الموت الرحيم

تلين الفكرة العنيدة.. نروضها.. نجملها.. نطوعها..نشكلها.. نزرعها ونرويها ونقطفها، نحصدها ونطحنها، نخبزها ونأكلها، ونصنع منها فطائر للأعياد والأموات.

نقرأ في مفكرة الأيام.. نبحث عن أيام قادمة بيضاء غير تلك الأيام السوداء.... ننبش في الرماد والأنقاض والأطلال والخراب لنستخلص حكايات جديدة وبطولات جديدة. نفك رموز اللغات المرسومة على الحوائط والمعابد والأديرة.. ونستشف أشياء تكون عوضا عن حالات الفرقة والقهر التي لازمتنا سنين طويلة..

إذا متنا.. تصبح الأرض بلا حياة.. والشمس بلا سماء.. والزهرة بلا عبير.. والنهر بلا ماء.. لذا لن تموت الحياة ما دمنا نعيش.. فالحياة تعيش فينا.. ونعيش نحن في الحياة..

سيأتي يوم نخلصكم فيه من عذاباتكم، بمنحكم الموت الرحيم حتى تنتهي آلامكم المبرحة المفزعة، ولسوف تمضي نوبات جنونكم بغير رجعة وسوف تصحبونها في رحلتكم الأخيرة.. ولسوف نشفق عليكم بعد رحيلكم..

لأنهم يريدوننا في آخر الصفوف.. وآخر الحكايات.. وآخر الشعوب.. يفزعهم كثيرا رؤيتنا.. مجرد رؤيتنا.. يحاولون غض النظر عنا.. لكننا نعترضهم في كل مكان.. في الريح والمطر، في الجو والبر والبحر، في الشوارع والبيوت والميادين، في الباصات وعلي موائد الطعام وداخل أحلامهم الليلية.. يطلقون رصاصاتهم وصواريخهم علينا فترتد إليهم.. تفزعهم وتقلق نومهم وتزلزل حياتهم.. وتجعل من شوارعهم المرتعدة ضجيجا وفوضى..

ولأنهم يريدوننا في آخر الصفوف.. وآخر الحكايات.. وآخر الشعوب.. يملون علينا الشروط والممنوعات كل صباح.. ويشددون على ألا نخرق الاتفاقات المكتوبة بحبر أبيض لا تري حروفه.. يتعهدون في الغرف المغلقة بإتباع الأمن والوئام.. وفي الشوارع يقذفون الآمنين بالصواريخ.. ويفتكون بنا.. ويبررون بأنه من دواعي الأمن والأمان القضاء علينا في وضح النهار..يبثون عبر التصريحات الطائرة والمسافرة مع العلم أنهم ينوون اقتسام حرارة الشمس معنا، وعندما يحل الليل يحتفظون بالقمر لأنفسهم ويسرقون النجوم، ويعدوننا باقتسام الزيتون، وعندما نفلح الأرض يأخذون النصف ويحرقون الآخر..

آن للحنطة أن تنضج

في مرج ابتهالاتي الفسيح

آن أن ينزل عن صلبانهم

حبي

وشعبي

والمسيح

سميح القاسم

على شحيح الضوء نعيش أيامنا نصف المظلمة، نحاول أن نضئ المكان، فلا مصابيح ولا زيت ولا دفء، تبدو الشوارع دامسة عاتمة حالكة.. فنفقد بعض الرؤية..نتحسس الأمكنة والأثاثات.. ولأن وجوهنا تحمل ملامح المكان، تدلنا الريح على مساعينا ومآربنا.. نستعيد من المكان رائحة الماضي، فتتبدد الغربة.. ويصير التآلف..

يفرجون عن شبابنا من سجونهم العامرة الظافرة بأبنائنا.. وبعد ساعة واحدة، يوقعون قرارًا آخر باعتقالنا لدواع أمنية أخري..

لا يخفينا دوي القنابل، فقد تعودنا عليه، نصحو وننام على صوت الموت المتحشرج في أرجاء الغرفة..

بيوتنا مليئة بالصور المعلقة على الجدران للشهداء والأحباب.. ونلقي عليهم كل ساعة التحية، ونعدهم باللقاء.. تبدو المسألة بالنسبة لنا محسومة مألوفة.. لا نهاب الموت.. فهو يسكن ويأكل معنا.. وأحيانًا يلهو مع الأطفال في الشارع والحارة والمدرسة.

سوف تنفجر أرصفة المدن وتبتلع الغزاة.. لا يعيش هذا العهر في زمن البطولة.. بيننا وبينكم ساحة قتال.. ليس لدينا ما نبكي عليه، ولن نخسر أكثر مما ضاع.. بيننا وبينكم جولات كثيرة في الصمود والتحدي، أنتم وما تملكون من ترسانات ونحن وما نملكه من إيمان.. بيننا وبينكم حكايات لم ترو بعد.

لن تهنأ لكم الحياة.. ولن نكون لقمة سائغة.. بيننا وبينكم نضال طويل طويل.. أطول من خرافاتكم وادعاءاتكم.. أغلي ما تملكون أرواحكم وأرخص ما نملكه أرواحنا.. وسوف تنبئ الأيام عن الحكايات الجديدة..

افتحوا صفحات الأيام.. واقرءوا جيدا السطور الأخيرة.. فليس كل كلامنا شعرًا، وليست كل حروبنا صغيرة.. افتحوا صفحات الأيام وتفحصوا الوجوه والشخوص والعبارات المريرة.. واقرءوا بأي لغة تجيدونها عبرية أو بربرية أو عنصرية.. فالكلمات على الأحداث تشهد.. لا تحريف ولا تجريف ولا تخريب..

لا داعي للعنف المبالغ فيه، فأنتم أدري الناس بنا.. كم قتلتم وسجنتم وذبحتم وشردتم وسرقتم وكذبتم..تري.. هل فترت عزائمنا وثبطت هممنا.. لم يتغير شيء فينا.. لا تلعبوا معنا لعبة الترغيب والترهيب..لا هم لنا سواكم.. ولن نفرط في شبر من أراضينا..ولن نأخذ تعويضات من جلادينا.. ولن نبيع أوطاننا..

افتحوا صفحات الأيام تنبؤكم، لكي تعرفوا، وأنتم تعرفون جيدا فمازالت مرارتنا في حلوقكم وأحشائكم وفي تفاصيل نهاركم ولياليكم..

مدينتنا تكبر كل يوم وتنمو.. ليس صحيحا أنكم تسرقون أوطاننا.. فهذا خيال.. رغم العراقيل الأسمنتية والبوابات الإلكترونية مدينتنا تكبر كل يوم وتنمو.. في الأحداق تكبر.. في عقد ياسمين يلتف على عنق وفاء ونضال.. في ضفيرة طفلة ترتدي ثوب العيد.. في تكبير مؤذن من فوق مئذنة مكسورة.. في بكاء عجوز تنتظر النصر في وشاح شتوي.. مديتنا يا سادة تكبر عندما يلتقي الندي ببرعم ينمو ويترعرع ويزدهر على قبر شهيد..