الرحلة الثانية
صديق الموتى
بالو ألتو، كاليفورنيا يونيو 7102
تنتابني السعادة عندما أعلم أن هناك رحلة عمل إلى الجزء الشمالي من ولاية كاليفورنيا خلال شهور الصيف؛ فبينما تكون درجة الحرارة في ولاية تكساس في أواخر الثلاثينيات، وقد تصل في بعض الأحيان للأربعين سيلزيوس (104 فهرنهايت)، لا تتعدى درجة الحرارة في سان فرانسيسكو ومنطقة الباي 30 سيلزيوس (85 فهرنهايت) ولهذا تكون هذه الزيارات بمثابة إجازة قصيرة من حرارة صيف تكساس.
هبطت طائرتي في السادسة مساء في مطار سان فرانسيسكو الدولي وكان الفندق محل إقامتي في مدينة بالو ألتو إحدى المدن المشهورة باستضافة شركات التكنولوجيا العملاقة، كانت الشوارع مزدحمة بالسيارات فهو وقت خروج الموظفين من أشغالهم، كان سائق أوبر آسيوي الملامح هادئًا وقليل الكلام، أشار جهاز الجي بي إس إلى أن الوقت المتبقي للوصول إلى فندقي 75 دقيقة؛ أيقنت أني سأظل مع هذا السائق لمدة ساعة وربع فقررت أن أبدأ الحديث لكي أضيع بعض الوقت.
- هل أوبر هي مهنتك الأساسية؟
- كلا، هي مهنة فرعية أعمل بها أثناء أيام إجازتي، يساعدني الدخل الإضافي على تكاليف المعيشة.
- هل تعيش هنا في سان فرانسيسكو؟
ابتسم السائق ثم قال: كلا، ولكني أعيش في ساكرامنتو، تكلفة السكن في هذه الأنحاء مرتفعة للغاية.
- وما هو عملك الأساسي؟
- أعمل في مشرحة جامعة ستانفورد؛ أقوم بحفظ الجثث في المشرحة والعناية بها.
نظرت إليه في دهشة، لم أتوقع أن يكون سائق أوبر عاملًا في المشرحة؛ أثارتني المهنة وقررت استدراجه لمعرفة المزيد فلا بد وأنها مهنة شاقة نفسيًّا؛ أن تتفاعل يوميًا مع جثث أو أجزاء منها شيء لا يتحمله الكثير من الناس؛ سألته: وهل تحب مهنتك كعامل في المشرحة؟
- إني أعمل في هذه المهنة منذ 16 عامًا ولقد اعتدت على التعامل مع الموتى فهم غير متعبين كبعض البشر، كما أن المرتب مجزٍ.
زادت دهشتي وكررت ما قاله في استنكار: اعتدت على التعامل مع الموتى؟! ألا تصاب بالرهبة من رؤية الجثث المحفوظة في الثلاجات؛ أو عندما يقوم طلبة الطب بتشريحهم وتقطيع أجزاء من أجسادهم؟
- هذه هي الطريقة التي تنظر أنت بها للأمور، ولكني أنظر إلى مهنتي من وجهة نظر أخرى؛ فمعظم الجثث التي تأتي لمشرحة الجامعة تكون مجهولة الهوية ولم يقم أحد باستلامها أو المطالبة بها، والطلبة والباحثون في حاجة ماسة لهذه الجثث للقيام بأبحاث تساعد على إنقاذ الآلاف من البشر، فمن الأفضل الاستفادة من هذه الأجساد بدلًا من تركها للتعفن والتحلل.
قلت له: بالطبع هي شيء مهم للأبحاث وتطوير العلوم الطبية ولكني أتحدث عن صعوبة المهنة، الجلوس في المشرحة محاطًا بالموتى، ألا تصاب بالخوف أحيانًا؟
ضحك السائق ثم قال: في بداية العمل كان يهيء لي أن بعض الجثث تتحرك أو تتحدث لي، وكنت أشغل وقتي بسماع الموسيقى أو القراءة حتى تنتهي نوبتي وفكرت في الاستقالة عدة مرات لأن وجوه الجثث كانت تظهر لي في الأحلام وتنتابني الكوابيس بشكل متكرر.
- هذا مرعب!
- ولكن مع مرور الوقت بدأت أعتاد على التعامل مع الموتى، وفي معظم الأحيان أفضل قضاء الوقت معهم بدلًا من الأحياء.
فتحت فمي على مصراعيه من الدهشة ثم قلت: كيف ذلك؟
- عادة عندما أنظر إلى الجثة التي تأتي للمشرحة وأقرأ التقرير القادم معها أحاول أن أتخيل الأحداث التي مرت بحياتها وهي عملية مثيرة ومسلية للغاية، فالبعض يأتي إلى المشرحة بعد أن يلقى مصرعه في حوادث تصادم بالسيارات أو حوادث قتل وآخرين لقوا حتفهم بهدوء وغير سابق إنذار، تعاملت مع جثث كبار السن والأطفال وكذلك المراهقين.
- ما هي أكثر اللحظات المؤثرة التي مررت بها؟
- عندما يأتي أشخاص للتعرف على ذويهم المفقودين ويجد جثة الشخص المفقود، عندها أرى علامات الراحة والهدوء على وجه الأقارب وأشعر أيضًا براحة الميت لالتقائه بأهله للمرة الأخيرة، وفي بعض الأحيان يكون نفس الموقف صادمًا لأهل الميت ويسبب لهم الكثير من الألم. أشد الحوادث إزعاجًا عندما يأتي مراهق أو شخص صغير السن وقد مات نتيجة جرعة مخدر زائدة، غالبًا ما يكون قد مر هؤلاء الأشخاص بمراحل الإدمان المختلفة حتى وصل بهم اليأس وانعدام الأمل إلى الإسراف في تعاطي المخدرات للهروب من الواقع المحيط بيهم.
- لا بد وأنك مررت بكثير من القصص المحزنة.
- هذا صحيح ولكن التعامل مع جثث الموتى ما زال أكثر راحة من التعامل مع الكثير من البشر؛ فكل من يحيط بك من الأشخاص لديه توقعات وأهداف معينة تكون أنت جزءًا منها سواء أبيت أو رضيت، وغالبًا ما نصاب بخيبة الأمل والإحباط عندما لا تحقق هذه التوقعات؛ الأموات لا ينتظرون أي شيء منك فهم ساكنون في سلام.
- ولكن الحياة لا تستقيم من غير وجود أشخاص من حولك.
- الإنسان فضولي؛ كثير التطلعات وقد تقحمه هذه التطلعات في الكثير من المشاكل له وللمحيطين به، لقد مررت بتجارب في حياتي جعلتني أكثر حرصًا في التعامل مع البشر فقد تجد الطعنة قادمة من أقرب الناس إليك وأنت لا تتوقعها.
اندهشت من وجهة نظر سائق أوبر للموتى والأحياء! بالفعل العلاقات الإنسانية هي علاقات معقدة، متشعبة ومتغيرة ولهذا وُجدَ الطب النفسي والأدوية المهدئة، هناك جرائم القتل والإدمان التي يستخدمها البعض كوسائل للتغلب على عدم الاتزان النفسي الذي يمر به.
طموح الإنسان وتطلعاته تقحمه في صراعات مستمرة وهو على قيد الحياة للوصول إلى أهداف قد يظن أنها ستحقق له السعادة والسمو فوق الآخرين، في ظل هذه الصراعات تتهاوى القيم الإنسانية والتعاليم الإلهية وتسيطر على الإنسان رغباته الأنانية في الوصول إلى أهدافه، وإن تسبب ذلك في حدوث الضرر لغيره وتعرضهم للمخاطر، نادرًا ما يتذكر أي منا لحظة الموت، لكن عندما يأتي ملك الموت تتبخر كل هذا الطموح والأحلام ويتحول الإنسان إلى جثة هامدة لا خوف منها أو ضرر.