حط وابور الغلابة على رصيف العدل.. وتنفس البسطاء الصعداء.. وملئوا صدورهم بعد طول عناء هواء الإنصاف..قد يتأخر العدل ويبطء في قدومه.. فيظن البائسون أنه ولي ولم يعد له وجود، وقد يأتي ممتطيا حمارا من سفر طويل طويل.. لكنه يأتي في نهاية الأمر.. أحيانًا يصل ولا يجد أحدا.. وأحيانًا يتعثر، وأحيانًا يتوه ويضل أصحابه.. لكنه على أي الأحوال يأتي.. وهذا هو المهم.. وعلينا ألا نمل أو نكل من مطالبته وتعقبه وملاحقته في كل مكان.. وألا نعمق ثقافة الظلم حتى تصبح كالماء والهواء. وإذا كان العدل يأتي بشق الأنفس، فإن الظلم -وللعجب- يأتي دائمًا مهرولا مسرعا.. أسرع من البرق، لا تقف أمامه حواجز ولا عوائق بيروقراطية، يجتاز كل الموانع، لا يعرقل طريقه أي شيء.. يحصل على كل التوقيعات والأختام والتوصيات المطلوبة، ويزيل بكلمات الاهتمام وسرعة التنفيذ.. ولأنه يأتي فوضويًا جامحًا شاردًا، فهو غالبًا ما يزيح أشياء في طريقه ما كان لها من مجرمة أو مذنبة سوى أن حظها العثر جعلها مقابلة لهذا الطوفان المسمى بالظلم، فيجحف ويعسف ويطيح دون إناءه أو هوادة.
كثيرون دفعوا حياتهم ثمنا لما آمنوا به، وما كان أهون عليهم من مجاراة الأمور، والسير في ركب الموجة، والانحناء للرياح والعواصف، حتى يمروا بسلام.. ألا أنهم لم يرضوا عن ذلك بديلا.. فعانوا وقاسوا ما لم يقاسه بشر من أجل ما يؤمنون به، ولم ينتظروا من جراء ذلك تكريما أو تصفيقا بل كانت كل مكاسبهم هي احترامهم لذاتهم ولما يؤمنون به..
لم تكن كلمات المستشار سعد عبد الواحد مجرد تلاوة لحكم ببراءة المتهمين في قضية قطار الصعيد من تهم لم يقترفوها، بل كانت طلقات دوت في أرجاء المكان والزمان، لتعلن بجرأة وقسوة أن هناك شيئا مغلوطا رتب له بعناية ودهاء وحنكة فوجب تصحيحه.. ولتحذر أيضًا من عواقب زج الأبرياء في القضايا الوهمية.. وقلب الموازين واختلاق الحجج الواهية، وإشاعة الظلم الطبقي.
لم تكن كلمات البراءة هي بيت القصيد.. بل كانت حيثيات الحكم أشبه بالزلزال الذي هز أعماقنا من الداخل فتصدعت كل الجدران الزائفة الآيلة للسقوط، كانت أشبه بالفيضان الذي اجتاح كل التراكمات والتلال البالية التي صنعت مناخا استفزازيا أباح الفساد والمحسوبية وظلل عليه بأجنحة وطواطية، بل كانت الكلمات ناقوس خطر ينبئ عن مخاطر وأهوال ورياح إن لم ننتبه لها عصفت بنا أدراج الرياح، وطوتنا في صفحات النسيان.
جاء الحكم الأسطوري غير ملتفت للصخب المزيف والأبواق الناعقة الزاعقة التي لا تسمع إلا صراخها ونباحها، فأعاد ترتيب الأشياء التي أغفلت بفعل فاعل، فنصبت العدل على العباد والبلاد..
خرج الناس في أرجاء المحروسة مستبشرين فرحين مهللين.. يحيا القضاء.. يحيا القضاة.. فهم بحق ورثة الأنبياء.. ويقول في ذلك رفاعة الطهطاوي: «إن القاضي متى تقلد منصب القضاء فقد أصبح بيده زمام الأحكام، وفصل القضاء الذي عساه أن يعرض على غيره من الحكام، فليترو في أحكامه قبل إمضائها، وفي المحاكمات إليه قبل فصل قضائها، وليراجع الأمر مرة بعد مرة حتى يزول عنه الإلباس، ويعاود فيه بعد التأمل كتاب الله تعالي وسنة رسول الله (ﷺ) وما أشكل عليه بعد ذلك فليجل مظلمة بالاستخارة، وليحل مشكله بالاستشارة، ولا ير نقصا عليه إذا استشار...» ويضيف الطهطاوي: من أجل طبقة العلماء هم القضاة، فرتبة القضاء قد جعل الله إليها منتهي القضايا، وإنهاء التظلمات والشكايا، ولا يكون صاحبها إلا من العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، فالقاضي متولي الأحكام الشرعية لهذه الرتبة كما ورث عن النبي صلي الله عليه وسلم علمه ورث عنه بهذه الوظيفة الشريفة حكمه»..
وحسنا فعل قاضينا عندما حكم، فطبق شرع الله.. لذا استحق كل الثناء وكثير التقدير..
يخطئ من يظن أن المحكمة أنصفت وبرأت أحد عشر متهما.. قدموا على مذبح الحياة قربانا لشياطين الفساد والإهمال والمرتشين والمنافقين والأفاقين وكدابين الزفة.. بل كان الحكم بمثابة براءة لكل التعساء والبؤساء في كل نجوع وقري وكفور مصر المحروسة منذ عهد مينا وحتى يومنا هذا..
تري هل مصادفة قدرية.. أن يكون الضحايا من الغلابة وأن يكون المظلومون أيضًا من الغلابة.. أم هي أشياء مرتبة بفعل الشياطين؟.. وهل هي مصادفة أن يتشابهوا إلى حد التماثل، فعندما نتفحص وجوه الضحايا التي تفحمت أجسادهم وتاهت ملامحهم وبين الواقفين خلف القضبان.. قد لا نجد تباينات كثيرة فهي نفس الوجوه الشاحبة النحيلة المنقبضة الآمنة بقضاء الله وحكمه..
هي نفس الوجوه الكادحة الشاقية الساعية من طلعة الشمس وحتي غروبها سعيا للرزق والعيش والأمان..
هي نفس الوجوه المنتحبة الضارعة الوالهة الصابرة والراضية أيضًا على البلاء وقسوة الحياة، وهي أيضًا نفس الوجوه الواقفة في طوابير الحياة.. إما انتظارا لمقاولي الأنفار، وإما انتظارًا لعزرائيل لكي يشحنهم في صناديق الأموات.. فهم مازالوا يتدثرون بأحلامهم البسيطة المتواضعة في الشتاء لتقيهم برودة الجو وسقيع الحاجة.. وهم أيضًا من يكتوون بقيظ الصيف وحرارة الشمس.. وتلتهب أجسادهم لكنهم لم يفقدوا توازنهم.. فقد طوعوا المناخ وفق حاجياتهم وظروفهم وحتى سبل رزقهم..
إنهم أناس يعيشون على هامش الحياة في دعة ورفق ومزيد من البؤس والمعاناة والحرمان أيضا.. راضين بحياتهم قانعين بما هو مقسوم لهم.. أحيانًا يبدو وكأنهم سلبيون غير طامحين في الدنيا.، ولكنهم على عكس ذلك فقد ارتضوا بنصيبهم، وقد تعجب عندما تفتش داخلهم فتراهم لا يأملون سوى القليل وربما أقل القليل.. فهم لا يسعون إلى الفرش الوثيرة، بقدر حاجتهم إلى حصير تفصل أجسادهم عن الأرض الرطبة.. يحتاجون ما يسترون به أنفسهم، يحتاجون ما يسد جوعهم ويشبع عطشهم.. يحتاجون إلى الستر في زمن مفضوح ومكشوف ومفتوح على مصراعيه..
الموت حق لا مناص منه ولا استرجاع.. لكن هناك جناة مازالوا ينعمون برغد العيش، ويتوارون خلف أياديهم الممتدة إلى حلوقنا لتفرغ ما في بطوننا من فتات الطعام.. هناك جناة تسببوا في إزهاق 361 روحا بريئة من بسطاء هذا الوطن، دون أي جرم.. ترى هل يمتد سيف العدالة والإنصاف لبتر هذه الأيادي الممتد، العابثة بأحلامنا وطموحنا ورزقنا وأماننا؟ هل يمتد ليقتص من هؤلاء المرتزقة تجار الأرواح وبائعي الأوطان..
مدي أيديك ليه
.. في المنفي البعيد
مدي ايدك ليه من بين الحديد
وأفرديها
واحضني بنورك جروحي
قبل ما تميل بروحي للغروب
قبل ما تدوب الأماني
وتشوفيها
لحن تايه
لحن أنغامه دموعي
محسن الخياط- الواحات