سقط السيف.. فماذا نقول للقبيلة؟ وماذا ندون في صفحات الجريدة؟ هل نسقط اليوم من حسابات المدينة؟..هل نستطيع أن نقيم عرسا في البادية؟ أو نعلن عن نصر في الأيام القادمة.. وأي الوجوه نرتدي بعد أن عصفت الريح بكل ما تبقى لنا من عافية..
إن ما حدث في ساحة الفردوس لم يكن عرسا شعبيا، أو احتفالا بميلاد أمير بدوي..بل كان حفلا لتأبين الأمة العربية..إن ما حدث شيء قد لا يتكرر في دورة الحياة مرتين.. فهل أخطأت العين الرؤى؟..
أسقطوا التمثال في الساحة.. فمن نحتوه؟.. ومن نصبوه؟.. ومن وضعوه في قلب المدينة؟..أتوا اللصوص يا بغداد من كل قبيلة، وقاموا بذبح المرضعات، لتصرخ الأطفال ذليلة..
ماذا نقول للأجيال القادمة، والقبح ينتشر بالمكان، وتفوح رائحته العفنة.. هذا نهار الوحشة الباغية.. تاهت في الصحراء الواسعة أخبار القافلة، ولم يأت مكتوب أو حمام أو رسالة.. علينا انتظار القحط في الأيام الكاحلة..
انتفض الغوغاء على بغداد الحزينة الجريحة ليزيدوا آلامها، وليشهروا السيوف الخشبية في وجهها.. استباحوا أشجارها وأنهارها، ونزعوا الرحيق من الزهور الساكنة مقابر الشهداء.. كما خلعوا من أعمدة الإنارة المصابيح.. ومن المساجد سرقوا المصاحف، وعندما أذن الأذان أعلنوا بأنهم على سفر..والماء غير كاف للوضوء..
عندما يستصعب علينا ترديد الحكايات المريرة في الأزمنة المرة، يزحف الشجن إلينا، ويداعب الحزن والألم الساكن في أحشائنا.. يدغدغنا.. يطحن عظامنا.. يفتت لحمنا، ويبعثر دمائنا.. ويسقط الجدار الأخير، يغوص داخلنا، ونغوص نحن داخل الذكريات المتعبة الشقية لنرتشف الصبار كل صباح، ونئن من الجراح.. وفي المساء يتسلل إلينا هاجس الخوف ويُكمل السهرة على أنغام أوجاعنا،كل مساء، نرتجف..نرتعد.. نشعر بالوحدة من المجهول والحاضر والقادم والماضي ومن أنفسنا وذوينا والطير السابح في السماء يحرسنا.. نعيش داخل حدود المكان الموحش بنصف قلب ونصف عقل ونصف جسد، فنصير أنصاف بني بشر، ونتحمل بهذه الأنصاف المرهقة الصارخة جرعات الألم مضاعفة..
لا أستأذن أحدًا!
بهدوء وروية
أقذف حجري
في وجه الكرة الأرضية
وأغني
سميح القاسم
بيدنا لا بيد عمرو.. نتجرع كئوس الهزيمة..ونزايد بالقصائد الكسيحة في زمن الصم والآذان الذبيحة..
اغتالوا بغداد في عين النهار.. وحملوا المتاع أمام التتار.. ولم يحرجوا ولم يأسفوا..لابد أن نعيد المشهد..أن نجعل الأسطوانة تدور ليل نهار بغير انتظار.. إنها ليست صورة عابرة في ألبوماتنا اليومية.. إنها لحظة يصعب تجاهلها، لابد أن نعيد المشهد مرة واثنتين وثلاث، وأن نتذكر جيدا أن التاريخ سوف يدون ما حدث، بتفاصيله الصغيرة والكبيرة والمثيرة والمريرة.. الساعة.. اليوم.. التاريخ.. المكان.. الزمان.. وكل من شارك بالصمت أو بالخوف أو بالتواطؤ، سوف يسجل التاريخ ذاك النهار الذليل، فالصورة لا تحتاج إلى تعليق أو تحليل، طافت الكاميرا على الوجوه وسجلت ملامحهم وانطباعاتهم ونظرات عيونهم، وطبعت الصورة في الذاكرة..
هل أتي الغروب المظلم؟ أم تلك بشائر غروب آخر، أكثر إظلاما وأكثر إيلاما وأكثر خضوعا وانكسارا، ماذا تدخر لنا الأيام القادمة.. أتت العاصفة وسقطت ورقة التوت الأخيرة.. وقصفت الأقلام والعبارات القصيرة..
في خلفيات الصور الحزينة الكئيبة المهينة، دموع تختبئ في الأحداق، تتراقص، تتأرجح، لكنها تستحي أن تسقط فتراها الكاميرات الجوالة.. أو أن تنهمر في صناديق الزبالة..أو أن يقولوا إنها دموع بغداد.. إن بغداد الحضارة والمنارة لم تسقط، ولن تسقط!! إنما سقط أرباب الدعارة والتجارة.. فكيف للحلم في الأفق من سقوط.. وكيف للنجم في السماء من أفول؟ وكيف للشمس من غروب ورحيل؟
مأساتنا أننا نفرط في كل شيء.. عندما نحب نعشق حتى العبادة.. وعندما نكره.. نكره لحد الإبادة.. نغدق بوفرة ودون حساب.. نجود بكل ما نملك..لا نقف في المناطق الوسطي.. إما مؤمنين أو ملحدين..لا توجد منطق وسطي.. فنحن شعوب تمسك أطراف الأشياء فيسهل علينا الجنوح ويسهل علينا الطيران.
دافعت بغداد عن قصيدتها الحزينة ليال طوال.. أتعبها وأنهكها العناء.. فاستراحت قليلا.. قليلا وليس كثيرا..
أقيموا حلقات الذكر كيفما تشاءون.. فلن نتدروش في موالد الغازين.. فمازالت آثار الغزو على الجدران شاهدة.. تنطق بالمآسي والجبروت. ولم تخرج بعد أطفالنا من المشافي.. فمازالوا يحتلون أماكنهم راضين مستسلمين، معلقة لهم المحاليل والمضادات الحيوية، مازالت النساء المتشحات بالسواد والثكالي على أبنائهن وأزواجهن وديارهن وأوطانهن يذرفن الدموع ويتجرعن الحسرة..مازال الجرح ينزف، لن ننسي، أعيدوا الزمن من جديد حتى ننسي، فالدماء في الشوارع وثيقة إدانة لن تمحوها الأيام، والقبور المكتظة بالشهداء وثيقة إدانة..وسطو الغزاة والعملاء وأنصاف الرجال وثيقة إدانة. فكيف ننسي هذه المهانة..
وجوهكم أقنعة بالغة المرونة
طلاؤها حصافة، وقعرها رعونة
صفق إبليس لها مندهشا، وباعكم فنونه
أحمد مطر»
سيأتي صبح نرتل فيه آيات النصر، وأناشيد البطولة، فمع صوت المدافع، تصمت القصائد البليدة المستكينة الخاضعة الخانعة..ولا صوت يعلو فوق صوت الشهيد، لن يتاجروا بنا على أرصفتهم المشبوهة.. وسنعرض صورهم القبيحة وصور من ولاهم، أليسوا هم الذين عبئوا الرجال وشحنوهم في العربات معصوبي الأعين، موثوقي الأيدي إلى معسكرات الاعتقال ليحاكمونهم بتهمة حب الوطن.. من نصدق؟ عيوننا أم عيونهم! على من يضحكون.. علينا أم على أنفسهم؟!..
ماذا نقول للتاريخ، وماذا نقول للأمهات الواقفات على مراسي الوطن في انتظار ابن لن يعود، وآلاف الزوجات اللائي فقدن أزواجهن.. وآلاف الأطفال الذين فقدوا آباءهم.. وآلاف وآلاف..وآلاف.. نحن نحتاج لألف تفسير.. وألف تبرير..
من سيدفع ثمن ما حدث؟ يتسول المرتزقة الجدد داخل أيامنا وليالينا.. يتسكعون ويتجولون، يتصعلكون في الشوارع ويتفقدون الحالة الأمنية، بعدما اعطوا للفوضى الضوء الأخضر ليعيثوا في الأرض فسادا، حيث السطو والقتل والبلطجة تحت أعينهم.. يدخلون البيوت والمحال والدواوين دون استئذان، ويفتشون ويبعثرون، ويصحبون معهم ما يشاءون من رجال وأمان وأحلام، ويتركون بعضا من زجاجات المياه الغازية الطاغية الغاشمة.