُتأصِّلًا في عشرات ومئات الأماكن الأخرى في انتظار تلك اللحظة التي قد تكشفه يومًا ما . لو علم «محمد محمود خليل » نفسه كل ذلك لما وَهَب القصر والتحف - هو أو زوجته – للدولة، ولأهداها لمَن يُقدّر المكان ويُحسن إدارته .
بعد عشرات من الاستجوابات أحس شريف بالإرهاق الشديد . قضى يومًا طويلًا شاقًا مليئًا بالعمل . تقارير من المعمل الجنائي، عشرات الاستجوابات، أقوال متضاربة أحيانًا ومتطابقة غالبًا، وتقارير ومستندات كثيرة قرأها وضمها لملفات القضية . كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة مساءً، وقبل أن يغادر طلب أن يُنهي اليوم باستجوابٍ آخر لعبد القادر مراد المسئول عن تأمين المتحف . كان قد نسي أمر عبد القادر تمامًا طوال اليوم . عاد وطلبه بالاسم . دخل عليه عبد القادر وقد ظهر عليه الإعياء الشديد والقلق .
- أستاذ عبد القادر .. كل الدلائل تشير إلى أن هناك مَن استغل كل الثغرات الأمنية وكل التقصير والإهمال وسرق اللوحة . أغلب مَن تم استجوابهم اليوم يُعتبرون مُتهمين بالتقصير والإهمال إلا أنت .
- الحمد لله، ذلك خبر جيد جدًّا .. يا كرم الله .
- اصبر قليلًا .. هناك بين كل مَن حقَّقنا معه شخص واحد أو أشخاص تعاونوا مع اللص بشرح كل ذلك القصور . هناك مَن سرَّب له كل هذه المعلومات . هذا الشخص سيتم اتهامه بالسرقة وليس بالتقصير والإهمال .
- هل حضرتك تعتقد أنني أنا ذلك الشخص؟ لا يا افندم .. أنا لا أعرف أي شخص وليست لي علاقة بالسرقة تمامًا .. أنا مُقر بالتقصير والإهمال .
- دعني أكون مُحددًا معك .. عندما سألتك عن أموال الكاميرات وتعيين الحُراس أنكرتَ وقلتَ بالنص إنك كنت تستعد لتعيين شخصين . بينما أقوال مديرة المتحف والأوراق الرسمية المُوقَّعة منك تقول إنك بالفعل عَيَّنت شخصين . وللصدفة فهما أَخَوان وقد رفعتَ راتبهما وعيَّنْتَهما وهما أشارا في تحقيق رسمي أنكَ طلبت منهما عدم الحضور إلا بعد شهر رمضان !
- نعم، لقد حدث ذلك بالفعل . تم اختيار الحارسَيْن وقد طلبت أن يكون العمل بعد رمضان حيث إن المتحف لا يزوره أحد في رمضان .
- أستاذ عبد القادر، قبل أن تُراوغ مرة أخرى، الأخوان إسماعيل ومحمود عباس الحسيني هما ابنَا عم سعاد إبراهيم الحسيني، والتي تعمل سكرتيرة شخصية لك . ومع إنكارك وصول أية مبالغ لتغيير بطاريات الكاميرات، وجدنا أنك قمتَ بصرف مكافأة قدرها خمسة آلاف جنيه من أموال الوزارة لسعاد . يبدو لي أن هناك مَن استغلك أنت وسعاد وأقاربها للحصول على المعلومات .
هنا انهار عبد القادر، ولأول مرة قاطع وكيل النيابة مُعترفًا :
- حضرتك . أنا لا أعرف أي شيء عن سرقة اللوحة . سأعترف لك بكل شيء . سعاد الحسيني هي زوجتي الثانية، ولا أحد من عائلتي يعرف ذلك . وأولاد عمها شابان من خريجي الجامعة وليس لهما أي عمل . تلك هي الحقيقة . إهمال أو تقصير ممكن .. استغلال منصب ممكن .. ولكن سرقة .. مستحيل، لا يمكن أبدًا .