في تلك الأثناء وقبل دقائق من الحادية عشرة من صباح الجمعة كان آدم جالسًا في أحد مقاعد الدرجة الثانية في القطار المُتجه من محطة روما الرئيسية «تيرميني » إلى محطة «سان لوتشيا » الرئيسية بالبندقية . دقائق قليلة بعدها يصل القطار للبندقية بعد رحلة معاناة طويلة لآدم .
في اليوم السابق كانت موظفة شركة «مصر للطيران » قد أوقفت آدم لعدم حصوله على تأشيرة «الشينجن » الخاصة بالدول الأوروبية . حاول آدم أن يُقنعها بأنه لا يحتاج للتأشيرة لأنه يحمل جواز سفر بريطاني؛ كون والدته إسكتلندية . وبالفعل كاد يُتمم إجراءات السفر ببساطة لولا وجود اختلاف بسيط بين اسمه الأخير في الجواز البريطاني واسمه الأخير في التذكرة . طلبت منه العودة لمكتب الشركة لتعديل الاسم على التذكرة ليوافق الاسم في الجواز البريطاني . ذَهِلَ آدم من الروتين وحاول بشتى الطرق تفادي العودة مرة أخرى ولكنه فشل . عاد آدم لمكتب الشركة في المطار فوجد طابورًا طويلًا من العُملاء . تََوَجب عليه انتظار دوره . بدأ القلق يساوره . موعد إقلاع الطائرة هو الثالثة عصرًا وهو الآن في الثانية والربع ولا يزال في الانتظار . حاول تخطي بعض العملاء وشرح مشكلته لكن أحدًا لم يُعْطِه الفرصة .
عندما وصل للموظف المُختص وبعد أن شرح له بسرعة الموضوع، رد عليه الموظف بكل هدوء :
- الموضوع بسيط للغاية .. مُجرد إلغاء التذكرة وإصدار واحدة جديدة .. لا تقلق .
- لكن الوقت ضيق !
- سأحتاج عشر دقائق فقط .. لا تقلق .
- لكن الطائرة ستُقلع بعد ربع ساعة !
- ربع ساعة .. دعني أتأكد .. بالفعل لقد أُغلقت البوابات .. ستُسافر في الطائرة التالية .. لا تقلق .
- وما هو موعد الطائرة التالية؟
- دعني أتأكد .. في العاشرة وعشر دقائق .. لا تقلق أبدًا .
- إنها فترة طويلة .. سأحتاج للانتظار في المطار لثماني ساعات .. هل هناك طائرة قبلها؟
- عفوًا، أنا أقصد العاشرة من صباح الغد .. هذه هي آخر طائرة مُتجهة إلى روما اليوم !
- هل أستطيع أن أطير إلى البندقية أو ميلان؟
- لا توجد طائرة للبندقية، وطائرة ميلان أيضًا غدًا .. سافر غدًا ولا تقلق .
- أتعرف؟ لقد أقلقتني .. سأُسافر اليوم ولو على أي طيران آخر .. أرجوك الغِ لي التذكرة ولا تقلق .
وبالفعل قام آدم بإلغاء الحجز والتوجُّه فورًا من صالة السفر رقم «3» بميناء القاهرة الجوي إلى صالة السفر رقم «1». هناك ذهب لإحدى شركات السياحة وأخبرها أنه فنان وعليه حضور معرض فني هام في صباح اليوم التالي بالبندقية . وبعد عملية بحث واسعة تم العثور على مقعد واحد شاغر بإحدى طائرات الخطوط الألمانية «لوفتهانزا » المتجهة لفرانكفورت . ومنها يطير ليلًا لروما ليصل في فجر اليوم التالي . لم يجد آدم مفرًّا من قبول الحجز . بعد ساعتين، وفي الخامسة مساءً أقلعت به الطائرة من مصر متجهةً إلى فرانكفورت . بعد أن تأكَّد آدم من إقلاع الطائرة أغلق عينيه ونام . نام نومًا طويلًا وعميقًا كما لم يفعل منذ زمن . حاول أن ينسى كلَّ ما حدث ويُفكر فقط فيما هو آتٍ !
لم يستيقظ آدم إلا عندما أيقظته المُضيفة الألمانية بعد هبوط الطائرة . لقد استغرقَت الرحلة المباشرة أربع ساعات ونصفًا، نامها آدم كلها تقريبًا . عندما استيقظ كانت الساعة في فرانكفورت تُشير إلى الثامنة والنصف من ليل الخميس . كانت أمامه ساعة ونصف فقط للانتقال للطائرة المتجهة ليلًا لروما . لم يفتح آدم هاتفه أبدًا . لم يكن أحد يعلم أين هو الآن . حتى «داريا » لم يخبرها . أراد أن يفاجئها بسرعة وصوله بعد إرسالها الأوراق اللازمة سريعًا .
استقلَّ آدم طائرة روما في العاشرة مساءً والتي أقلَّته للأراضي الإيطالية في ساعتين إلا الربع تمامًا . كانت الساعة قد تجاوزت منتصفَ الليل عند خروج آدم من مطار «ليوناردو دافنشي » الدولي بروما، والمعروف أيضا باسم «فيوميتشينو ». أوقف آدم إحدى سيارات الأجرة وطلب من السائق التوجُّه لمحطة «تيرميني » الرئيسية للقطارات بروما . توجَّه السائق دون أي تعليق . طوال الطريق ظل آدم يتأمل الشوارع المبتلة بفعل المطر مستمتعًا في ذات الوقت ببعض مقطوعات الموسيقى الكلاسيكية الهادئة التي انطلقت من المذياع بصوت منخفض . قفزت صورة سائق الأجرة المصري في وجه آدم وهو يتراقص على موسيقى الأغنيات الشعبية . المقارنة لم تكن بالطبع في صالح السائق المصري؛ مما أعطى آدم شعورًا عامًّا بالاسترخاء والهدوء . لعله في هذه البلاد يجد ما فقده في وطنه !
مع وصول آدم للمحطة وجدها مُغلقة تمامًا ووجد نفسه وحيدًا واشتد المطر . أقلع القطار الأخير قبل وصوله بفترة طويلة . عليه الانتظار لأول قطار في الصباح . سأل عن أي فندق قريب . دلَّه صبيٌ هناك على شارع قريب مليء بالفنادق الصغيرة الرخيصة . تذكَّر بنسيونات وسط البلد القريبة من محطة رمسيس . جرى آدم مع الصبي في الطرقات المُمطرة وآدم يَجُر حقائبه خلفه . بسرعة شديدة وجد حُجرة في فندق صغير هناك . دفع ثمن قضاء الليلة واستطاع أيضًا بمساعدة موظف الاستقبال بالفندق أن يحجز تذكرة في أول قطار في الصباح يُغادر روما في السابعة صباحًا إلى البندقية .
كانت حجرة الفندق صغيرة ونظيفة، غير أنها كانت غير مُكيفة . فتح آدم الشباك ففوجئ بالضوضاء مع أصوات المطر الشديد . كما أن الماء بدأ يتسلل للحجرة . أغلق الشباك مرة أخرى . اغتسل آدم ثم نام .
في الصباح أيقظه موظف الفندق في السادسة حسب الاتفاق حيث جمع حقائبه واتجه للمحطة . كانت الحركة كثيرة في المحطة وحولها . آلاف المواطنين والسائحين والمُسافرين تجمَّعوا معًا في نقطة واحدة على الخريطة لينتشروا بعدها بعدة ساعات في عشرات المدن، بل والدول أيضًا . كانت رائحة القهوة الإيطالية تفوح في أرجاء المحطة بالكامل . تناول آدم قدحًا من القهوة واتجه يبحث عن الرصيف الذي سيستقلُّ منه قِطاره .
وها هو القطار قد شق طريقه عبر الأراضي الخضراء من روما إلى البندقية بعد رحلة صعبة لآدم . كانت مشاعره متضاربة جدًّا . كلما تذكَّر القاهرة والكلية والمتحف والتحقيقات واحتجازه بقسم الشرطة، أغمض عينيه وحاول طيَّ الصفحة بالكامل والاستبشار بما هو آتٍ .
قطع القطار الطريق في ثلاث ساعات وخمس وأربعين دقيقة بالتمام والكمال . قضى آدم معظمها في تأمُّل الأراضي الخضراء والاستماع ل «باخ » و «موزارت » و «شوبان » و «بيتهوفن ». عندما توقف القطار في محطة «سان لوتشيا » بدأ قلب آدم يخفق بشدة . خرج بسرعة من المحطة واتجه لشباك تذاكر الأتوبيس المائي واشترى تذكرة صالحة لمدة أسبوع . سأل الموظف عن العنوان . المقر الرئيسي ل «بينالي » البندقية بقصر «جوستنيان » بمنطقة «سان ماركو » بالبندقية .
استغرقت رحلة الأتوبيس المائي ما يزيد على الساعة . وصل للقصر في منتصف النهار تقريبًا . كانت هناك محطة للأتوبيس المائي أمام مقر ال «بينالي » مباشرةً.كان الجو مُشمِسًا جميلًا والطبيعة المائية للبندقية كانت ساحرة كعادتها . ارتفعت أصوات دقات قلب آدم كالطبول وهو يتقدم ناحية المبنى الأثري العتيق . سأل في الاستقبال عن «داريا لوتشي » وترك جوازَ سفره مع الأمن .
اصطحبته موظفة الاستقبال الحسناء نحو مصعد القصر . القصر يتكون من ثلاثة أدوار فوق الدور الأرضي . مكتب «داريا » كان في الدور الثاني . المصعد قديم ويشبه إلى حد كبير المصاعد القديمة في القاهرة خاصة في منطقة وسط البلد . بل إن ذلك المصعد تحديدًا ذكّره بمصعد بيته بالزمالك مع أن الأخير كان نادرًا ما يعمل أصلاً . ارتفعت دقات قلب آدم لمستوى قياسي . صار كبطل أوليمبي في سباق المائة متر عَدْوًا . كلما سار نحو حجرة «داريا » زاد اضطرابه . وصل للحجرة . أدخلته الموظفة . لم تكن «داريا » بالداخل . اعتذرت له الموظفة لتعود .
- سنيور آدم .. أرجوك أن تستريح قليلًا، وأنا سأبحث عن «داريا » فورًا .. دقائق وتكون معك .
أغلقت المُوظفة بابَ الحجرة وتركت آدم وحيدًا مع دقات قلبه المتسارعة . وضع حقائبه جانبًا ثم استلقى فوق أقرب مقعد . كانت الرحلة طويلة . لم يتوقف قلبه بل ازداد الدم تدفقًا في عروقه . وقف مرة أخرى وراح يتأمل المكتب الواسع الجميل . فجأة وقعت عيناه على لوحة مُعلقة على الجدار خلف مكتب «داريا ». تقدَّم آدم نحو اللوحة وهو يُحَدق بها .
كانت لوحةً يعرفها جيدًا .
تلك اللوحة لذلك الميدان الواسع الذي يتوسطه بُرج قديم كتلك الأبراج التي كانت تحمل أجراسَ الكنائس . البرج يشق السماء الممتلئة بسحب وغيوم أضافت رهبة كبيرة للمشهد . بينما امتلأ الميدان الواسع بالبشر .
لوحة يعرفها آدم جيدًا ولن ينساها أبدًا !
بينما هو ينظر للوحة لم يشعر بباب الحُجرة يُفْتَح بسرعة . أفاق من ذهوله وأفكاره على صوت يعرفه جيدًا يأتيه من خلفه تمامًا بالإنجليزية وبنفس اللُكنة الإيطالية المميزة :
- أعتقد أنكَ تبحث عني !