أين الصدق؟..أين البهتان؟

مدوا الأسوار ما بين البلدان والقرى، وابنوا المتاريس والكتل الخرسانية بطول الأرض وعرضها، وازرعوا الأسلاك الشائكة على جانبي الطرق، افعلوا ما يطيب لكم، لن يفصلنا عن العالم إلا الإيمان.. لن يرهبنا الموت.. فالموت يسافر فينا كل لحظة، ويروح ويجيء، أحيانًا يموت الموت فينا ويغترب، يستوطن ويذوب، ويخرج مأسوفا ذليلا، نحن قوما نقهر الموت ونعشق الحياة..

مدوا الأسوار فكل يوم يخترق شهيد السور الواقي والدرع الحامي، وكل يوم تكتشفون أن الحياة بالنسبة لنا رغم عشقها رحلة قصيرة جدا، لا تحتمل أكثر من حزام ملفوف حولنا..

كل يوم نكشف ادعاءاتكم الكاذبة، ونفضحكم داخل حدودكم الخضراء والصفراء والزرقاء والسوداء، ونثبت أننا قادرون على أن نفاجئكم في أي وقت وأي مكان.. في الحانات والأسواق والسوبر ماركت، وملاهي الرقص ونوادي القمار.. سوف نتعقبكم حتى ولو رجعتم بطون أمهاتكم..

يحتضر الوطن في حضرة الصمت والسكوت والعجز المفتعل.. يحتضر الوطن وينزف بقاياه رجالا يقتاتون القوت من رسائل الإعانات العاجلة، وفتيات تمنين الستر في بيوت الأزواج.. وفتيان ما بين الطرقات يلهون ويعبثون بالأنقاض والأشلاء وبقايا البيت والجامع والمئذنة.

يحتضر الوطن ويموت بالسكتة العربية، يختنق المكان ويضيق، وتضيق معه مساحات السماحة والرجولة.. وتبتلع الكاسحات الجرارات يارات الزهور وأجنحة العصافير وتاريخ البطولة..

يحتضر الوطن، وفي احتضاره يكسر الصبر صخور الغرور والغطرسة والبربرية.. ويكتب على دفاتر التاريخ والجغرافيا والقراءة الرشيدة أن فلسطين لم تعد جنسية بل هي وسام وتاج على رؤوس الأحرار.

لم يبق سوى بعض من بعض من بعض الأشياء..وليس في الإمكان اسوأ مما كان.. نتساقط واحد تلو الآخر.. ويصير الحزن رفيق الدرب والماء والخبز.. يأنسنا ونأنسنه، نألفه ويألفنا.. وتبدو البيوت العامرة.. بيوت موتي وحطامًا.. وأناس ينتظرون فجر العيد.. لكن بين اللحظة والأخري يأتيهم ألف شهيد..

لحظات

وتقبل الأسماء

لحظات

وترحل الأسماء

فاسمعوني

ملء الزمان اسمعوني

لم تلدني أمي

ولم تبصروني

أنا ظلي

وأنتم الاستثناء

سميح القاسم

هل آن الأوان أن نحتفظ ببعض الذكريات الجميلة، نتسامر حولها ونتداولها، بعض من الذكريات الجميلة، وهل من المعقول أن تكون كل حكاوينا سوداء شاحبة مقطوعة الأنفاس.

لم يبق سوى الشعر! نحطم عليه قصور الوهم التي بنيانها في أزمنة التسكع والعبارات الطنانة، والخطب الحماسية والكلمات الرنانة، لم يبق سوى النواح والعديد والولوله.. والأجساد المعروضة في فاترينات الشهادة..

الليل طويل طويل.. أطول من دجلة ومن نهر النيل.. أطول من مأساة المطحونين ونظرات البؤس والحرمان.. فيا أيها الواقفون على عتبات الزمن ودواوين الشعراء، ونشرات الأخبار، ليس لديكم سوى النضال والنضال والنضال..

أيها المنفيون قسرا من قلب الوطن..العابرون من بين البوابات الإلكترونية إلى مدن الجليد والبرودة..تشتاق إليكم الشوارع والساحات وأفنية الدور. يا من تحملون هموم الوطن ووحشة الغربة وفقدان الأهل..

يا من تقرؤون الكتاب من الشمال إلى اليمن وتنزعون الصور وتحرفون العناوين، عار عليكم أن تزيفوا الحقائق بتواريخ مزيفة وقصص ملفقة.. وأن تحرقوا الياسمين..

اتركوا ما بين السطور من حروف التأكيد وأدوات الشرط والنصب والتعليل،، واتركوا العلامات الاستفهامية ولا تبدلونها.. فالتاريخ والأدب والشعر والفروسية لا تقرأ بالعبرية، فكل اللغات والإنجيل والتوراة والقرآن الكريم يكتب ويقرأ بالعربية.

في هذا الزمن المقلوب، المعوج، المبتور الأطراف والأعضاء، تتفشي حالة الكوليرا والطاعون والاستثناء، وتصنف الأشياء بالألوان والأحجام و...و...، وتصير الغلبة لمن يملك مفاتيح اللعبة، من يملك قوة، من يملك أقنعة عدة وكثيرًا من بعض العملات.. من يملك حل اللغز الشرير، من يملك في قاعدة النسيان حق الاستثناء.