(114)

أراد الأستاذ تحتمس دعوة وهيب دعوة معتبرة بمناسبة الحفل الذى نجح فى ترتيبه والرزق الوفير الذى غمره منه، يوم منعش من أيام الخريف، اتفق الأستاذ تحتمس مع وهيب على اللقاء ببار زينة بسليمان باشا، بعد أن ينهى محاضراته بالكلية، كان وهيب قد نجح فى امتحانات السنة الأولى بكلية الهندسة وانتقل إلى السنة الثانية، أبلغة الأستاذ تحتمس أنه سيعرفه على صديق له، يعمل كمهندس استشارى شهير وعائد منذ فترة وجيزة من السعودية ليقيم بمصر، بعد أن مل الغربة. اتفقا على اللقاء الساعة الواحدة ظهرًا، بعد أن ينهى وهيب محاضراته فى الثانية عشرة.

دخل وهيب إلى بار زينة قبل الواحدة بقليل، كان الأستاذ تحتمس قد وصل قبله وجلس إلى البار فى انتظاره هو وصديقه على بك ذهنى، فى تمام الواحدة دخل على بك ذهنى إلى البار ومعه شابة جذابة تصغره فى السن. بش الأستاذ تحتمس لمقدمه ونهض لتحيته وتقبيله بحرارة، بدا واضحًا لوهيب، أن الأستاذ تحتمس يعرف الشابة المصاحبة لعلى بك ذهنى عندما حياها ببشاشة قائلاً:

- أهلاً يا جليلة، مفاجأة جميلة.

ابتسمت جليلة بود ظاهر وهى ترد التحية قائلة:

- جئت لرؤيتك عندما عرفت أن على سيقابلك اليوم.

على بك ذهنى رجل أنيق، طويل القامة وممتلئ قليلاً، يعطيك الانطباع بأنه خارج لتوه من تحت الدُّش، تنبعث منه رائحة عطر أخاذ ويضع منديلاً فى جيب الجاكته العلوى، على وجه العموم، تستطيع أن تقول إنه أرستقراطى الطلعة، له صوت واثق جهير يوحى بالعظمة، يتمتع بحضور واضح، تشعر بالفخر بأنك تعرفه وتصادقه ويبدو متمكنًا من الحياة وفنونها.

قدم الأستاذ تحتمس وهيب إليه قائلاً:

الباشمهندس وهيب، ابن أختى وطالب فى كلية الهندسة.

قال على بك ذهنى بترحاب:

- أهلاً الباشمهندس، تشرفنا، أى قسم يا ترى؟

أجابه وهيب بزهو من ينتمى إلى نفس القبيلة:

- قسم ميكانيكا، ثانية ميكانيكا.

قدم على بك ذهنى نفسه له أيضًا قائلاً:

- أنا مهندس معمارى، «أرشيتكت» سافرت بعد التخرج بفترة وجيزة للعمل بالخارج، أسست بعدها مكتبًا استشاريًّا بالسعودية.

كان من الواضح أنه متيسر الحال وأبًا عن جد، يبدو ذلك واضحًا من مظهره وشياكة تصرفاته.

طلب الأستاذ تحتمس زجاجة ويسكى تحية لعلى بك ذهنى، الأستاذ تحتمس شديد الاعتداد بنفسه ويحب أن يكون على نفس مستوى الآخرين، طبعًا فى حالة تمكنه من ذلك، على بك ذهنى رجل متيسر ويمكن أن ينفق باقتدار، فلا يقابله الأستاذ تحتمس إلا إذا أيقن أنه يستطيع أن ينفق باقتدار مماثل أو يزيد.

أمر الأستاذ تحتمس أيضًا سلطان البارمان بأن يتصرف فى طبق من اللحم البارد، قالت جليلة بأنها تشتهى أن تأكل شيكولاتة.

نظر الأستاذ تحتمس إلى سلطان وقال له:

- أرسل أحدًا لشراء كيلو شيكولاتة من جروبى.

تقارعت الكئوس وتناثرت الضحكات والقفشات... الشيكولاتة جميلة... ثلج يا سلطان... طبق لحم آخر... كيف حال ويسكي؟... جليلة كانت تريد أن تحضره معنا... ليتها أحضرته...

قال الأستاذ تحتمس:

- عندما كنت أزوركم أول أمس، لم يشأ أن يتركنى أرحل بسهولة.

علقت جليلة:

- ويسكى يحبك جدًّا يا أستاذ تحتمس.

اتجه الأستاذ تحتمس إلى وهيب مفسرًا:

- ويسكى هذا هو كلب على بك ذهنى. أجمل كلب رأيته فى حياتى، لونه عجيب، لون المشمش ومرقط باللون البنى.

سأل وهيب وقد بدأت الخمر تلعب برأسه:

- ما نوعه؟

أجابه على بك ذهنى:

- بوينتر ألمانى. من سلالة خاصة ضخمة الحجم.

تتابعت الكئوس والضحكات حتى فرغت زجاجة الويسكى.

قال على بك ذهنى:

- ما رأيكم فى الانتقال إلى مكان آخر. لنذهب إلى بار كارول.

رحب الجميع بالفكرة. حاول على بك ذهنى دفع الحساب لكن الأستاذ تحتمس كان حاسمًا فى هذا الموضوع ورفض بإصرار. دفع الأستاذ تحتمس الحساب ونفح سلطان بقشيشًا محترمًا، غادر الجميع بار زينة، انحرفوا يمينًا فى اتجاه ميدان سليمان باشا ثم عبروا جروبى إلى شارع قصر النيل. دخلوا إلى مطعم وبار كارول. لم يكن الأستاذ تحتمس من رواده ولكن بدا واضحًا أن على بك ذهنى معتاد على ارتياد المكان من ترحيب الجارسونات والبارمان.

جلسوا جميعًا إلى البار. طلب على بك ذهنى زجاجة ويسكى «أولد بار» أحضر لهم البارمان زجاجة عسلية اللون ومكعبة الشكل، لا تشبه زجاجات الويسكى الأخرى ذات الشكل الأسطوانى أو زجاجة «الجونى ووكر» المربعة أيضًا ولكن فى طول منسرح كبقية الزجاجات. تعجب وهيب لشكلها لكنه أعجبه وتمنى أن يأخذها معه بعد أن تفرغ.

امتدت الجلسة مدة أطول من جلسة بار زينة. مع نهاية الزجاجة، كان الجميع فى حالة عالية من السلطنة، تمنى وهيب أن تقع جليلة فى حبه. أخذ يسترق النظرات إليها من آن لآخر وهو يتحسر. صدمه أنها لا تنظر إليه ولا مرة واحدة، تمنى لو كانت له صديقة تشبهها، سمراء ورشيقة ولها جاذبيتها، ينفلت عيارها بعد الشرب فتستسلم لأحضانه، ثقلت رأس وهيب، وأخذت الخيالات تتراءى له. كاد ينعس من الإفراط فى الشراب، نهض ودخل الحمام وهو يتخبط، غسل وجهه بالماء البارد، عاد إليهم وقد انتهت الزجاجة فحمد الله على ذلك. كان الأستاذ تحتمس يقسم مائه يمين بأنه لابد أن يدفع الحساب، قال لهم اليوم عندى أنا، نظر على بك ذهنى إلى البارمان وقال له «آمبو سيبل».

كان النعاس يعصف بوهيب. فوجئ بأنهم اتفقوا على الذهاب إلى منزل على بك ذهنى بشارع سليمان باشا لرؤية ويسكى. الأستاذ تحتمس هاجه الشوق للوليتا فأراد أن يرى ويسكى، يا دى المصيبة، كيف سأصمد أكثر من ذلك، قالها وهيب لنفسه وهو يتبعهم صاغرًا.

تحرك الركب فى اتجاه ميدان سليمان باشا مرة أخرى، ثم يمينًا إلى شارع سليمان باشا حيث يسكن على بك ذهنى فى أحدث العمائر الكلاسيكية المهيبة، دلف على بك ذهنى من الباب، تتبعه جليلة، ثم الأستاذ تحتمس، وفى المؤخرة وهيب، وهو يحاول الاحتفاظ بعينيه مفتوحتين بعناء شديد، استقلوا الأسانسير على أصوات ترحيب البواب النوبى وهو يغلق باب الأسانسير وراءهم. صعدوا جميعًا إلى أحد الطوابق التى لم يميزها أحد من الضيفين، هل هو الطابق الثانى أم الثالث أو الرابع، والله أعلم. الأستاذ تحتمس زارهم بالبيت مرة واحدة منذ يومين، لكنه كان بصحبة على بك ذهنى بعد سكرة ببار الجراند هوتيل.

فتح الباب فأطل وحش بديع، ويسكى، كلب ضخم ذو ألوان عجيبة مبهرة . قفز على على بك ذهنى أولاً، ثم على الأستاذ تحتمس فجليلة، توجه بعدها إلى وهيب وقفز عليه مرحبًا، استند بذراعيه إلى صدره وهو يلعق كفه فكاد يقع من فرط ثقله وقلة اتزانه.

جلس الأستاذ تحتمس على الأرضية فوق سجادة فخمة وأخذ يداعب ويسكى ويتحدث إليه أحاديث وجد وهوى، كان من الواضح اعتياد ويسكى على الأستاذ تحتمس، لم يتصور وهيب أن العلاقة بين خاله وبين على بك ذهنى وطيدة بهذا القدر، كان يسمع عنه من الأستاذ تحتمس أحيانًا لكنه لم يتخيل حميمة العلاقة إلى هذا الحد . كان يرد فى أحاديث الأستاذ تحتمس ذكره عابرًا، كأن يقول مثلاً، قابلت على بك ذهنى مصادفة، أو سهرت مع على بك ذهنى فى الأوبرج. عبارات سريعة لم تكن ذات دلالة على حميمية هذه الصداقة التى تتوجت بالمشهد التالى.

الأستاذ تحتمس يقول لويسكى:

- ما رأيك يا ويسكى، هل تحب أن تجىء معي؟

ترد جليلة:

- وما المانع يمكن أن يبيت معك اليوم.

يبدو أنها تريد أن تتخلص منه الليلة، ليتفرغ لها على بك ذهنى، هذا ما جاء ببال وهيب.

نهض الأستاذ تحتمس فجأة وقال:

هيا يا ويسكى.. ستأتى معى.. أين السلسلة؟

أشار على بك ذهنى إلى جليلة قائلاً:

أحضرى السلسلة يا جليلة.

«يانهار أسود».. قالها وهيب فى سره.. «ويسكى فى بيتنا، وأنا وخالى عائدان فى هذه الحالة من السكر»

حاول أن يثنى خاله الأستاذ تحتمس عن عزمه ولكن دون جدوى، كان قد استبد به السكر والوجد.

ربط الأستاذ تحتمس الطوق حول عنق ويسكى وهو يتذكر لوليتا ويغالب دموعه . اتجه ناحية باب الشقة يتبعه وهيب مترنحًا، فتح الباب فانطلق ويسكى جامحًا يهبط الدرج وخلفه الأستاذ تحتمس ممسكًا بطرف السلسلة وهو يحفظ توازنه بصعوبة شديدة.

خرجوا جميعًا إلى شارع سليمان باشا، الأستاذ تحتمس يسحبه ويسكى ووهيب يلهث خلفهما وهو يلعن حظه العاثر فى ذلك اليوم، لم يقوَ الأستاذ تحتمس على السير منتظمًا فى خط مستقيم، كان يترنح يمينًا ويسارًا ويكاد يرتطم بكل من يسير على الطوار والمارة يتباعدون إما تفاديًا من الاصطدام بالأستاذ تحتمس أو رعبًا من ويسكى، عاونه وهيب فى جذب السلسلة حتى يتوقف ويسكى عن الانطلاق، وقفا يلهثان، بعد أن تحكَّما أخيرًا فى ويسكى بصعوبة بالغة. أشار الأستاذ تحتمس إلى تاكسى فرفض أن يسمح بركوب ويسكى، لحسن الحظ وافق سائق تاكسى عجوز على ركوب ويسكى أخيرًا، ركبوا جميعًا التاكسى ولم يبلغ أحد السائق عن الوجهة التى يقصدونها، سألهم السائق:

- إلى أين؟

ركز الأستاذ تحتمس تفكيره محاولاً أن يتذكر إلى أين بالضبط، قال بلسان ملتوٍ:

- اطلع بنا على جزيرة بدران، شبرا.

توقف وهيب عن التفكير فى العواقب. هو وخاله فى حالة سكر شديد ومعهما ضيف ظريف، ويسكى.. يحدث ما يحدث.

وقف التاكسى أمام البيت. دفع الأستاذ تحتمس أجرة التاكسى وأجزل للسائق العطاء، سحبه ويسكى بنشاط فتطوح الأستاذ تحتمس خلفه، تبعهما وهيب وهو شبه غائب عن الوعى، أخذ ويسكى ينبح نباحًا عاليًا قويًّا نبه الكثيرين من الجيران ففتحوا الأبواب، هالهم منظر الكلب وضخامته، وصلوا أخيرًا إلى الشقة. جاهد الأستاذ تحتمس ليخرج المفتاح من جيبه، لم يجد وهيب القوة ليبحث عن مفتاحه، فتح الأستاذ تحتمس الباب بصعوبة فاندفع ويسكى إلى الداخل وهو يسحب الأستاذ تحتمس خلفه. كانت الساعة قد جاوزت السابعة مساءً.

خرجت مارجريت من غرفتها منزعجة من نباح الكلب وهى لا تدرى ما الحكاية بالضبط.

فوجئت بالمنظر الذى شل تفكيرها وحركتها للوهلة الأولى.

استعادت جأشها فانفجرت هادرة:

- ألا يكفى المسخرة والسكر فتأتى لنا بكلب جديد فى البيت.

أجابها الأستاذ تحتمس برقة:

- هذا ويسكى. كلب جميل. ألا ترين لونه، كلب بوينتر ألمانى أصيل، ما رأيك ؟

صرخت مارجريت فى وجهه:

- هل تريدنى أن أجنّ؟... تفضل.. اذهب حيث جئت فورًا.

صاح فيها الأستاذ تحتمس، بينما يدلف وهيب إلى غرفته هروبًا من هذا المأزق:

- أنتِ لا تفهمين فى الكلاب.

استدار غاضبًا وهو يغادر الشقة هابطًا مرة أخرى ومعه ويسكى.