غادر آدم مبنى الكلية مشيًا على الأقدام كعادته . ظل ذهنه مشغولًا طوال الطريق، حتى أنه كاد يتعرض للدهس مرتين في الطريق . وصل لبيته وقفز السلالم في سرعة ورشاقة حتى وصل لعتبة بابه . أدار المفتاح وقبل أن يفتح الباب أحسَّ بمَن يدفعه نحو الباب بعُنف فجأة . قبل أن يلتفت سمع صوت «شريف المنشاوي » وكيل النائب العام : - أهلًا يا د . آدم، نحن في انتظارك منذ ساعتين .. يبدو أننا يجب أن نُعيد استجوابك مرة أخرى في ضوء آخر المُستجدات في القضية .
فجأة أحاط به رجال الداخلية وقيدوا حركته ودفعوه دفعًا نحو السلالم مرة أخرى، بينما وقف شكري مُتشفِّيًا بنظرات مُوجَّهة لآدم وكأنه يقول له : كنتُ أعلم أنك لصٌّ مُحتال . دفعه الجنود نحو سيارة ترحيلات تأخذه نحو المجهول !
- د . آدم .. آدم .. سأراسلها حالًا .. هل ما زلتَ تَسمعني؟ هل أنت بخير؟
التفت آدم فوجد نفسه ما زال واقفًا أمام د . سلوى في كامل حريته .. يبدو أنه بدأ يرى كوابيسَ اليقظة . للمرة الثانية استجمع شَتَات عقله وحاول أن يبدو هادئًا .
- أنا شاكر جدًّا لكِ يا دكتورة .. أراكَ غدًا إن شاء الله .
لم تكن المرة الأولى التي يرى فيها آدم هواجسَ كتلك . حدث نفس الأمر حين تُوفيت والدته . ظل وقتها يراها معه تُحدثه في كل أركان البيت . حدث هذا حين تركته حبيبتُه . وقتها قضى ساعات طوالًا يتحدث مع نفسه وهو يراها . وها هو الآن تُعاوده أحلامُ اليقظة، بل هي كوابيس اليقظة هذه المرة !
بسرعة خرج آدم من المكتب وعَبَر الطُّرقات نحوَ بيته . لم يصعد السلَّم، بل ظل يتجول حول المنزل باحثًا عن أي سيارة للترحيلات أو للشرطة فلم يجد . همَّ بإجراء مُكالمة هاتفية ولكنه تذكَّر أن هاتفه قد يكون مُراقبًا لأي سبب . اكتفى فقط بإرسال رسالة نصية قصيرة جدًّا ل «داريا » كتب فيها بالإنجليزية : «أرجو الإسراع بإرسال طلب العمل وشكرًا ».
عاد لبيته وأدارَ المِفتاح في الباب فسمع صوتًا من ورائه . التفت فجأة فوجد صبيًّا من الجيران ينزل على السلالم ركضًا . كاد قلب آدم أن يركُض خلف الصبي من شدة اضطرابه في تلك اللحظة . لم يفكر حتى في مداعبة قططه كما اعتاد أن يفعل معهم كل مرة . فقط دخل بيته وأغلق الباب سريعًا . آدم عاش أغلب حياته بالقاهرة . في يوم من الأيام كان بينه وبين القاهرة ألفُ خيط : أُسرته، تعليمه، أبوه، أُمه، أصدقاؤه، معارضه الفنية، عمله بالكلية، بيته . مع مرور السنوات ظلت تلك الخيوط تنقطع خيطًا خيطًا . فقد أباه ثم أمه . فقد معظم أصدقائه . فقد المجتمع احترامه وفهمه للفن . فقد مستقبله الوظيفي لاعتبارات ليس من بينها الكفاءة . أحس آدم في تلك اللحظة أن الخيط الأخير قد انقطع . بل إن هناك خيوطًا جديدة تكوَّنت وباتت تجذبه نحو عالم آخر جديد . عالم يتطلع أن يكون جزءًا منه، وبأسرع وقت .
حسَمَ آدم أمره وأخرج حقيبة ملابسه ، بدأ بإعدادها . جمع كلَّ ما استطاع من ذكريات . لم يهتم كثيرًا بالملابس . جمع صورَ ولوحات أمه . جمع ذكرياته وعمره في حقيبة كبيرة وبات ليلته وقد قرَّر أن تكون الأخيرة بالقاهرة . لم يستطع أن ينام . ظل يتصور أن هناك مَن قد يقتحم عليه بيته ليلًا . قضى ليلته في مكانه المفضل : يستمع لأم كلثوم وفيروز في شُرفة منزله مُتأمِّلًا شارعه الخالي ليلًا .
ما إن أشرقت الشمس حتى غادر آدم البيت متجهًا لأحد المقاهي القريبة من بيته . احتسى القهوة وطالع بعضَ الصحف اليومية بحثًا عن أي أخبار خاصة باللوحة المسروقة . في تمام التاسعة غادر المقهى نحو إحدى شركات السياحة المنتشرة بالزمالك، حيث بحث عن أي مقعد شاغر على أي طائرة مُتجهة لإيطاليا في نفس اليوم . ووجد ضالته في طائرة مصر للطيران المُتجهة إلى روما عصرًا . لم يفكر كثيرًا فاشترى التذكرة وأخفاها في ملابسه ثم مشى كعادته للكلية . كان قد اتخذ قراره بالسفر في جميع الأحوال . وصول الطلب والموافقة على إجازته كان السيناريو الأقرب لعقله، حيث ستُمَثِّل تلك الأوراقُ مُبرِّرًا جيدًا لمغادرة البلاد . أما عدم وصول الطلب فسوف يَضعه في مُربَّع الاتهام كونه هربَ فجأة .
وبالفعل ما إن رأى د . سلوى حتى أخبرته بوصول الطلب من «داريا ». استبشر آدم وطلب منها طباعة البريد الإلكتروني الذي حمل الطلب حتى يقدمه للدكتور عماد . طار بالأوراق لمكتب د . عماد وانتظره ساعة كاملة حتى عاد من إحدى المحاضرات . قدَّم له طلب الإجازة ومعها أوراق عمله ب «بينالي » البندقية .
- بالطبع هذه فرصة عظيمة لفنان مصري . وها هي موافقتي وتوقيعي على الإجازة . بالتوفيق يا آدم . إن شاء الله نُقيم لك حفلًا صغيرًا للوداع في الأسبوع القادم .
- لا داعي، أعتقد أنني سأسافر غدًا على الأكثر .
اعتدل د . عماد وظهرت عليه بوادر الريبة، في الوقت الذي تذكَّر فيه آدم جيدًا علاقة عماد بالأمن .
- ولِمَ العَجَلة؟
- أريد أن أقضي أسبوعًا أو اثنين إجازة في إيطاليا قبل أن أُباشر العمل .. أحتاج بشدة لهذه الإجازة .
- عمومًا بالتوفيق يا آدم . الكلية ستفتقدك بشدة حتى انتهاء الإجازة . آه .. ولا تنسنا في إيطاليا .. أرسل لنا دعوات «للبينالي » ، كم سيكون رائعًا أن ألقاكَ هناك وأرى عملكَ وتمثيلكَ المُشرِّف للكلية ولمصر .
- إن شاء الله .
قالها آدم عازمًا كل العزم من أعماق قلبه أن ينسى د . عماد تمامًا بعد خروجه من مكتبه . لم يكن يريد أن يُقابله بعد الآن ولو صدفة . مدَّ يده ليصافح عماد إلا أن الأخير هبَّ من مقعده الوثير واحتضن آدم كصديق يُودع صديق عمره . تعجب آدم من مُبالغة د . عماد في وداعه، أين كانت تلك المشاعر عندما كان يعترض على كل آرائه وأفكاره ويرسم الخطط في الظلام ليفوز بكرسي لا يَحقُّ له .
غادر آدم الكلية مَشيًا للمرة الأخيرة . ظل يُودع طريقه اليومي بعينيه اللتين احمرتا من دمعتَيْن كبيرتَيْن أبتا أن تنزلا بسهولة . ودَّع الشوارع، المقاهي، وباعةَ الصحف والمحلات . حتى الصخب والضجيج الذي لم يكن يتحمله من قبل أحسَّ بأنه سوف يفتقده . لأول مرة أزال السماعات من أذنيه وأوقف «بيتهوفن » وسمع مهرجانات الأغاني الشعبية المنبعثة من أحد المقاهي . سمعها سماع المُودِّع . وللمرة الأولى أحس بأنه سيفتقد كل هذا الضجيج وهذه النوعية من الأغنيات . لم يكن يعلم متى سيعود أو حتى إن كان سيعود يومًا أم لا .
في البيت ودَّع أركان بيته خاصةً مَرْسَمه . ودَّع ما ترك من لوحات . ودَّع ذكرياته مع أمه وهي ترسمه طفلًا . أغلق باب البيت وأغلق معه صندوقًا كبيرًا للذكريات . حتى القطط الصغيرة، وضع لها ما بقي عنده من طعامها وداعبها بعينٍ دامعة . لا شك لديه أن شكري سيقتل تلك القطط الضعيفة ويستولي علي الشقة . غالبًا ما سيحرق ما فيها من لوحات وأثاث . داعب آدم القطط مودعًا إياها مهرولاً نحو رحلته الطويلة . أوقف أول سيارة أجرة قاصدًا ميناء القاهرة الجوي .
في المطار جهَّز أوراق سفره كلها وأضاف لها أوراقَ طلبه للعمل في «بينالي » البندقية . انتظر في الطابور الخاص بطائرته حتى حان دوره . ناول الموظفة تذكرته وجواز السفر الخاص به . تطلَّعَت في الأوراق لبعض الوقت ثم باغتته : أنا آسفة لن تستطيع السفر .. أنتَ لا تملكُ تأشيرةَ دخولٍ للأراضي الأوروبية !
***
صباح اليوم التالي
الجمعة 17 سبتمبر 2010
تقلب «جارديني » في فراشه الوثير . كانت عقاربُ الساعة تتجاوز العاشرة صباحًا . كلما همَّ «جارديني » بالقيام غلَبته نوبة نُعاس جديدة . يبدو أنه أفرط في الشراب مرة أخرى في الليلة السابقة . عمومًا هو يَعي جيدًا عدم وجود أي ارتباطات أو مواعيد عمل يومها . ظل بين نُعاسه وخُموله حتى كاد قلبه أن ينخلع عندما سمع صوت باب حجرته ينفتح في عنف ثم صوت «ماركو » يُغني بصوت عالٍ أغنية عيد الميلاد :
- عيد ميلاد سعيد .. عيد ميلاد سعيد .. عيد ميلاد سعييييييد سنيور «جارديني ».. عيد ميلاد سعيد .
- كفى .. أهكذا تُوقِظ شخصًا يوم عيد ميلاده؟ لهذا السبب أنت وحيدٌ بلا زوجة أو صديقة !
- كل عام وأنت بخير سنيور «جارديني ».
بصعوبة شديدة اعتدل «جارديني » وقاوم رغبته في المزيد من النوم، فوجد «ماركو » ومعه هدية كبيرة . علبة كبيرة ملفوفة بنفس الألوان مثل هدية العام السابق .
- اليوم هو عيد ميلادك السادس والستون سنيور «جارديني » ، وقد أحضرت لك هدية عظيمة .
- «ماركو ».. «ماركو ».. أنت تقول نفس الكلام، وغالبًا هذه ماكينة قهوة كالتي أتيتَ لي بها في العام الماضي .
- لا سنيور «جارديني » ، هديتي لك هذا العام جديدة لم يسبق لي أبدًا أن أهديتها لأحد، ولكنكَ أبي الروحي .
- «ماركو ».. «ماركو ».. دَعْكَ من هذه المقدمات السخيفة وخُذ هديتك للمطبخ مثل كل عام .. واصنع لي فنجانًا من القهوة فأنا أحتاجه بشدة .
- اتفقنا .. سأذهب لأصنع القهوة وأنت استمتع بحمَّامكَ ثم افتح الهدية وقل لي رأيك بصراحة .
- لا داعي للخطط والفلسفة .. سأغتسل وأرجوك أريد قهوتي الساخنة فورًا .
- فقط عِدني إن لم تُعجبك الهدية أن تتمالك أعصابك وتُخبرني برأيكَ بمنتهى الصراحة .
- أتمالك أعصابي؟ لن أتمالك أعصابي لو أحضرتَ لي قهوة سيئة !
قام «جارديني » مُتثاقلًا للاغتسال . استمتع بحمَّام دافئ كان يحتاجه بالفعل . ارتدى «روب » الحمَّام وخرج يحلم بالقهوة الساخنة فلم يجد «ماركو ». نادى بأعلى صوته : - «ماركو ».. القهوة .. أين أنتَ أيها الأَبْلَه؟ !
لم يسمع أية إجابة . سمع فقط صمتًا ثقيلًا . مشى مُتثاقلًا نحو المطبخ فلم يجد أي أثر ل «ماركو ». يبدو أن أحدًا لم يستخدم ماكينة القهوة . تعجَّب «جارديني » ، أين ذهب «ماركو »! تلفَّت حوله فلم يجد أي شيء غريب . فجأة تذكَّر أن أضواء المطبخ كانت مُضاءة . قبل أن يُطفئ أنوار المطبخ وجد ورقة فوق مفتاح الإضاءة . كانت بخط «ماركو » وفيها كلمة واحدة : «الهدية »
تبًّا لهذه الهدية اللعينة . هكذا هتف «جارديني » لنفسه . لم يكن يُحب مثل هذه الألعاب . ظل يفكر .. لِمَ يلعب معه «ماركو » مثل هذه الألعاب الطفولية؟ عاد مُسرِعًا نحو الغرفة وهو يتذكر كلمات «ماركو ». ألهذا طلب منه أن يتمالك أعصابه؟
في الغرفة اتجه «جارديني » فورًا لهاتفه المحمول وهاتف «ماركو » الذي كان هاتفه مغلقًا . بسرعة وعصبية اتجه نحو علبة الهدية الضخمة . تعجَّب أولًا كيف لشخص في مثل سِنه أن يفتح علبة كبيرة مثل هذه . عندما لمس العلبة الكبيرة تحركت بسرعة شديدة وكادت تسقط من فوق المنضدة . تعجَّب «جارديني ». يبدو أن العلبة الكبيرة فارغة . بسرعة شديدة قطع الورق الملون الذي زيَّن الهدية وألقاه جانبًا وفتح العلبة الكبيرة فوجد فيها علبة صغيرة بحجم الكف .
بدأ «جارديني » يتوتر وهو يقطع الورق الملون من حول العلبة الصغيرة .
- «ماركو »… إن كنتَ تسمعني فتعالَ فورًا .. سأتمالك أعصابي .. لا أُحب مثل تلك الألعاب فأنا لستُ طفلًا في الكشافة .
وكالعادة، سمع صمتًا . فتح العلبة الصغيرة فوجد فيها ورقة مكتوبًا فيها : «سنيور (جارديني)، لقد وعدتني أن تتمالكَ أعصابك. هديتك عند (ماتا موا ).
صعقت الكلمات «جارديني »! تساءل عما يقصده «ماركو » أن الهدية عند «ماتا موا ». هل وضع الهدية عند اللوحة؟ كيف دخل «ماركو » الجاليري الخاص ب «جارديني ». المعرض الخاص مغلق بكلمة مرور سرية يكتبها عند الباب ولا يعلمها أحد غيره . هنا انطلق «جارديني » بسرعة شديدة نحو الجاليري الخاص به . عند الباب وجد الباب مغلقًا كأن شيئًا لم يكن . لم تكن هناك أية علامات لاقتحام المكان . جهاز الحاسب الرقمي الذي يُؤَمِّن المعرض في مكانه تمامًا ويبدو كأن أحدًا لم يلمسه . تلفت حوله خشية أن يكون «ماركو » هنا أو هناك، ثم كتب كلمة السر وأدار مقبض الباب فانفتح ببساطة .
أضاء أنوار متحفه الخاص . التكييف يعمل ودرجة الحرارة مثالية . كل شيء يبدو طبيعيًّا هنا . فكر للحظة، ماذا يقصد «ماركو » بأن هديته عند «ماتا موا » ؟ لا يمكن ل «ماركو » أن يكون قد دخل هنا . هل قصَدَ مكانًا آخر؟ هل في الأمر لغزٌ ما؟
لم ينتظر كثيرًا، تقدَّم فورًا نحو القاعة التي كانت تحتوي على رائعة «جوجان ». وما إن وصل هناك حتى شهق من المفاجأة . لقد عاد الإطار خاليًّا تمامًا كما كان قبل أيام، ولم يكن هناك أي أثر ل «ماتا موا » على الإطلاق !