لأنها حالة استثنائية في زمن اعتيادي..
ولأنها نغمة حالمة في زمن صاخب
ولأنها تمسك بيدها جمر الحقيقة في زمن التقاليع
ولأنها.. ولأنها.. ولأنها
ستظل «ريم» خارج التصنيف المنطقي والقواعد المتعارف عليها، فهي في حاجة إلى معايير جديدة خاصة بها وبتفردها وبما تملكه من مقومات فاقت المطروح.. وقفزت على كل ما هو مأمول..
«ما أسعد الأمهات اللواتي يسبقن أولادهن إلى القبور، وما أشقي الأمهات اللواتي يسبقهن أولادهن إليها، وأشقي منهن تلك الأم المسكينة التي تدب إلى الموت دبيبًا وهي لا تعلم هل تركت ولدها وراءها، أو أنها ستجده أمامها».
(المنفلوطي)
الأسطورة هي الشيء المحال.. غير القابل حدوثه أو فعله.. أو حتى تصديقه، لكن «ريم» الأغنية الفلسطينية العذبة حطمت كل القيود المفروضة، وكتبت على جدار الحقيقة القصيدة الباقية في دواوين شعرنا.. وسطرت سطورا خالدة ستبقي تاجا على رءوس كل النساء..
فأقرانها في أوطان عدة مازلن يحلمن بثوب الزفاف، وبفارس الأحلام الذي سيخطفهن على حصان أبيض..
أبت «ريم» أن تكون كلمة في جمل منسية لا تحمل معني أو قيمة.. وأعلنت عصيانها على المفردات السفيهة.. وكتبت بنفسها شهادة ميلادها وتألقها..ولم ترض أن تكون رقما في أعداد مجهولة.. بوجه مريمي يحمل دفء وطمأنينة الدنيا واجهت شلالات الغضب وهيستيريا العنف.. واتسعت عيناها الدائرية السوداء فبدا الإنسان والأرض والحياة في خطوط متوازية ومتشابكة.. لا تقبل الانفصال أو التباعد.. فالتصقت وانصهرت وتوحدت مع المكان..
احتضنت الأمل وسقت بذور الحلم من دموعها وفقدان أطفالها وشقائهم.. ما أفدح الثمن في الزمن الفقير..
تكحلت بتراب الأرض وتزينت بطينها، وحنت يديها بدمائها.. تركت أطفالها ومضت في رحلة حب الوطن.. لتنفجر وتتناثر في وجه الظلم.. أطلقت صرخاتها الأخيرة لتفزع الوجوه المتحفزة والقابضة على المدافع تلتهم الأعمار والأحلام..
تركت أطفالها ومضت دون رجعة.. ذهبت إلى الموت دون وداع أو بعض الكلمات القليلة التي ربما تكون عوضا عن أيام الفراق.. أو حتى إدامة النظر لوجوه أطفالها..
ينتظر الأطفال أمهاتهم.. فلا تعدن.. يدوم الانتظار.. وتدوم معه عذاباته..يمر عام وراء عام.. ومازال الغائب لا يعود..
فمن سيوقظ الأطفال في الصباح.. ويعد لهم الفطور والشاي؟!
ومن سيمشط للصبايا شعورهن ويضفر أحلامهن بالشرائط الحريرية؟
وإذا تشاجروا مع رفاق الطريق وتعاركوا فلمن يشكون الحكايات؟
ومن سيخفف عنهم عناء الأيام ووحشتها؟ ويهنهنهم إذا ما زارتهم الكوابيس ليلا وأقلقت نومهم..
ليسوا محبطين أو منكسرين، لكنهم مؤمنون صابرون متيقنون.. تطول الأيام وتصحب معها الحسرة والحرمان والحاجة والخوف.. وتجرجر معها بقايا العمر..
يا أبنائي
إذا صحوتم يوما ولم تجدوني بجانبكم.. فلا تفزعوا ولا تخشوا شيئا.. واقرأوا الفاتحة وترحموا على.. فأنا في السماء انتظر لقاءكم.. فأقدارنا يا أحبائي أن نتساقط كحبات الياسمين لنطوق الوطن بالرياحين، من تأتي ساعته سيمضي.. لم أترككم ولم أفرط فيكم.. بل ذهبت لأجلب لكم الحرية، وهي أبقي من كسرات الخبز وثمار الفاكهة.. لا ترتعدوا وتماسكوا، فما عهدت فيكم الخوف.. وناموا ملء العين فغد يوم طويل.. وإذا عم البيت الصمت وزالت عنه الضحكات التي كنا نطلقها يمينا ويسارا.. فلا تبتئسوا فغد مشرق وجميل.. ستتفتح الزهور في عيونكم..
«أمي الحبيبة
لك مني مئتا قبلة
ابعثها.. من بيتنا العالي على التله
...
والبيدر الضاحك من دغدغة الغلة
في نصبه الزيتون والسدرة، والملة
والموقد الصائم.. والعيدان.. والحلة
من كرمة.. في كل صيف تملأ السلة
وتوتة شامية.. بيضاء، معتلة
وهاجس: يسألني.. عن آخر الليلة
توفيق زياد»
لا تحزنوا إذا رأيتم الأطفال يلقون بأنفسهم في أحضان أمهاتهم.. فحضن وطنكم مازال يتسع لكل أطفال الدنيا وهو أرحم وأحن وأكثر دفئا..
وعندما تحضرون لقبري.. استحلفكم ألا تبكوا.. وقصوا على أيامكم.. فأنا لم أمت.. رغم الجرح الغائر في قلبي.. لم أمت.. رغم دمي المخضبة به الأرض.. لم أمت.. رغم أشلائي المتناثرة..لم أمت.. رغم غيابي عنكم وفقدانكم لي.. لم أمت.. تذكروا جيدا أنني لم أمت..
زرعنا ما بين ثنايا الصخر القمح، ورويناه وحصدناه وطحناه وخبزناه وأكلناه، ولم نقبل أن نقف في طوابير الجوعى وعلى قوائم المشردين.
علمتكم أن الطيور لا تطير بغير جناحين، وأن الأرض لكي تنبت لابد لها من بذور.. وإن غروب الشمس يعقبه شروق.. وإن تاريخ أوطاننا لكي يكتب لابد له من مداد.. فاجعلوا من أنفسكم مدادًا للوطن.. وللخلود.