لم يعد في الأرض متسع للشهداء.. بعدما ضافت بهم القبور والصدور.. وضاق قلب المغتصب الأشر، فافترشت الجثث قرعات الطرق، ونواصي الحكايات.. وتناثرت أشلاؤها في الزوايا والأركان.. وزحف الليل الحزين ليستر عظامها النخرة.. وفي الصباح أتي النهار الكسيح ليكشف للمارة عن سوءات المدنية وديمقراطية الأوباش، ويشق البلدوزر جنبات السحاب ليهيل التراب على الأشلاء وعلينا وعلي كل ما تبقي من تاريخنا.. وراح المصورون يلتقطون أحط الكادرات وأبشعها، ويصفون المشهد بالبشاعة والوقاحة. ويأتي الغد ليتكرر نفس المشهد.
«فراغ.. فراغ
فراغ يعشش فيه الدمار
ويسكنه الفاتحون التتار
هنا حرم يوطأ
هنا عالم يهدأ
أدونيس»
الكل يشجب.. تقدمي، تأخري، يساري، يميني، طولي، عرضي، فوقي، تحتي، الكل يدين.. الكل حزين.. ولم تزل قراصنة البحار وزبانية الموت يسطون ويحرقون ويسرقون وينهبون الوطن شبرًا شبرًا ومترًا مترًا ودونمًا دونمًا، يكشفون وجههم القبيح دون خشي أو خجل، ويفاخرون بساديتهم.
يقترفون القتل الجماعي والحرق الجماعي والسجن الجماعي. ليعيدوا على الأذهان هولوكست جديدة، فمن دير ياسين إلى صابرا وشاتيلا وحتى جنين.. أنهار من الدم وجماجم من البشر.. وكئوس تقرع كئوسا في صحة الوطن..
سكتت المآذن عن النداء، وقتل قارع الأجراس بالكنائس. ليعلن المذياع العبري عن الصمت الموحش في جنبات الضمير الإنساني، وتصف الإذاعات وتنقل الشاشات الأحداث بألفاظ عهدناها وألفناها وصارت كالاسطوانة المشروخة في حفل من الصم والبكم..
يتكرر نفس المشهد كل يوم، ولكن لم تنته بعد الحكاية، ولن تنتهي، فمازالا في الصدور براكين من الغضب لم تخمدها دموع الثكالي، أو وصايا وسطاء الصفقات، أو إرشادات كراسات المدارس الحكومية.. فمن القسوة خرطت الأيام ملامحنا، ومن المعاناة شكلت قوتنا وصلابتنا. خيم الخراب، وطفح الكيل، وتبقي رائحة المكان، تصرخ بين الحين والحين.
مع وقع أقدام العسكر المحتل ترتفع دعوات الأمهات الثكالي..
تصرخ في المكان أنات الوجع.. تحاكي الشجر والحجر والبشر..
كل الأشياء مباحة في زمن الغفلة، لكننا صامدون.. صامدون.. لآخر رجل، لآخر طفل، لآخر صبية، لآخر طلقة،، لآخر حجر.. وإن صلبونا، وإن شردونا، يبقي النصر، حكايات الأجداد ونشيد الإنشاد.
ينكسر الصخر حبات، وتنحت الأظافر حروف الوطن، تطل من بين بيارات البرتقال وأغصان الزيتون، تربت على أكتافهم، وتوصيهم خيرا..
لكن يسبق الموت السؤال، وتظل في الحلق مرارة الشكوى..
لا نتوارى.. ولا نتخفى.. ولا نترجل أقدام الخفافيش..
تبحث رصاصات القناصة عن هدف تغتاله.. فلم تجد غير صدورنا..
ولم يتوقف ترديد السؤال.. يلتهم القناصة أرواحنا.. ونعيد السؤال..
نتساقط واحدا تلو الآخر.. ونشيع جنازة من كان يلازمنا.. ويلامسنا..
لم يبق للشهيد سوى صلوات الغائب في الجوامع.. وبعض من أجراس الكنائس. لكننا نعيد السؤال كل صباح، كل مساء.
لم نعبأ.. سوف يظل السؤال بركانا ينفجر في وجه المحتل..
تعصب أعيننا ليلا.. ويبيح العسكر أجسادنا رميا..
فتنهشها الكلاب الضالة وتستبيحها..
نأوي للموت ليلا بعد عناء نهار طويل.. نتسجي مطمئنين بالشهادة..
ونعيد السؤال..
لا نتسول عفوا.. أو رحمة..
ومن وفاء مرورا بآيات وحتى نضال.. زهرات على الطريق، تدمي القلوب.
يكتمل الحلم باكتمال أركان الوطن ونموه.. وتغدو فضيلة حب الوطن، نشيدا تتغني به «آيات» و«نضال» مع «فدوي طوفان»:
سأظل أحفر اسمها وأنا أناضل
في الأرض في الجدران في الأبواب في شرف المنازل
في هيكل العذراء في المحراب في طرق المزارع
في كل مرتفع ومنحدر ومنعطف وشارع
في السجن في زنزانة التعذيب في عود المشانق
رغم السلاسل رغم نسف الدور ورغم لظي الحرائق
سأظل أحفر اسمها حتى أراه
يمحو العسكر المعتوه رسوم الصغار وحكايات الصبا وتواريخ أعياد الميلاد..
في نفق الوطن المظلم، يتسع بصيص النور..يتلألأ.. أحيانًا يخفو، يخبو، لكن يفرد أجنحته بين الحين والآخر..
وما بين الأسود والأبيض تتأرجح ذاكرة التاريخ، ويستعدي الزمن الغابر كل ترانيم التقوى.. ينقطع الحبل السري، وتسيل دماء لتملأ كئوس الطغاة، وتموت قيم الجمال ولا يبقي سوى القبح عنوانا كبيرا بفعل فاعل، تختفي التفاصيل الصغيرة، لتعلن مانشيتات الجرائد عن أن حقوق الإنسان ماتت «سريريا»..
بعد اختلال القافية وتموت القصيدة في سوق عكاظ.. ينفض السامر.. وتلقي آخر عبارات التأبين.