تلك الأكذوبة تكمن وراء باب رحِم كل أم ، فكيف تأتيك الطعنة من طفلك ، أو كهلك ؟... ربما لم أستطع ذكر الأحداث كاملة ، ولكن من وراء تلك الحيطان ذات اللون الأبيض والشبابيك الحديدية ، أستطيع أن أقول لكم إني لست مجنونة ، ربما هي أقدار زمنية أوحت إليها أن العمر يوم ، وهي عاشته كذلك ، فكيف تخضع لزمن طفلتك التي عاشت مراحل العمر في يوم ؟!
عندما وُلِدت وضعتُها بين أحضاني برفق ، كعصفورة تحمل ابنتها بشغف ، وكأني أمسكت بقطعة من رحمي بيدي ، العيون الواسعة والرموش الطويلة والوجه المستدير ، حقًا كانت لحظتها أشبه بالملائكة ، فكيف لملاك أن يُطيل النوم بين كفيك ؟ وهكذا فعلت بي ، كانت ابنة يوم واحد ، فكان يُزعجها نومي بمجرد ساعة واحدة ، وكأنها ولدت لتشبع من حنان عيون الأمهات فقط ، فبمجرد نومي لأول مرة بجانبها ، أيقظني أنين صوتها وآلام ثديَيَّ ببعض من حنين أبيض لها... ربما تنْزعج عندما تعلم أني أفقتُ على كابوس وليس حنين ، فوجدتها بجوارى كهلة بجسد صغير كما هو ، ولكن بشعر أبيض ورموش ربما لم تكن من البداية ، ووجه مجعد ، تلك الصفعة التي تأخذها على القلب والخد والرحم مرة واحدة ، عندما تجد طفلك ابن اليوم بشكل عجوز في السبعين ، فكيف أستطيع أن أرضعها وأسنانها مكتملة كما لو كانت شابة ؟ ربما لو مشت في وقتها لاحتاجت إلى عكاز أو كرسي متحرك.
ظلَّت تلك الأفكار تزعجني ، كيف أكتم صرختها ، أو أصدق للحظة أنها طفلتي أو ينجذب صدري ناحيتها لأرضعها حنينًا ، لتلك الحياة التي رفضتها وجعلتها كهلة من ساعة واحدة ، فلا تنْزعج من فعلتي ، فأنا لم أجن بوقتها ، فكيف أجن بعدها ؟!
ستصيبك كل علامات التعجب عندما تعلم أني أرضعتها في تلك اللحظة ، *أرضعت عجوزًا في السبعين من شكلها وطفلة بنت يوم من عمرها* ، فقلت لها وقتها وكأنها تفهمني: *رفقًا بصدري فلا أستطيع أن أتحمل آلام عمر قلبك الميت تعض فيَّ ، فكيف أرضعك مرة ثانية ؟ فما أصابك وجعلك كهلة وأنتِ بجواري ؟*
تحملتُ ألم رضعتها أول مرة ، وبعد ساعة زادت صرختها بالغرفة ، وما لي أن أسكتها مرة أخرى بصدر الحنان ، وكيف لرحم الأمل أن يلد ذلك الوجع ؟!
عدَّت دقائق وشيء من الحنين جعلني أسكب من صدرى ما يروي جوعها في كوب ، وبعد أن فرغت هي من شرابه ماتت ممسكة بصدري ، فهل هي كهلة بالفعل أم حنين صدري لوثه الهواء فماتت بسُم الحياة ؟!
في النهاية كل ما دفعني لقطع صدري بعد موتها بلحظات ، ليس بحالة جنونية تستدعي وجودي في تلك الغرفة ، ولكن لأني علمت ما لم تعلمه ابنتي ، أنها ماتت لحرمانها من الحنان الأبوي وهي داخل رحمي ، فأدركت هذا في يومها الأول في الحياة ، فجاءتها نوبة من العجز ، والنوبة الأخيرة لأنها لم تصدق حنان صدري.