تأتي خطوطه من كل بقاع الشتات تحمل من كل مخيم ملمحًا وصورة وخطًّا طوليًّا ممتد إلى الوطن المحتل؛ حيث تشتد معاناة البسطاء والكادحين والمهمشين من الداخل والخارج.. يزيل الغبار ويجفف العرق، ويدمل الجروح ويربت على الاكتاف، تأتي الصور لتشعل في الفراغ المستحيل النيران التي تقترب من الاخماد، فيعيد احياءها من جديد، لا يهادن ولا يستميل أحدًا، الحقيقة لها لونان الأبيض والأسود، يصرخ حتى يظن الغافلون أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، لكنها أناشيد التحدي والصمود التي تبقيه حيا حتى وإن تأوه وتألم، لم يعرف المواراة والتخفي، صادما وكاشفا لكل ما يحدث خلف الأبواب، لا يتسلل بل يقتحم ميادينه محاولا تحريض الجميع على محاربة الفساد الذي يعتمل في الصالونات وصالات كبار الزوار، يعلن من مكانه النائي البعيد عن صحوة الاستيقاظ.. يفتش داخلنا عن مواطن القوة والأصالة، ويطلق كاريكاتيراته الساخرة فينا فيتوهج الأمل من جديد ونفيق من غيبوبتنا الطويلة، يحرضنا على الوقوف منتصبي القامات مرفوعي الهامات.
مازال داخله الطفل الذي ترك قريته مجبرا في العاشرة، يحبو نحو أحلامه في رؤية وطنه مستقلا حرا، ويحلم بالعودة مرة أخرى، لم يستسلم لمغريات الدنيا، احترف الرسم والمطاردة، يؤمن بالتعددية نحو هدف واحد هو خلاص الوطن من كبوته، لكنه وحدوي التفكير لذات المعنى، الصمت عنده لغة كسيحة لم يستخدمها، ولأنه لا يعرف الكذب، ظلت رسوماته هي الصراخ الدائم الذي لم ينهكه، يعلن كل صباح أنه سوف يمارس عاداته ومحاولاته حتى ينقضي النهار، وعندما يحل عليه التعب وترهقه المحاولات يرسم ويرسم ويرسم، ويسكب في عيون المشتتين فرحة الشمس بالشروق، وتهليلة القمر، لم يهرب مثلما فعل الآخرون وظل وقت الأزمات حاملا قلمه ينشر الخير والسلام والحب في كل الأرجاء.. يحاول أن يمسح تلك العذابات التي ترتسم على وجوه البؤساء والبسطاء.
أأنت الوديع كساقية
من خبايا الربيع
قتلت ؟!
وغض بنعيك من قتلوك
كأنك مقتلهم.. لا القتيل
لم استفردوك بقبر عدوّ، وراء الضباب ؟!!!
وفيم تساءلت ذات مساء من الحزن
عمّن سيأخذ ثأرك !
«مظفر النواب»
في وضح النهار اغتيل ناجي سليم حسين العلي (1937 إلى 29 أغسطس 1987)، بأيد قذرة سواء كانت فلسطينية أو إسرائيلية أو عربية، ولأن لندن عاصمة الضباب، يعجز البوليس الانجليزي عن كشف غموض اي عملية اغتيال هناك خصوصا إذا كانت الضحية من بلاد الشرق التعيس، الغريب أن الانظمة العربية التي تفشل في توفير الخبز لشعوبها تنجح بامتياز في تدبير مؤامرات الاغتيال لكل من يحاول أن يفتح فمه ويتكلم، فهنا يأتي دور كاتم الصوت ليخرسه للأبد، والخلاصة أن ناجي العلي كان سيغتال حتما، في لندن أو باريس أو جنيف، أو أي عاصمة أخرى بشرط ألا تكون عربية، حتى يضيع دمه بين القبائل وتصبح عملية الثأر والقصاص هلامية وغير ممكنة، ورغم أن هناك تفاصيل وأشخاصًا كثيرة جديرة بالتحقيق والتحقير، لكن أيضًا ليس هناك قاتل، وأغلب الظن أنهم قتلة كثيرون مختلفون لا تربط بينهم خصائص أو ملامح متشابهة، لا يؤمنون بقضية واحدة أو هدف محدد، متفرقون في الطباع والمعتقدات والهوى، لكنهم اتفقوا جميعا على كراهية ناجي العلي. إن من قتل ناجي العلي هو الجهل، وليس الفقر، الجهل الذي يحشون به الكتب المدرسية والنشرات الإخبارية والمواثيق الدولية.
ناجي العلي لم يحتمله القريب والبعيد، العدو والحبيب، الوطن والغربة، رجل كانت تعشقه الأرض وتلفظه المطارات، يلتف حوله العامة وتمقته الخاصة، فعندما تتحول الخطوط والرسومات إلى طلقات رصاص تصوب نحو الأحداث الصامتة لتفضحها، وعندما تصرخ الصور وتظهر القبح الذي يرتكن خلفها، عند هذا الحد لابد لكاتم الصوت أن ينطلق في يوم الأربعاء 22 يوليو 1987 وتحديدا في شارع إيفر في لندن... ليطلق الرصاص أسفل العين اليمنى التي رأت الحقائق وفضحتها، وتخترق الرصاصة الرأس.
اصعدْ، فهذي الأرض بيتُ دعارةٍ
فيها البقاءُ معلّقٌ ببغاءِ
مَنْ لم يمُت بالسيفِ مات بطلقةٍ
من عاش فينا عيشة الشرفاء
ماذا يضيرك أن تُفارقَ أمّةً
ليست سوى خطأ من الأخطاءِ
رملٌ تداخلَ بعضُهُ في بعضِهِ
حتى غدا كالصخرة الصمّاءِ
لا الريحُ ترفعُها إلى الأعلى
ولا النيران تمنعها من الإغفاءِ
«أحمد مطر»
كثيرون لا يعرفون لماذا اغتيل ناجي العلي، ولأن الحكايات تكثر في أوطاننا وتتعدد رواياتها، كان من الأجدى والأنفع أن نقرأ سيرة الرجل بلسانه، لنتعرف على الخلفيات والأماميات بعيدًا عن التأويل والتنظير: «اسمي ناجي العلي.. ولدت حيث ولد المسيح، بين طبرية والناصرة، في قرية الشجرة بالجليل الشمالي، أخرجوني من هناك بعد 10 سنوات في 1948 إلى مخيم عين الحلوة في لبنان.. أذكر هذه السنوات العشر أكثر مما أذكره من بقية عمري، أعرف العشب والحجر والظل والنور، لا تزال ثابتة في محجر العين كأنها حفرت حفرًا.. لم يخرجها كل ما رأيته بعد ذلك .
.. أرسم.. لا أكتب أحجبة، لا أحرق البخور، ولكنني أرسم، وإذا قيل إن ريشتي مبضع جراح، أكون حققت ما حلمت طويلًا بتحقيقه.. كما أنني لست مهرجًا، ولست شاعر قبيلة – أي قبيلة – إنني أطرد عن قلبي مهمة لا تلبث دائمًا أن تعود.. ثقيلة.. ولكنها تكفي لتمنحني مبررًا لأن أحيا.
متهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها.. أنا لست محايدًا، أنا منحاز لمن هم «تحت».. الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التضليلات وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات، أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى، ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم، ولمن يقضون لياليهم في لبنان شحذًا للسلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح القادم من مخبئها.. ولمن يقرءون كتاب الوطن في المخيمات.
كنت صبيًّا حين وصلنا زائغي الأعين، حفاة الأقدام، إلى عين الحلوة.. كنت صبيًّا وسمعت الكبار يتحدثون.. الدول العربية.. الإنكليز.. المؤامرة.. كما سمعت في ليالي المخيم المظلمة شهقات بكاء مكتوم.. ورأيت من دنت لحظته يموت وهو ينطلق إلى الأفق في اتجاه الوطن المسروق، التقط الحزن بعيون أهلي، وشعرت برغبة جارفة في أن أرسمه خطوطًا عميقة على جدران المخيم.. حيثما وجدت مساحة شاغرة.. حفرًا أو بالطباشير..
وظللت أرسم على جدران المخيم ما بقي عالقًا بذاكرتي عن الوطن، وما كنت أراه محبوسًا في العيون، ثم انتقلت رسوماتي إلى جدران سجون ثكنات الجيش اللبناني، حيث كنت أقضي في ضيافتها فترات دورية إجبارية.. ثم إلى الأوراق.. إلى أن جاء غسان كنفاني ذات يوم إلى المخيم وشاهد رسومًا لي، فأخذها ونشرها في مجلة «الحرية» وجاء أصدقائي بعد ذلك حاملين نسخًا من «الحرية» وفيها رسوماتي … شجعني هذا كثيرًا.
حين كنت صبيًّا في عين الحلوة، انتظمت في فصل دراسي كان مدرسي فيه أبو ماهر اليماني ..وعلمنا أبو ماهر أن نرفع علم فلسطين وأن نحييه، وحدثنا عن أصدقائنا وأعدائنا.. وقال لي حين لاحظ شغفي بالرسم «ارسم.. لكن دائمًا عن الوطن»..
وتوجهت بعد ذلك إلى دراسة الفن أكاديميًّا، فالتحقت بالأكاديمية اللبنانية لمدة سنة، أذكر أني لم أحاول خلالها إلا شهرًا أو نحو ذلك، والباقي قضيته كما هي العادة في ضيافة سجون الثكنات اللبنانية.. كانوا يقبضون علينا بأية تهمة، وبهدف واحد دائمًا: هو أن نخاف، وكانوا يفرجون عنا حين يملون من وجودنا في السجن، أو حين يتوسط لديهم واحد من الأهل أو الأصدقاء.
ولأن الأمور كانت على ما كانت عليه، فقد فكرت في أن أدرس الرسم في القاهرة، أو في روما، وكان هذا يستلزم بعض المال، فقررت أن أسافر إلى الكويت لأعتل بعض الوقت.. وأقتصد بعض المال.. ثم اذهب بعدها لدراسة الرسم..
ووصلت بالفعل إلى الكويت عام 1963، وعملت في مجلة «الطليعة» التي كانت تمثل التيار القومي العربي هناك في ذلك الوقت.. كنت أقوم أحيانًا بدور المحرر والمخرج الفني والرسام والمصمم في آن واحد.. وبدأت بنشر لوحة واحدة.. ثم لوحتين ..وهكذا.. وكانت الاستجابة طيبة.. شعرت أن جسرًا يتكون بيني وبين الناس، وبدأت أرسم كالمحموم، حتى تمنيت أن أتحول إلى أحد آلهة الهند القدامى.. بعشرين يدًا.. وبكل يد ريشة ترسم وتحكي ما بالقلب.. عملت بصحف يومية بالإضافة إلى عملي، ونشرت في أماكن متفرقة من العالم.
كنت أعمل في الكويت حين صدرت جريدة «السفير» في بيروت. ولقد اتصل بي طلال سلمان وطلب مني أن أعود إلى لبنان لكي أعمل فيها، شعرت أن في الأمر خلاصًا، فعدت ولكني تألمت وتوجعت نفسي مما رأيت، فقد شعرت أن مخيم عين الحلوة كان أكثر ثورية قبل الثورة، كانت تتوافر له رؤية أوضح سياسيًّا، يعرف بالتحديد من عدوه وصديقه، كان هدفه محددًا؛ فلسطين، كامل التراب الفلسطيني.
لما عدت، كان المخيم غابة سلاح، صحيح، ولكنه يفتقد إلى الوضوح السياسي، وجدته أصبح قبائل، وجدت الأنظمة غزته ودولارات النفط لوثت بعض شبابه، كان هذا المخيم رحمًا يتشكل داخله مناضلون حقيقيون، ولكن كانت المحاولات لوقف هذه العملية. وأنا أشير بإصبع الاتهام لأكثر من طرف، صحيح أن هناك تفاوتًا بين الخيانة والتقصير، ولكني لا أعفي أحدًا من المسئولية، الأنظمة العربية جنت علينا، وكذلك الثورة الفلسطينية نفسها.
عندما بدأ الغزو كنت في صيدا، الفلسطينيون في المخيمات شعروا أنه ليس هناك من يقودهم، اجتاحتنا إسرائيل بقوتها العسكرية، انقضت علينا في محاولة لجعلنا ننسى شيئًا اسمه فلسطين، وكانت تعرف أن الوضع عمومًا في صالحها، فلا الوضع العربي، ولا الوضع الدولي ولا وضع الثورة الفلسطينية، تستطيع إلحاق الهزيمة بها، والأنظمة العربية حيدت نفسها بعد «كامب ديفيد».
في الماضي كانت الثورة الفلسطينية تبشر بحرب الأغوار؛ بالرجب الشعبية، العدو جاء باتجاهنا وكل قياداتنا العسكرية كانت تتوقع الغزو، ورغم أنني لست رجلًا عسكريًّا ولم أطلق رصاصة في حياتي، فإنه كان من الممكن أن تجتاح إسرائيل لبنان بخسائر أكبر بكثير، وهنا تشعر أن المؤامرة كانت واردة من الأنظمة ومن غير الأنظمة، أقصد مؤامرة تطهير الجنوب والقضاء على القوة العسكرية الفلسطينية وفرض الحلول «السلمية» وتشعر أنه مقصود أن تقدم لنا هذه «الجزرة» لكي نركض وراء الحل الأمريكي.
هذا هو الوضع العربي والوضع الفلسطيني جزء منه، أنه كان يمكن أن نسدد ضربات موجعة لإسرائيل، ولكن مخيماتنا ظلت بلا قيادة، وكيف لأهاليها أن يواجهوا الآلة العسكرية الإسرائيلية!
الطيران والقصف اليومي من البر والبحر والجو، بالإضافة إلى أن الوضع كان عمليًّا مهترئًا، قيادة هرمت، ومخيمات من زنك وطين، اجتاحها الإسرائيليون وجعلوها كملعب كرة قدم، ومع ذلك وصل الإسرائيليون إلى بيروت وحدود صوفر، والمقاومة لن تنقطع من داخل المخيمات وبشهادات عسكريين إسرائيليين وبشهادتي الشخصية اعتقلت أنا وأسرتي كما اعتقلت صيدا كلها وقضينا 3 أو 4 أيام على البحر.
بعد أن تم الاحتلال، كان همي أن أتفقد المخيم لأعرف طبيعة المقاومة والقائمين بها، أخذت معي ابني وكان عمره 15 سنة وذهبنا في النهار، كانت جثث الشهداء ما زالت في الشوارع والدبابات الإسرائيلية المحروقة على حالها على أبواب المخيم لم يسحبها الإسرائيليون بعد، تقصيت عن طبيعة المقاومين فعرفت أنهم أربعون أو خمسون شابًّا لا أكثر، كان الإسرائيليون قد حرقوا المخيم، والأطفال والنساء كانوا ما يزالون في الملاجئ، وكانت القذائف الإسرائيلية تنفذ إلى الأعماق وكان قد سقط مئات الضحايا من الأطفال في المخيم وفي صيدا.
وبشكل تلقائي عاهد هؤلاء الشباب أنفسهم أنهم لن يستسلموا وأنها الشهادة أو الموت، وفعلًا لم تستطع إسرائيل أن تأسر أي واحد من هؤلاء الشباب . في النهار، في ضوء الشمس كانت إسرائيل تنقض عليهم، وفي الليل يخرجون هم بالآر بي جي. فقط .
هذه صورة مما حدث في مخيم عين الحلوة، وأنا شاهد ولكني أعرف أن هناك صورًا أخرى في مخيمات صور والبرج الشمالي والبص والرشيدية، كان الناس في الملجأ وفي الشارع يدعون لله ويسبون الأنظمة وكل القيادات ويلعنون الواقع ولا يبرئون أحدًا، ويشعرون أنه ليس لهم إلا الله ويتحملون مصيرهم.
جماهير الجنوب بما فيها جماهيرنا الفلسطينية المعترة (الفقيرة ) هي التي قاتلت وهي التي حملت السلاح ووفاء لهذا الشعب العظيم الذي أعطانا أكثر مما أعطانا أي طرف آخر، وعانى وتهدم بيته، لابد من أن يقول المرء هنا إن مقاومي الحركة الوطنية اللبنانية قد جسدوا روح المقاومة بما يقارب الأسطورة. وفي رأيي أن الإعلام العربي مقصر في عملية توضيح روح المقاومة الحقيقية».
اشتهرت رسومات ناجي العلي بحنظلة ذلك الطفل الفلسطيني البائس، أو اشتهر حنظلة في رسومات ناجي العلي، لا نعرف على وجه الدقة من روج لمن، ومثلما قدم ناجي العلي نفسه، كان من الانصاف أن يقدم حنظلة هو الآخر سيرته وبلسانه: اسمي حنظلة، اسم أبويي مش ضروري، أمي اسمها نكبة، تاريخ ولادتي عام النكسة، جنسيتي : أنا مش فلسطيني، مش أردني، مش لبناني، مش سوري، مش مصري، مش حد، باختصار ما معيش هوية، ولا ناوي أتجنس، محسوبك إنسان عربي وبس، التقيت صطفة بالرسام ناجي، كان كاره شغلو لأن مش عارف يرسم وناوي شغلة غير هالشغلة، قلتلو انت إنسان جبان وبتهرب من المعركة وقسيت عليه، وبعد ما طيبت خاطرو، عرفتو عن نفسي، وإني إنسان عربي واعي وملتزم، قلتلو أنا مستعد أرسم عنك الكاريكاتير كل يوم، وفهمتو اني ما بخاف من حدا غير من الله . وماذا سأخسر، ملابسي المرقعة، أقدامي العارية، لقد جعلوني أخسر كل شيء... فلماذا أحترمهم...!
لا أملك سوى لساني، يدي، قدمي، كوفيتي... لم يبق شيء... أضاعوا فلسطين وأضاعوني... وما زالوا يكذبون.. يواصلون خياراتهم ومساوماتهم البائسة وواقعيتهم الهابطة.. ويريدونني أن أصمت! يساومون عليَّ ويريدونني أن أبقى مكتوف اليدين... هذا مستحيل!
يحيا غريبَ الدارِ في أوطانهِ
ومُطارَدًا بمواطنِ الغُرباء؟!
لكنّما يبقى الكلامُ مُحرّرًا
إنْ دارَ فوقَ الألسنِ الخرساءِ
ويظلُّ إطلاقُ العويلِ محلّلًا
ما لم يمُسَّ بحرمة الخلفاءِ
ويظلُّ ذِكْرُكَ في الصحيفةِ جائزًا
ما دام وسْطَ مساحةٍ سوداءِ
ويظلُّ رأسكَ عاليًا ما دمتَ
فوق النعشِ محمولًا إلى الغبراءِ
وتظلُّ تحت “الزّفتِ” كلُّ طباعنا
ما دامَ هذا النفطُ في الصحراءِ !
«أحمد مطر»
وعن حنظلة يقول ناجي العلي: «حنظلة أيقونة تحفظ روحي وتحفظني من الانزلاق، حنظلة وفي لفلسطين، وهو لن يسمح لي أن أكون غير ذلك، إنه نقطة عرق من جبيني تلسعني إذا جال بخاطري أن أجبن أو أتراجع، كانت ولادة حنظلة ولادة طبيعية في زمن الحروب القيصرية». ويضيف: «ولد حنظلة في العاشرة من عمره وسيظل دائما في العاشرة، ففي تلك السن غادرت الوطن وحين يعود حنظلة سيكون بعد في العاشرة ثم سيأخذ في الكبر بعد ذلك... قوانين الطبيعة المعروفة لا تطبق عليه، إنه استثناء... لأن فقدان الوطن استثناء وستصبح الأمور طبيعية حين يعود إلى الوطن... قدمته للقراء وأسميته حنظلة كرمز للمرارة في البداية.. قدمته كطفل فلسطيني لكنه مع تطور وعيه أصبح له أفق كوني وإنساني، في المراحل الأولى رسمته ملتقيا وجها لوجه مع الناس وكان يحمل الكلاشينكوف وكان أيضًا دائم الحركة وفاعلا وله دور حقيقي.. يناقش باللغتين العربية والإنجليزية بل أكثر من ذلك، فقد كان يلعب الكاراتيه.. يغنّي الزجل ويصرخ ويؤذن ويهمس ويبشر بالثورة، كتفته بعد حرب أكتوبر 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبع صلة بالنسبة لي وهذه البوصلة تشير دائما إلى فلسطين، وعندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته سوف أظهر وجهه..
ينتهي كلام ناجي العلي ورفيق الرحلة حنظلة، وتقفز من بين السطور علامات استفهام عديدة، لا نملك لها إجابات لكنها بلا شك توضح كيف كانت ستصير إليه الأمورفيما بعد، حتى إن ناجي العلي نفسه كان يعلم مصيره جيدًا: «اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله: ميت» كان يعلم أن الثمن سيكلفه حياته، ورغم ذلك لم يخفض ريشته وظلت تغرف من المحبرة لتمحي الفضاء المخيف، تجاوز كل الخطوط المسموحة والممنوعة وكان يردد: «كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي.. أنا أعرف خطا أحمر واحدا، أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام لإسرائيل»، توالت عليه التهديدات حتى يستكين ويخفض من حدة انتقاداته اللاذعة : «إن لم تتوقف فإن ثمنك هو رصاصة ثمنها عشرة فلوس».. «يا ناجي هذه فرصتك الأخيرة للبقاء على قيد الحياة. أرسم رسما تمدح فيه الختيار».. «يا ناجي لقد صدر القرار. اخرج فورًا من بريطانيا، أو على الأقل اخرج واختفي في إحدى القرى البريطانية». وذات مرة حاولت شاحنة دهسه عند خروجه من صحيفة القبس، وحادثة أخرى عندما داهم مكتبه رجل فلسطيني وقال له: حضرت لأبلغك تحذيرا نهائيا، إن لم تتوقف عن الرسم ضد الختيار سنقتلك.
كان يعشق بطريقته ويثور برسوماته ويطلق معتقداته التي خالفت كثيرين، ربما أخطأ أو أصاب لكنه في النهاية لم يهادن أو يفرط أو يقبض ثمنا لمبادئه، بل دفع حياته مقابلًا لما آمن به، ربما لأن الواقع كان قبيحا لم يكن مستساغًا أو منطقيًّا أن تكون للرمزية مكان في رسومات ناجي العلي.
كان ناجي مباشرًا في رسمه وعلنيًّا وجريئًا، وتميزت رسوماته بالقوة والقدرة الفائقة على التعبير، وبالحدّة والعنف في أحيان كثيرة سببت صداعا مؤلما للكثيرين فحاولوا الخلاص منه بطلقة في الرأس ليتم نقله إلى مستشفى «تشيرنغ كروس»، فاقدا الوعي. ويظل في حالة احتضار 38 يومًا، لتصعد روحه الطاهرة إلى السماء وهو في الخمسين من عمره، ويدفن في مقبرة بروك وود الإسلامية في لندن بلوحة تحمل رقم 2301910 ويحرم من تحقيق حلمه برؤية وطنه وقد تحرر، أو أن يدفن بجانب والده في مخيم عين الحلوة، هكذا حال الفلسطينيين؛ حالمين دوما بالحرية والخلاص، ويرحلون بعد أن يسلموا الراية للأجيال القادمة، ويوصونهم خيرًا بالوطن.
رحل ناجي العلي لكن بقيت رسوماته التي رصدت كفاح الشعب الفلسطيني، وفضحت مخططات ومؤامرات العدو الصهيوني، وستكون دوما شهادة على أن الأرض الطيبة التي أنجبت ناجي العلي قادرة على إنجاب كثيرين يحملون ريشة أو قلمًا أو مدفعًا أو آلة موسيقية أو عصا أو حجرًا ليدافعوا به عن وطنهم حتى ولو لآخر قطرة من دمائهم.
يقول عبد الرحمن الأبنودي الذي لم يلتقه يومًا:
أماية ... وانتي بترمي بالرّحى ..
على مفارق ضحى
وحدك وبتعدّدي
على كل حاجة حلوة مفقودة
ما تنسينيش يا أمة في عدُّودة
عدّودة من أقدم خيوط سودا في توب
الحزن
لا تولولي فيها ولا تهللي
.. وحطي فيها اسم واحد مات:
كان صاحبي يا امه ..
واسمه: ناجي العلي