لم ينتظر «جارديني » حتى الواحدة . ارتدى ملابسه بسرعة شديدة وخرج قاصدًا مقهاه المفضل . لقد وعد «ماركو » بأن يتمالك أعصابه ولكنه لا يستطيع . في مثل سِنه فهو يحتاج لنصف ساعة في المتوسط ليصل للمقهى، ولكن مع شدة توتره وغضبه فقد وصل في ربع ساعة فقط . نظر حوله في الميدان الفسيح فلم يجد أثرًا ل «ماركو ». لو رآه في تلك اللحظة لفتك به فتكًا وأمام أعين المئات من مُرتادي الميدان والمقاهي المنتشرة فيه .
أقبَل مُدير المقهى مُرحِّبًا ب «جارديني » الذي ظل واقفًا في توتر واضح : - سنيور «جارديني » ، صباح الخير . صباح الخير . سنيور «جارديني »! هل أُعِدُّ لك الإفطار المُعتاد؟
- لا .. أريد فقط قدحًا من الاسبرسو، كم الساعة الآن؟
- الثانية عشرة والنصف سنيور «جارديني ».
جلس «جارديني » وقد ظهر على وجهه التوتر الواضح . ظل ينقل بصره حوله في كل اتجاه . حاول مرارًا أن يُهاتف «ماركو » عبر هاتفه المحمول، لكن هاتف الأخير ظل مُغلَقًا . عندما جاءه النادل بقدح الاسبرسو تجرَّعه كله في جرعة واحدة بمنتهى العصبية . راح ينظر للساعة الكبيرة في برج الجرس ثم ينظر لساعته . ظل على هذه الحالة حتى تحول عقرب الدقائق في ساعة الميدان ليشير إلى عشر دقائق قبل الواحدة . في نفس اللحظة وقبل أن ينظر «جارديني » في أي اتجاه فُوجِئ بمَن يربت على كتفه من خلفه . التفت بعصبية فوجد «ماركو ». همَّ «جارديني » بِنَعْتِه بأفظع الشتائم والسِّبَاب إلا أن «ماركو » باغته قبل أن يفتح فمه : - أبي «جارديني ».. أرجوكَ لحظة واحدة، قبل أن تَسُبَّني اسمعني .
ظهرت علامات السخط والغضب الشديدَيْن على «جارديني » الذي أشاح بوجهه عن وجه «ماركو » ، وقام واقفًا في عصبية :
- أولًا، ها هي «ماتا موا ».
قالها وهو يناوله علبة أسطوانية كتلك التي تُستخدم في حفظ اللوحات . التقطها «جارديني » بعصبية شديدة و قبض عليها بيديه .
- ثانيًا، أنا لستُ بالغباء الذي تظن لأخونَ أبي وأسرقه . أنت بالفعل أبي وأنا أُحبك ولا أستطيع أن أؤذيكَ ولا للحظة واحدة .
- فلِمَ فعلتَ ذلك إذًا؟ (وقد زال توتره قليلًا ).
- أبي «جارديني ».. منذ متى وأنا أعمل معك؟
- أرجوكَ أجبني لِمَ فعلتَ ذلك؟
- سأُجيبك عن كل شيء . «جارديني » ، «جارديني ».. ذكِّرني منذ متى أعمل معك؟
- «ماركو »…
- «جارديني » ، أرجوك أجبني مرة واحدة فقط .
- منذ ما يقرب من عشرة أعوام «ماركو ».
- لا، اليوم أكملتُ معكَ عشرة أعوام بالفعل، لو فرضنا أن هناك شيئًا واحدًا فقط تعلمته جيدًا منك في تلك الأعوام العشرة، أتعلمُ ما هو هذا الشيء؟
ظهر على وجه «جارديني » الملل والغضب ولم يُجب .. فأكمل «ماركو »: - أن هذا الفرض خاطئ، لقد تعلمت منك الكثير يا أبي، أنا أَدِينُ لك بكل شيء . تعلمت منكَ أنه لا يوجد مكان في العالم غير قابل للاختراق، كل مكان وله طريقة . تعلمتُ منكَ التفاصيل سنيور «جارديني ».. التفاصيل . تعلمتُ منكَ أن أعتمد على عقلي أنا وليس على عقل أي شخص آخر . تعلمتُ منكَ أنه لا يوجد في عملنا مجال للعواطف ولكني استثنيتكَ أنت، فأنت أبي وأنا أحببتك . تعلمتُ ألا أتعجَّل الأشياء، ولذلك صبرتُ حتى حانت لي اللحظة المناسبة لأقول لكَ إنني جاهز . كنتُ أراكَ تَدْخُل معرضك عشرات المرات، راقبتكَ لثوانٍ قليلة كل مرة، بعد سنوات من السهل عليَّ أن أعرف كلماتك السرية وأسلوب تأمين المكان كله . لقد تعلمتُ من الأفضل .. تعلمتُ منك .
- سكت «جارديني » تمامًا وقد ظهرت عليه علامات التأثر فاحتضن «ماركو » بحنان الأب .
- هل تعلمُ ماذا تعلمتُ منكَ أيضًا؟
- ماذا؟
- تعلمتُ فن اختيار الهدية . ألم أقل لكَ إن هديتكَ مع «ماتا موا » ؟ أنا هديتك . سأكون من الآن يدك اليُمنى واليُسرى سنيور «جارديني ». سنظل نعمل معًا كفريق .. فقط أردتُ أن أقول لك إنه حان الوقت لتعتمد عليَّ وتثقَ فيَّ .
لم يُعلق «جارديني » الذي بدا مُتأثرًا بشدة من كلام «ماركو » الرقيق . لقد أيقن لحظتها أن ابنه قد كبر أخيرًا وعليه أن يثق به فعلًا . فجأة بدأ «جارديني » يعود للعالم حوله . لاحظ فجأة أن «مقهى فلوريان » يكاد يخلو من مُرتادي المقهى وحتى من العاملين . الفرقة الموسيقية لم تكن تعمل . و «ماركو » كان يرتدي حلة أنيقة للغاية ولا تتناسب مع الوقت ولا المكان . قبل أن يسأل «جارديني » «ماركو » عن أي شيء دقَّت أجراس كاتدرائية «سان ماركو » من أعلى برج الساعة معلنةً الواحدة ظهرًا . صَمْت كبير ورهبة ملأتا الميدان . أجراس الكاتدرائية مُصمَّمة على هيئة تمثالين من البرونز، أحدهما شاب والآخر عجوز ليرمزا للزمن . كل ساعة يَطرُق أحدهما الجرس الكبير بمِطرقة ليُعلن عن مرور ساعة . يعود تاريخ ذلك البرج والتماثيل للقرن الخامس عشر .
بعد لحظةِ السكون التي اكتسى بها الميدان . فجأة وقفت الفرقة الموسيقية الأوركسترالية بكامل هيئتها وبدأت تعزف لحن عيد الميلاد ل «جارديني » الذي فُوجئ . خرج كل العاملين ب «مقهى فلوريان » وهم يُصفقون ل «جارديني » ومعهم كعكة كبيرة من الشوكولاتة الداكنة التي يعشقها . في نفس اللحظة بدأ توافد أصدقاء «جارديني » الذين دعاهم «ماركو » لحفل عيد ميلاد «جارديني » السادس والستين . ظل الجميع يصفق بينما دمعت عينا «جارديني » من التأثر . كان يصافح الجميع ويُقبِّلهم ويحتضنهم وهو قابض بيده على «ماتا موا ». مال عليه «ماركو » وهمس في أذنه : - «جارديني ».. اترُك الأسطوانة التي في يدك وسلِّم على الناس ولا تخف . هل ستقضي الحفلة كلها وأنت ممسكٌ بها هكذا؟ !
- وهل سأترك لوحة تساوي الملايين مثل هذه في الميدان ببساطة؟ !
- أي لوحة؟ ما في يدكَ أسطوانة فارغة .. اللوحة أعدتها مكانها قبل أن آتي إليك !
- يا لكَ من وغد !
ابتسم «ماركو » وهو يُحيي الضيوف . وألقى «جارديني » الأسطوانة جانبًا .
في تلك اللحظات كان آدم و «داريا » يمشيان بين أزقة وحارات البندقية الجميلة عابرَيْن بعض كباري المُشاة حتى وصلا لميدان «سان ماركو » الواسع . وهنا رأى آدم البرج . نفس البرج الذي رآه في لوحة «داريا ».
- هذا هو إذًا .. ها هو الميدان وها هو البرج .. لوحتك !
- بالطبع، هذا الميدان شهير للغاية، كيف لفنان مثلكَ ألا يأتي إلى البندقية من قبل؟
- الآن فهمتُ لماذا جذبَتني لوحتكِ الكبيرة في المعرض بدبي . يا لَهُ من ميدان رائع .
- والآن هيا بنا إلى «مقهى فلوريان » في وسط الميدان .
قالتها ووضعت له ذراعها فتأبطها واقتربا من المقهى حيث وجدا في استقبالهما «جارديني » و «ماركو ». احتضن آدم كليهما وسلَّم عليهما بحرارة . أخبرتهما «داريا » أن آدم سيبدأ العمل من اليوم في «بينالي » البندقية الدولي . هنَّأ «ماركو » و «جارديني » آدم وجلسوا جميعًا حول مائدة كبيرة . دارت بينهم أحاديث كثيرة لم يكن من بينها أي شيء له علاقة بلوحة القاهرة المسروقة . وكأن كلًّا منهم آثر أن يترك الأمر وراء ظهره كأنه لم يكن . كانت الفرقة الموسيقية تعزف المعزوفات المُفضلة ل «جارديني ». ظل «جارديني » يضحك كالأطفال كلما عزفت الفرقة إحدى القِطَع الموسيقية المُفضلة لديه . وظل يختبر أصدقاءه عن أسماء القِطَع وتاريخها ومؤلفيها . معظم المقطوعات كانت شهيرة والجميع يعرفها . حتى عزفت الفرقة موسيقى عذبة شهيرة : - أيكم يعرف هذه المقطوعة؟
أشار آدم بثقة وفخر :
- هذه مقطوعة «تانجو » ، شهيرة جدًّا . رقص عليها «آل باتشينو » رقصته الشهيرة في الفيلم العظيم «رائحة امرأة » ، والتي نال عن دوره فيه جائزة الأوسكار أفضل مُمثل .
- نعم، بالطبع، ولكن ما هي هذه المقطوعة؟ مَن وراءها؟ مَن ألَّفها؟
- هنا صمت الجميع وراح ينظر بعضهم لبعض فتشجع آدم وقال بثقة : «بور أونا كابيزا » ، بالإسبانية تعني «بفارق رأس ». وهي أغنية تانجو إسبانية لحَّنها وغنَّاها «كارلوس جارديل » عام 1935 ، وهي من أشهر أعماله . من سُخرية القَدَر أن «جارديل » تُوفي في حادث طائرة في العام نفسه . ورغم روعة الكلمات إلا أن هذه الموسيقى عاشت لعقود طويلة بعد وفاة «جارديل ». هذه الأغنية تُمثل الكثير بالنسبة لي .
نظر الجميعُ لآدم بانبهار شديد . سأله «جارديني »: - كيف عرفتَ كلَّ هذا؟ هل أنتَ رسَّام أم موسيقار؟
- أنا فنان .. هي كلها قصة واحدة .. دائرة واحدة : أستمع لموسيقى رائعة عَذْبَة تُعبر عما أشعر به، أحمل فُرشاتي وأغمسها في الألوان وأرسم هذه الموسيقى .. ثم يأتي كاتب ينقل مشاعره عندما يرى اللوحة في كلمات جميلة مؤثرة .. توحي هذه الكلمات لفنان آخر بقصة أو فيلم أو قصيدة أو قطعة موسيقية أخرى . وهكذا ندور كلنا في نفس الدائرة، تلك الدائرة التي إن فقدناها ماتت مشاعرنا ببطء وتحولنا لحيوانات تأكل وتشرب وتتزاوج وتنام . حيوانات لا تعرف الرحمة، تتقاتل فيما بينها من أجل لا شيء . أما عن نفسي فقد قررت أن أبقى داخل هذه الدائرة . أعيش فيها وأموت فيها .
تبسم «جارديني » وجذب آدم برفق واقترب منه هامسًا :
- ألا تخافُ أن تقتلكَ تلكَ الدائرة كما فتكت بالعشرات من الفنانين من قبل، مثل «فان جوخ » و «جوجان » ؟
- «فان جوخ » للأسف عاش في مُجتمع لم يفهمه أو يُقدّره، عاش في تلك الدائرة وحده تمامًا فلم يحتمل فانتحر . أما «جوجان » ، فقد ترك عمله وأسرته واختار حريته . أغلب الناس اعتبروا تَرْكَ أُسرته وعمله والاتجاه للفن دربًا من الجُنون، لكنه كان يَهرب «إلى » هذه الدائرة .
- ولكن «جوجان » مات حزينًا وحيدًا في بلاد بعيدة …
- أعتقد أنه أصبح أسعد هناك . سأدلل لك على هذا . أنا أعلم منذ كنا في المتحف كم تحب «جوجان » ، دعني أسألك سؤالاً واحدًا : لقد عاش هذا الفنان العظيم متنقلاً بين مدنٍ كثيرة في أوروبا وجزر كثيرة في أمريكا اللاتينية، أين أبدع «جوجان » أعظم أعماله الخالدة؟
تأنى «جارديني » قبل أن يجيب مع أنه يعرف الإجابة بلا أدنى شك . صمت للحظة ليستوعب ما يعنيه آدم . بعد لحظة الصمت السريعة تلك تبسم «جارديني » مرة أخرى ثم أومأ برأسه موافقًا :
- بلا شك في «تاهيتي »!