شهداء وأمهات

فتحت كتب التاريخ صفحاتها البيضاء، لتدون أساطير شباب 25 يناير، تكتب بالصدق قصائد الحياة والخلود لكل البائسين الحالمين بصباح جديد مشرق يملؤه الخير والأمان، كل الأشياء أصبحت مباحة، ولم يعد هناك مستحيل، بعدما تناثرت دماء هؤلاء الأبرار على جدار الوطن لتروي تفاصيل ذلك اليوم المشهود وما تلاه من أحداث خرجت بمصر من نفق الظلام إلى طاقات النور، وستذكر كل الأجيال بأن سريان النهر الذي جفت ينابيعه طوال قرون سحيقة عاد مرة أخرى ليروي كل الأراضي البور التي ظلت مهملة، ويعطي الدروس الجديدة في ساحة النضال ليتعلم منها كل الشعوب التي تتطلع للتحرر والاستقلال.

انتهى النهار أو كاد، وحل الليل أو كاد، وانتظرت الأمهات بقلوب صابرة عودة أبنائهن، ينصرم الليل أو يكاد، وتأتي الأخبار الموحشة من هنا ومن هناك، ويعتصر القلب وترتجف الأجسام وتذرف الدموع ويستبد القلق بالأمهات، ويصبح الانتظار لا يحتمل، وتأتي الأخبار تباعا بسقوط شهداء، وكثير من الشباب لا يعودون، وتتوالى الأسئلة ولا أحد يجيب، بعد أن حلت علامات الاستفهام المكان وفرضت سطوتها، ويزيد الأمر سوءا عندما تنقطع كل سبل الاتصال، لتزداد الوحشة وليستبد القلق بالجميع، وتتطاير أنباء عن استشهاد واحد واثنين وثلاثة والعداد الجهنمي لا يمل من تمزيق القلوب، لكن الأمهات ما زلن ينتظرن الفرج الذي لا يأتي، يسقط الأبناء في حضن الوطن وبين أيادي أقرانهم مبتسمين رافعين الجباه.. لكن الأمهات ما زلن ينتظرن خبر الشهادة لتدوي آه في الأرجاء تكسر كل سبل الصبر وتستبيح كل محتمل، ولا يبقىي سوى الصبر على الابتلاء، يموت الشباب وهم صابرون مسالمون حالمون مؤمنون، لم ترتفع أياديهم إلا للهتاف والدعاء، بأجسام عارية مستسلمة إلا من الإيمان.. «ثورتنا بيضاء.. نريد حقنا في وطن حر»، لكن رصاصات الغدر تأبى للحلم أن ينطلق فتتسلل وتلتقطهم واحدًا تلو الآخر، وتستبيح المكان دون حياء، محاولة أن تسكت صوت الحق الذي ظل يتردد في المكان ولم ينقطع، يموت الشباب ويستشهدون في أرض الميدان ويكتب التاريخ الشهادات العظيمة ويسجل أسماءهم وملامحهم ليكون 25 يناير أشرف وأطهر أيام الوطن.

هناك فتاة وقفت على ناصية الطريق تخطب الموت حبيبًا أبديا فداء للوطن، ظلت عيناها محدقتين في الأفق البعيد وكأنها تتبادل حديث الحياة الأخير، وربما فتحت ذراعيها والتقطته لتحضنه وتمضي.

وآخر تحلق حول الحلم وعندما هم بملامسته خطفه فأطلق ضحكة النهاية الجميلة وظن البعض أنها لوعة الموت ومضى، أمثلة كثيرة وجديدة لم يخطها قلم من قبل، ولم تشهدها عين، وستظل ناموسا وعهدا لكل الحالمين، إن مصر أرض تولد من رحمها الحياة لتهب للآخرين البقاء.

تظل الأمهات الصابرات المؤمنات يتذكرن المشهد الصلب برحيل الأبناء، ربما تتسلل إحداهن إلى الغرف المغلقة الخاوية من سكانها، وتلقي في عبث ملائكي حوارا مع شهيدها ووليدها، وأخرى تتحسس ملابسه وتشتم رائحته الزكية وتطلق للعين طوفان الدموع الذي لا يتوقف، ومنهن من غسلت ملابسه الملطخة بالدماء حتى إذا ما أتى ارتداها، وأخري رتبت حاجياته وأعدت الطعام وظلت تنتظر الغائب، وأخريات لم يصدقن بعد الرحيل يقفن بالشرفات يراقبن الطريق لئلا يعود من هنا أو من هنا، وصابرات احتسبن أبناءهن عند الله، لكن من قتل الأحباب وفرق شملهم وسدد بيده المغلولة الطعنات في صدور هؤلاء الأبرياء؟

هناك أيضًا جنود غلابة بسطاء راحوا في الصدام، منهم من تلقى حجرا ليسقط على الأرض دون أن يفهم لماذا أتى الميدان، ولماذا مات، تاركا زوجته في حملها الأول، وحسرة والديه، وطفل لم يولد بعد للحياة، وربما بكى في أحشاء أمه. وراح من يحاول تسجيل الاحداث فروعه الموت بطلقة من قناص يختبئ بأحد الاسطح، ولم يكن مع ذلك أو تلك.

وهناك رجال الدفاع المدني من رجال الشرطة الذين كانوا يخمدون نارا في عقار بالحرفيين لم تكن أقوى من تلك النار المشتعلة في التحرير، أفرغوا البيت من سكانه، لتسقط الجدران عليهم ويستشهدون بعدما أمنوا الخائفين. وذلك الجندي البائس الذي يقبع في برج عال يراقب المدى البعيد على حدود مصرنا دون سلاح أو عتاد فيتلقى رصاصة من آثم. وآخرون توالى سقوطهم بغير ذنب ودون تحديد الجاني.

كل هؤلاء الأبطال (846 ضحية في جميع محافظات الجمهورية) مع إخوانهم الشباب يشكلون ضفيرة واحدة تزين مصر وتحتمي بها وتقويها وتدفعها إلى الأمام. ألف سلام وتحية لكل الشهداء الأحرار على مر التاريخ والعصور.