ما جدوى الكلام..؟

خارج دائرة الضوء، وفي الأماكن المهجورة، المتهالكة، الآيلة للسقوط والمتصدعة؛ المنتظرة قرار إزالة.. ينتظر الناس عربات الإغاثة المحملة من الشمال بالمواد الغذائية المشعة.. يطول الانتظار.. ويصاحب الانتظار لحظات الترقب.. تتعلق العيون بالطرق الإسفلتية الساخنة الملتهبة.. وتتجه نحو المكان البعيد الموحش على أمل بشارة أو قدوم قادم.. يطول الانتظار، لا يأتي شيء من الشمال سوى الرياح والزوابع والعواصف التي تقتلع الجذور الصغيرة من الأرض العطشى، ماذا ينتظر الناس من طرق لا تنبت إلا الشوك والصبار..

هل ننسحب من الزحام حيث الأماكن الرحبة؟..

ما جدوى الكلمات والتفاسير القصيرة..!!

وما جدوى الأسئلة والشروحات الصغيرة..!!

إذا كان الكلام ليس له رائحة أو لون أو شكل أو صدي.. لا يقدم ولا يؤخر.. وجوده مثل عدمه، فما جدواه؟.. ولماذا نصر عليه، ونردده دون ملل أو كلل أو حتى إدخال بعض التغيير عليه.. لماذا نضخمه ونكبره بدون داع؟ عندما تتحول الكلمات إلى جثث هامدة ساكنة ساكتة صامتة، فأولي بها أن تدفن بغير صلاة أو تأبين أو إعلان في صفحات الوفيات بجرائدنا المنتشرة من المحيط إلى الخليج..

ما جدوى الكلمات الحبلى بالعدم،

والمخنوقة بسلاسل حديدية؟!!..

المشنوقة على مقاصل النحيب والعواء..

المذبوحة في عيون الحكايات..

ما جدوى هذه التصريحات المترامية يمينا ويسارا، والتي لا تعبر عن الواقع.. ولمن تكتب المقالات التحليلية في الجرائد الوهمية؟ لهم، لنا، للعدم.. أم لتزيين صفحات الإعلانات مدفوعة الأجر عن المواد الغذائية منتهية الصلاحية.. والسلع الاستيطانية التي تخرج من الجيوب جنيهات العدم قليلة القيمة..

يعلنون عن مشروع كبير لاغتيال المناضلين، وتحويلهم إلى أشلاء.. يوصفونهم بالإرهابيين لأنهم يدافعون عن أوطانهم وأطفالهم ونسائهم.. ويخلصون حتى الشهادة..يقذفونهم من الطائرات بصواريخ الرحمة، وينشرون صورهم في الميادين العامة.. هل يروق لهم أن نتحول إلى عملاء وسماسرة نبيع لهم أشجار الزيتون، وضفائر البنات، وأحجار الأقصى؟.. ونبدل الخرائط والتاريخ والحدود.. ونرسم بدلا منها مقابر ومدافن وأنصبة تذكارية..

يداهموننا بالليل والنهار، فكل الساعات مباحة، ليس هناك فروق توقيت، كل الأهداف مشروعة مرصودة مقذوفة.. في الشارع والبيت والمسجد، يقتلعون الأطفال من أحضان أمهاتهم، ومن سرائرهم، ومن الأفنية، ومن أحواش المدارس.. ويوزعون كل صباح صناديق البكاء والحسرة على جموع الشعب.

يجتاحوننا لأننا نرفض القهر والظلم والطغيان، ونزود عن أوطاننا.. يثبتون عيونهم في الزوايا والأركان والخرائب والشوارع الخلفية، حتى يفاجئوا المارين بأسلحتهم، ثم يسألونهم عن هويتهم، وعندما يهمون في إخراجها، يلتقطونها ويمزقونها..ويعيدون السؤال مرة أخري.. أين هويتكم؟ وعندما يخبرونهم بأنها مزقت، يقتادونهم إلى السجون والمعتقلات وغرف التحقيق المظلمة.. ليبدأ التعذيب والتنكيل والترهيب والتخويف.. ويبدأ التحقيق.. أين هويتكم؟؟

في زمن... في بلد لا يملك أي هوية

سيكون مدانا من يملك أي هوية

مزقها.. مزقها يا سجاني

اسحقها.. اسحقها يا سجاني

... وسمعت خطاه ورائي

طق..طق..طق

بلند الحيدري

يصادرون أحلامنا وضحكاتنا وزيتوننا وقمحنا وملحنا، ويهدمون منازلنا ومساجدنا ومدارسنا، وبعد ذلك يبنون جدارًا يفصلنا عن الحياة، عن الهواء، يحكمون قبضتهم علينا، ويكملون بناء الجدار الثاني والثالث والرابع.. ثم يضعون على الجدران بوابات حديدية تمنع الدخول والخروج.. سجن كبير نعيش فيه طلقاء أحرارًا..

يحولون المدن الجميلة إلى سجون لا يسمح فيها بدخول الهواء أو الدواء.. إلا بتصاريح.

يفعلون كل ذلك.. وينتظرون منا السمع والطاعة، وتقديم قرابين الوفاء والإخلاص..

تكثر الشخصيات غير الحقيقية.. الممسوخة.. المنسوخة.. المعادة، التي عندما تتكلم لا تسمعها ليس من فرط أدبها، ولكن من شدة بهتها، تتكلم بطريقة وتتصرف بأخرى.. تناور.. تخادع..تكذب.. تسرق.. تنهب.. تهدم.. تكذب.. تتجمل.. تتهم الآخرين بعيوبها وسوءاتها، تفتعل الضحكات الصفراء، والابتسامات الماكرة واللفتات الملتوية.. تتلون كالحرباء بألوان عدة، تجيد التخفي والتنكر، وتستطيع أن تمكر وتتحايل وتتدعي بغير حق.. تلطخ الجمال وتقبحه، وتجمل القبح وتبرزه.. تقلب الموازين المعدولة، وتحرف النصوص، وتزيف الواقع، شخوص اعتادت على ممارسة الأفعال الفاضحة دون حياء، بل أنها تتباهي بأنها حيوانية عدوانية همجية بربرية..

هل نحن شعوبا تحكمها المصادفة.. والأهواء الشخصية.. لا شي منظم، مرتب، مدروس، تجتاح العشوائية والفوضى والغطرسة حياتنا، تخترق شوارعنا الآمنة فتثير فيها الرعب وعدم الانضباط،.. تسن القوانين عند الحاجة، وحسبما تقتضي الظروف، لتنظم سلوك الإنسان.. بعدما تتركه يئن من ويلاتها، تنقض عليه لتعلمه حروف الهجاء الجديدة، فالإنسان هو جريمة هذا العصر..

تجوب الدبابات الأزقة بحثا عن أطفال مفزعين، حتى تفزعهم أكثر، وتطلق عليهم طلقاتها النارية، فتفتك أجسامهم، وتفتك أحلامهم وتجعلهم بقايا متناثرة على الطرق.. أعضاء بشرية للفرجة.. ثم يحتالون بعد ذلك ويفككون أعضاء الصبية ليرمموا بها أطفالهم..

لماذا الجلادون.. لا يسئمون من إطلاق سياطهم في أبداننا النحيلة كل صباح.. ولماذا ينتشون عندما ترتفع أصواتنا بالصراخ، ولماذا يمتعهم مشهد الدماء وهي تسيل من وجوهنا؟

ولماذا الديكتاتوريون.. لا يضجرون من فرض قوانينهم الظالمة الطاغية على العباد والبلاد.. ويشعرون بالزهو عندما تقصف الرءوس بحثا عن القوت.. ولماذا يرضي غرورهم انحناء وانكسار الرءوس؟؟

يا فلاسفة الفوضى، ألم يكفي كل هذا الدم المراق؟!! ألم يكف كل هذا الخراب، تموج السماء بسحب الدخان الأسود، وتضيق مساحات الحياة، وتتسع طرقات الظلم والقهر، الصورة قاتمة وكئيبة..

ضاقت فسحة الحياة.. فاحذروا يا أبناء وطني الطرق العرضية والالتفافية، الأيام عصيبة، لا تترك يد أخيك، لازمه في السراء والضراء، لا تش به، وأحفظه، اجعل جسدك درعا لأخيك، ولا تلق به في التهلكة، أرشده إن ضل طريقه... لا تجعل الأشرار يكيدون لكما.. فتقتتلا.. سيحاولون زرع الألغام بينكما حتى وأن خطت قدماكما أرض الشارع انفجر اللغم في وجهكما.. تحسسوا الطرق، وتنبهوا الأيام عصيبة..