الحياة على حافة الموت

ما بين حشرجة الموت والاحتضار، ما بين الجوعى والعطشى، ما بين الحاجة والحرمان، ما بين الغربة والإبعاد، وما بين الحسرة والألم.. وما بين البكاء والنواح، تنشد الأوطان أغنية الخلاص، ترسم ملامح الوطن، وتعيد كتابة التاريخ من جديد، تذود عن الأرض بالمال والبنين والبنات والسكينة وراحة البال وانقطاع الحلم، تواصل مد جسور البقاء بعظامها وسواعدها وأناتها وآلامها وجراحها.. ينشق ما بين الصحراء النهر يروي الشفاه المتعبة المعطشة، ويسقي الزرع على ضفتيه، ويعزف لحن الرجوع للغائبين، ويترحم رحمة واسعة على الشهداء، فتخضر الحياة وتحضر، يدافع الإنسان عن وطنه ويكتب له شهادة ميلاده وصك أمان، يضحي بدمه، فتعود ضحكة الأطفال لتسع الدنيا وتحتضن الطيور، يشرق صبح جديد يطرح أمانًا وأحلامًا للأجيال القادمة..تولد الأوطان فيدفع أبناؤها الأبرار الثمن غاليا..

يأتي الصيف بقيظه متضافرًا مع النار المتأججة في صدورنا.. والنار المنطلقة من المدافع.. والنار المتسربة من آبار البترول ليجعل الدنيا جحيما لا يطاق.. وفي هذه الرمضاء نكتب من جديد تواريخ لا تنسي، نكتب على الجدران وصايا العمر نربت على الأكتاف، ونشد على الأيدي..ونردد الشهادة، أوطانكم ملاذكم.. أوطانكم شرفكم وعرضكم.. ترابها ضي العيون وكحل البنات..لا تساوموا.. لا تتهاونوا.. لا تنسوا.. أوطانكم خبزكم وملحكم.. فاصنعوا من قمح الغيطان شوار الصبايا لعرس الشهيد.

كان يدعي الغزاة بأنهم بابا نويل الذي سيوزع على الأطفال الهدايا والحلوى لكنه أفرط في غدق الهلع والفزع في قلوبهم، وانتزع البراءة من عيونهم، وصوب نحوهم مدافعه وقنابله فاحتلوا أماكنهم راضين مستسلمين بالمشافي، وعلقت لهم المحاليل والمضادات الحيوية، ودارت الكاميرات لتبث لأطفال العالم هدايا بابا نويل وهو يرتدي ملابسه الحمراء بلون دم الأبرياء في فلسطين وأفغانستان وفيتنام واليابان والعراق، كشف بابا نويل عن وجهه القبيح، وعن أنيابه التي غرزها في أجسامهم الطرية البريئة، دارت الكاميرات لتبث لنساء العالم مشاهد النساء المتشحات بالسواد والثكالي على أبنائهن وأزواجهن وديارهن وأوطانهن.. لم تعد تكفي أسرة المشافي، فالجرح يتسع وينزف، وتتزايد معه أعداد الجرحى والقتلى، فامتلأت القبور بالشهداء، وامتلأت الشوارع بالدماء المراقة يمينا ويسارا..

أصبح الآن اللعب على المكشوف، بعدما أسدل الستار على الهزل الهوليودي الذي كانت يصدرونه عبر الأفواه المأجورة، وباتت الوجوه في الوجوه، تحتد وتنتفض وتكشر..تفرغ ما بداخلها من شرور.. تبخ السم هنا وهناك، واتضح للجميع النوايا السيئة المختبئة والمتسترة.. وتبخرت الحكمة الكاذبة التي كانت تخفي وراءها الأفعال الفاضحة وجرائم الحرب المجرمة.

في غرف التحقيق، في مراكز البوليس،

في السجون

تجمعوا كالدمع في العيون

وهؤلاء كلهم..

في أي.. أي لحظة

من كل أبواب «بغداد» سيدخلون..

نزار قباني

من يري وجوه الطغاة العابسة وهم يلقون بياناتهم العسكرية يدرك جيدا حجم المأساة التي يشعرون بها، يتجلي هذا في نظراتهم الزائغة التي تبحث عن ابتسامة مصطنعة مفتعلة، وملامح الحدة تخلو من أي رضا.. يحاولون قدر استطاعتهم أن يخفوا عن الكاميرات وجوههم القبيحة الدميمة الوقحة.. من يسمع بياناتهم «المضروبة» الكاذبة الخادعة الماكرة، يدرك جيدا حجم المأساة والتخبط الذين يعيشونه، فقد ذلت أقدامهم في الوحل وغاصت، إن حرب الأزرار باتت الآن حرب شوارع، يستخدمون فيها كل الوسائل غير المشروعة والممنوعة والمحظورة، لم تنته المعركة بعد، رغم كل هذا الضجيج والزهو بالانتصار المزيف، في الحرب المزيفة، للنوايا المزيفة.. فلسوف تقصم ظهورهم أجلا أو عاجلا، ويتعقبهم الصبية في الشوارع ويجرون خلفهم، ولسوف يختبئون في الجحيم حتى لا تطولهم الأيادي.. إن الحرب لم تنته، بل بدأت الآن.. الآن فقط..

سؤال يتردد على كل الشفاه الآن.. ما الذي يجعل الطاغوت الطاعون يلقي أخباره الملفقة المزورة ويصادر الآراء حولها؟ ما الذي يجعل الغزاة يلجئون لتكميم كل الأفواه؟ ما الذي يجعل الجناة يتعمدون بث مشاهد تجمع الصبية حول جنودهم لإيهام الرأي العام برضاء الناس لوجودهم؟ وهم أعلم بشعورهم.

سيأتي صبح نرتل فيه آيات النصر، وأناشيد البطولة، فمع صوت المدافع، تصمت القصائد البليدة المستكينة الخاضعة القانعة..ولا صوت يعلو فوق صوت الشهيد، لن يتاجروا بنا على أرصفتهم المشبوهة.. وسنعرض صورهم القبيحة، وهم يعبئون الرجال ويشحنونهم في العربات معصوبي العين، مربوطي الأيدي إلى معسكرات الاعتقال ليحاكموهم بتهمة حب الوطن، وفي مشهد آخر يقوم أطباؤهم بالكشف على أولادهم ونساؤهم، من نصدق؟ عيوننا أم عيونهم! على من يضحكون علينا أم على أنفسهم..

هذا زمن الاستثناء والدهشة، ومن الخراب يولد أمل وبشارة يتمثل في راشيل كوري حالة خاصة للمثالية، لا تحمل جنسية ولا تنتمي لوطن.. مثلا لا يمثل استثناء ولا يرسخ قاعدة.

حتى دموع أمهات الطغاة اللائي فقدن أبناءهن، نحترمها، نحترم حرقة قلوبهن وقلقهن، لكننا أحوج لمن يحترم أحزان أمهاتنا الواقفات على مراسي الوطن في انتظار ابنا لن يعود، وآلاف الزوجات اللائي فقدن أزواجهن.. وآلاف الأطفال الذين فقدوا آبائهم.. وآلاف وآلاف..وآلاف.. فهذه قطرة حزن في بحور ومحيطات وأنهار الأحزان العربية الدائمة الدائبة منذ آلاف السنين.

عندما يستصعب علينا ترديد الحكايات المرة في الأزمنة الكالحة، يزحف الشجن إلينا، ويداعب الحزن والألم الساكن في أحشائنا.. نغوص داخل الذكريات لنرتشف المرارة كل صباح، كل مساء، قبل الأكل وبعده، نرتجف، نشعر بالخوف من المجهول والحاضر والقادم والماضي.. نشعر وكأننا في صحراء واسعة شاسعة، نعيش داخل حدود المكان الموحش بنصف قلب ونصف عقل ونصف جسد، فنصير أنصاف بني آدميين، ونتحمل بهذه الأنصاف جرعات الألم مضاعفة..

ما ثمن الدموع التي تذرفها الأمهات كل صباح؟ ما ثمن الخوف الذي ينتاب الأطفال؟ من يدفع ثمن هذه الفواتير الغالية؟ يتسول المرتزقة الجدد داخل أيامنا وليالينا.. يتسكعون ويتجولون، يتصعلكون في الشواريع ويتفقدون الحالة الأمنية، بعدما عمت الفوضى أرجاء المكان، حيث السطو والقتل والبلطجة تحت أعينهم في البصرة، يشجعون عليها ويباركونها، ويقفون يشاهدونها مستمتعين بالخراب، يروحون ويجيئون وكأنها بلدانهم، يدخلون البيوت والمحال والدواوين دون استئذان، ويفتشون ويبعثرون، ويصحبون معهم ما يشاءون من رجال وأمان وأحلام، ويتركون بعضا من زجاجات المياه الغازية الطاغية الغاشمة.

لن نهرب أحلامنا عبر الحدود العميلة.. ولن ندفن رؤوسنا في رمل الصحراء المستحيلة..ولن نخفي أسماءنا في هوامش الكتب الذليلة..

عندما يصمت القلم عن الكتابة وتتطاير الأوراق البيضاء في السماء.. تسجل العيون الحدث.. وشما على القلوب.. لا يموت.. لا يمحي..لا يغيب.. حتى وأن توقفت الشرايين عن ضخ الدماء إلى القلب الجريح الذبيح..