سقطت الأقنعة..كل الأقنعة..وتكشفت عن الوجه القبيح نتوءاته وسوءاته..وبدت ملامحه الحقيقية واضحة وضوح الشمس في السماء.. نزعت الماسكات والوشوش الصناعية، وانتهي حفل التنكر والمسخرة، وعندما سلط الضوء على الوجوه المختبئة وراء مساحيق المكياج ظهرت التجاعيد المنتشرة هنا وهناك.. انكشف المستور.. لم تفلح عمليات التجميل.. لم تخطئ العين النظر ولم تحجب الرؤى عن النوايا السيئة التي لم تختف من البداية.. سقطت الأقنعة.. كل الأقنعة.. وسقطت معها التماثيل الرخامية والوجوه البرونزية وأغاني المناسبات والاحتفالات المفبركة وأعياد الميلاد الاستفزازية.. ولم يبق سوى النشيد والعلم وزهرة على قبر الشهيد.. وحلم في الأفق يبدو ويختفي..يتأرجح بين الحين والآخر..
وشم الزمن على البدن
ولا على حالي
ادفع بايدي التمن
والدنيا تحلالي
اقرا الوشوش والسحن
واغني موالي
هي حياتنا كده
من المر والحاني
طاهر البرنبالي
هل سوف يرتدي الكاوبوي العباءة العربية؟ ويحملون سيف عنترة ليبيدوا القبائل المغيرة على العروبة، هل سوف يفكون أسر سبايانا المنتشرات في سجون التتار؟ ويصونون التمر في الواحات الخضراء..ويبنون دورا للعجازي ومدارس للصبايا ويشقون الأرض قنوات مياه تروي الأرض..ويكتبون من جديد قصائد النصر بالانجليزية مصحوبة بالترجمة.. إذن فمن حرق الأشجار العربية؟، وقتل الأطفال العربية، وأسر الرجال العرب، وهدم البيوت العربية وقصف أبراج الحمام بسهام عربية، وسرق الأموال العربية، ونهب القصور العربية، وجعل العرب جميعا بيوت مال للمخططات الشيطانية.. ومن سرق مياه دجلة وجعلها مغسلا للشواذ.
إنهم يبررون قبل ذبحنا؛ حلال لحمنا، وحلاوة طعمنا، فيقدمون أسانيدهم الكاذبة الخادعة ويأتون بنصوص محرفة مزورة ملفقة، ويأخذون عليها التصويت بالموافقة الجماعية.. وبعد ذلك يحضرون سكينا حاميا لينحروا براءتنا على مرآي ومسمع من أولادنا وبناتنا وأمهاتنا وفقا للشريعة الهولاكية.
إنه الوجه القبيح الذي يحاولون أن يخفوه عن عيوننا بزيادة كمية المساحيق والرتوش الصناعية.. لكنهم يجهلون أننا نري ما تحت جلدهم، ونعرف مجري دمائهم.. تلف الأيام الأيام، وتطوي السنون.. وتكتب في الصفحات البيضاء سطور الحكايات السوداء.. ويمثل هذا العصر أسوأ فصول التاريخ.. وأشدها ظلما وقتامة.. وتخفي الحقيقة حينا، لكنها لا تخفي وجه راشيل المضيء الذي تكامل مع الحياة.. لا يخفي وجوه الحالمين بوطن آمن تسوده الطمأنينة..
ولأنهم ينصفون الحق وينطقون الصدق، فهم يتركون الغوغاء ينهبون ويخربون ويفسدون، ويسهلون لهم الجريمة، وبعد ذلك ينصبون المحاكمات العلنية منددين وشاجبين، ويتهمون عملاءهم علنا بأنهم خرقوا المواثيق الدولية.. ويرددون دون خجل من يملك أسلحة دمار شامل.. فهو إرهابي.. وهم يملكون كل الأسلحة.. ومن يسطو على أرض غيره فهو إرهابي.. وهم يسطون على كل الأراضي.. من يعتقل ويسجن بغير حق فهو إرهابي، وهو يعتقلون ويسجنون الأفراد والأوطان والهواء..يطالبون بحق العلم والمعرفة، ويلاحقون العلماء ويتعقبونهم.. ولا يخجلون ولا تطرف لهم عين.. ويصرحون علنا بأنهم جاءوا إلى أوطاننا لنشر العدل والمساواة.. فيسرقون العدل ويغتالون المساواة..
لسنا للبيع ولن نكون، نحمل أكفاننا في مسيرات جماعية..وتعلن صدورنا التحدي للقناصة والمرتزقة وسارقي الأوطان.. نخرج من بين الأنقاض رفاتنا وذكرياتنا ودفاتر الفصول وشوار الصبايا.. نتناقص كل يوم كل ساعة.. لكننا صامدون.. ربما يأتي يوم بعد شهر أو عام أو ألف عام.. لكنه سيأتي..
جلس الجائعون على موائدنا العامرة، والتي صمنا عنها دهورا طويلة.. ليلتهموها ويحشو بطونهم التي لا يملؤها شيء.. وراح المهرج الموتور المتباهي يؤدي دوره الممسوخ في الرواية الساقطة، ويحاول أن يلفت أنظارنا إليه.. ولأنه ممثل فاشل لم يستطع إقناعنا بما يقول، يحاول مرارا لكنه في كل مرة يفشل. وفي كل مرة يأخذ قطعة أخرى من لحمنا وأرضنا..وتستمر الحياة دون انقطاع..وللحياة ثلاثة وجوه. إما الهروب، أو المشاهدة أو الالتزام.. فالهاربون ينزحون من أيامهم وتاريخهم، يرتمون في أحضان الرذيلة، طامحين في الحماية الذليلة.. مارقين كاذبين خادعين.. يبيعون أنفسهم وأوطانهم وأولادهم، فلا يشتريهم أحد.. يرتدون وجوه الثعابين ويندسون بين الناس لبث السموم، وإشاعة الفرقة، وبث الفتنة. لا تحصد أيديهم في النهاية إلا ما زرعت.. فبئس ما زرعت وبئس ما حصدت.. والمشاهدون وهم للأسف كثرة.. وجودهم مثل عدمهم، غير فاعلين أو مؤثرين، لا فائدة منه ولا نفع، مجرد أعداد، وهم غالبا خارج الكادر، لا يحملون صوتا، وغالبا ما تكون أصواتهم باطلة، دائمًا في حاجة إلى من يقودهم، ولا يستطيعون اتخاذ أي قرارات.. محبطين ومهزمين.. فهم أنصاف بشر يساقون عندما تقتضي الظروف وجوه كومبارس خلف الصور الخادعة حتى يضيفوا عليها شيئا من الموضوعية والمصداقية، ولأنهم مهمشون عدميون فأن وجودهم يكشف الصور أكثر ويفضحها، لذا يتم أحيانًا التضحية بهم والتنصل من أفعالهم، وتوجيه اللوم والتوبيخ والتأنيب لهم.. وإما ملتزمون وهم دروع الأوطان وحماته..الواقفون الساهرون في طوابير النضال.. المحشورون في المقابر.. المراقة دماؤهم على الإسفلت وداخل الزنازين السرية.. المبعدون عن أوطانهم قسرا وقهرا.. المضحون بأنفسهم..
الآن كل شيء مباح.. لا فرق بين حلال وحرام.. اختلطت الموازين وصودرت البراءة واغتيلت الحرمات في الشوارع العامة، لا صوت يعلو فوق صوت الباطل.. ومازالت المشنقة تبحث في العيون عن أسئلة.. فمن يسأل في زمن المقصلة؟ ومن لديه الشجاعة لطرح السؤال داخل همساته وأنفاسه..انتشر في الجوع في الأرجاء فمتى يؤذن لحفلات الطعام..
سقطت الأقنعة.. كل الأقنعة.. ومازال الموت يحصد في الأرواح، ويواصل الطغاة عدوانهم وبطشهم.. مازالت الفوضى ترتب وتضبط المكان والزمان، مازالت الأحكام العنصرية والهمجية والعرفية والدولية تعلن كل صباح عن حظر التجوال وحظر النضال وحظر الكلام وحظر الحياة.