الرحلة الرابعة
ترامب منقذ أمريكا
نيوآرك فبراير 8102
هبطت الطائرة في مطار نيوآرك (مدينة تقع بين مدينتي نيويورك ونيوجرسي) كانت الساعة قاربت على منتصف الليل، اتجهت مباشرة للبوابات الخارجية لاستقلال سيارة أوبر للفندق، اجتماعاتي الصباحية سوف تبدأ في السابعة والنصف في نيوجرسي، أردت نيل قسط من النوم بعد يوم كامل من العمل تبعه السفر بالطائرة لأربع ساعات، لفحني برد نيوآرك القارس، كانت درجة الحرارة تحت درجة التجمد، كثيرًا ما كنت أتعجب من اختلاف وتباين الطقس بين الولايات المختلفة، فبينما يكون الطقس في الولايات الشمالية شديد البرودة وعادة ما تنشط العواصف الثلجية في هذا الوقت من السنة، تتمتع الولايات الجنوبية ومنها ولاية تكساس التي أعيش فيها بجو معتدل شتاء، شديد الحرارة صيفًا، ونادرًا ما تنخفض درجة الحرارة إلى درجة التجمد.
بعد عشر دقائق من الانتظار في البرد القارس، تعرفت على سائق أوبر الذي ترجل من سيارته وبدأ في مساعدتي في وضع أغراضي في الحقيبة الخلفية للسيارة. كان طويل القامة، وسيم المظهر شعره أبيض ومصفف يوحي مظهره أنه في الستينيات من عمره.
في الطريق صعدنا أحد الكباري الضخمة التي تستطيع منها رؤية ناطحات السحاب العملاقة في مدينة نيويورك القريبة وانعكاس أضوائها على نهر هدسون المشهور، رأيت لوحة إعلانية ضخمة معلقة تحمل صورة الرئيس الأمريكي ترامب وفي يده أجولة مليئة بالمال وعبارة مكتوبة بالخط العريض «الرئيس ترامب سوف يعيد أموال الضرائب لمستحقيها».
بدأت في الكلام بدون تفكير لا أدري إن كانت نيتي بدء حديث مع السائق أو مجرد رد فعل تلقائي من بعد رؤيتي للإعلان: لا يدخر ترامب جهدًا في تحسين صورته أمام الشعب الأمريكي!
نظر السائق إليّ من خلال المرآة ثم قال: لقد صدق في ما وعد به الناخبين، معدلات البطالة هي الأقل في العشرين عامًا الماضية، وتم تقليص الضرائب على المواطنين، وتقديم حوافز اقتصادية للشركات الأمريكية لجلب الأموال والوظائف للداخل والحد من الهجرة غير الشرعية، لقد كانت حدودنا مباحة من الجنوب، ولقد أعاد هيبة أمريكا خارجيًّا؛ فدولة مثل الصين اعتادت على استغلال سياسات أمريكا الضعيفة في نشر نفوذها ومنتجاتها في بقاع كثيرة من العالم، الآن تتفاوض مع إدارة ترامب حول العجز في الميزان التجاري بين البلدين وأصبحت تستورد المزيد من المنتجات الأمريكية، وكذلك المكسيك وكندا. أجبت السائق في استنكار: ولكنه فرض قيودًا على الهجرة الشرعية ومن يرغب في القدوم إلى أمريكا بدعوى إجراء إصلاحات في قوانين الهجرة، وقام بالتفرقة ضد جنسيات وديانات بعينها في داخل الولايات المتحدة بحجة مكافحة الإرهاب، بجانب أن الانتعاش للاقتصاد الأمريكي الحالي من المُحال أن يكون بسبب سنة ونصف فقط قضاها ترامب كرئيس، بل جاءت نتيجة سياسات اقتصادية ممتازة بدأت في عهد الرئيس أوباما.
- هذا ما يحاول الديمقراطيون بثه في الإعلام لتشويه صورة الرئيس ترامب، أمريكا في عهد أوباما أصبحت بلدًا بلا هوية، ملأها الرعاع المتسولون من المهاجرين الذين لا ثقافة لهم، كل منهم جاء من بلده بثقافته البربرية ورفض أن يندمج في المجتمع الأمريكي وأصبح يهاجم ثقافتنا وعاداتنا الاجتماعية، وانتشرت الجرائم وحوادث الإرهاب المتتابعة كنتيجة حتمية لسياسته الداخلية والخارجية الضعيفة.
سألته وأنا أحاول مداراة الغضب في نبرة صوتي: من أين أنت؟
- جورج تاون، نيوجرسي.
- أقصد أصل أجدادك.
رسم على وجهه ابتسامة معلنًا فهمه الغرض من سؤالي ثم قال: ترجع أصولنا إلى أيرلندا فقد كان أحد جدودي مما يزيد على مائة عام مضت فلاحًا أيرلنديًّا، هاجر إلى أمريكا للبحث عن فرصة أفضل لأسرته.
- لماذا تلوم المهاجرين الآخرين في بحثهم عن نفس الفرصة؟
- لأن أسرتي اندمجت في المجتمع الأمريكي وأصبحت جزءًا من نسيج هذا المجتمع؛ إني لا أعرف أحدًا في أيرلندا في الوقت الحالي، كل عائلتي في أمريكا ولقد حاربت من أجل هذا البلد؛ هؤلاء المهاجرون الجدد ليس لديهم أي انتماء لأمريكا، فقط يريدون حلب خيراتها وتحويلها لصورة من بلادهم الأم، ومنهم من ينشئ العصابات وينشر الجريمة والسلوك السيئ، هل رأيت كيف يبصق الهنود في الشوارع وكيف يسوقون السيارات؟
- لا يمكنك أن تعمم أن كل الهنود سيئون، فمنهم العلماء والأطباء، انظر إلى رئيس مجلس إدارة شركة جوجل العالمية ساندر بيتشاي، لقد نشأ وتعلم في الهند وهو واحد من أذكى وأنجح رجال الأعمال في العالم؛ فهو يقود مؤسسة ضخمة مثل شركة جوجل والجميع يشيد بسياسته واستراتيجيته الفعالة.
- أنا لست ضد الهجرة ولكن يجب أن ننتقي من يتم السماح لهم بالمجيء لأمريكا من ذوي المؤهلات والإنتاجية العالية وأن يكون لديهم الرغبة في الاندماج في المجتمع بعاداته وتقاليده، هل تسمح إن سألت من أين أنت؟
- مصر.
- لم أتوقع ذلك، هل أنت مصري مسلم أم قبطي (استخدم اللفظ «قبطي» وليس «مسيحي»)؟
أصابتني الصدمة من السؤال وعجز لساني عن الرد لبضع ثوانٍ وأخيرًا قلت: سؤالك غريب ما الذي دفعك لأن تسأل مثل هذا السؤال؟
- معذرة؛ لقد عشت في نيوجرسي سيتي لبضع سنوات واختلطت ببعض المصريين هناك، هناك أحياء يسكنها المصريون من الديانة المسلمة وأحياء أخرى يسكنها ذوو الديانة المسيحية الأرثوذكسية.
قلت له وعلى وجهي علامات الدهشة: أنا آسف، ولكني أستغرب كلامك هذا، حيث اعتدت أن أعيش في مصر لم يكن هناك أحياء مختلفة لكلتا الديانتين، في منزل والدي حيث قضيت طفولتي كان المنزل يحتوي الجيران مسلمين ومسيحيين وكنت كطفل لي أصدقاء من كلتا الديانتين، وكمسلم لم أكن أنفر من أي من الأصدقاء أو الجيران المسيحيين.
- إني أُصدقك، فقد رأيت مثل هذا النموذج في جنسيات مختلفة، ظروف بلادهم الأصلية تجبرهم على التعامل مع بعضهم البعض، ولكن عندما يأتون هنا لأمريكا تبدأ هذه الأطياف في خلق تكتلات اقتصادية وسكانية متباعدة مثل الجالية الهندية، فالسيخ والهندوس لهم مجتمعاتهم المنفصلة، كذلك اليهود الأشكناز والسفارديم ينتشرون خاصة في ولاية نيوآرك ونيويورك كل منهم يتواجد في أماكن معينة.
فكرت في ما قاله السائق لدقائق معدودة، قد يكون المكان حيث نشأت في الإسكندرية وبعض من الأحياء في المدن الكبرى، حيث يتوافر المستوى المقبول من التعليم وفرص العمل تتضاءل فيه مثل هذه الظواهر، لكن طالما سمعنا عن حوادث الثأر والخطف والقتل بين عائلات المسلمين والمسيحيين في القرى النائية في صعيد مصر والوجه البحري، كانت غالبا ما تحدث مثل هذه الحوادث بسبب انتشار الجهل ومحاولة استخدام الدين في فرض السيطرة على قطعة أرض أو الحصول على منافع شخصية، فالتعصب بأي شكل من الأشكال سواء كان دينيًّا أو عنصريًّا أو أيديولوجيًّا يستخدمه حفنة من الناس ممن لديهم المقدرة على قلب الحقائق وتزييف الأمور للوصول إلى أهدافهم وتحقيق مصالحهم الشخصية.
أدركت أن سائق أوبر الذي يقلني هو من أنصار ترامب المتشددين؛ فهو يدافع عن كل أفعاله وقراراته باستماتة، ويبغض المهاجرين الذين في رأيه يحاولون نشر عادات وثقافات بلادهم الأم على حساب الثقافة والمبادئ الأمريكية، أمثاله هم من أعطوا الفرصة لترامب بالفوز في الانتخابات في عام 2016 لحمايتهم من اندثار الهوية الأمريكية الذي تروج إليه أبواق اليمين المتشدد ومحطات الميديا المساندة لها، مثل فوكس نيوز التي كانت تروج لأكاذيب مثل أن أوباما يدين بالإسلام في الخفاء، وقام بتفضيل انتمائه الديني على مصلحة أمريكا بعقد مصالحة مع دولة إيران المسلمة التي تهدد دولة إسرائيل الحليف الأزلي للولايات المتحدة الأمريكية، ولم يخفف من حدة هذه الأكاذيب إعلان أوباما احترامه للدين الإسلامي ولكنه ينتمي للعقيدة المسيحية وأنه يواظب هو وزوجته على حضور قداس يوم الأحد والأعياد المسيحية، بل ووصل بهم الحد إلى اتهام أوباما بالسعي لتطبيق الشريعة الإسلامية عن طريق السماح للمتطرفين الإسلاميين بالتواجد في الولايات المتحدة الأمريكية وحرية التصرف وتم الترويج لهذه الأفكار بكثافة خلال الحملة الانتخابية للرئيس ترامب، كانوا يريدون صنع حالة من الاستقطاب حول شعارهم
“Make America Great Again”
وهو الشعار المعادي لكل ما هو مختلف، تناسوا أن الآباء الأوائل ممن وضعوا الدستور الأمريكي في عام 1871 استخدموا كلمة الدين مرة واحدة فقط للتأكيد على عدم التمييز ضد المواطنين على أساس العقيدة، كما ظهرت أهمية السوشيال ميديا كسلاح خطير للتأثير على سلوك الناخبين، كانت السوشيال ميديا من أحد الأسباب الأساسية في فوز الرئيس ترامب في انتخابات 2016، حيث قامت حملته بتعيين شركة كمبريدج أناليتيكا الإنجليزية(1) التي يقوم نشاطها على تجميع معلومات المستخدمين لمنصة الفيسبوك واستخدام عمليات التفنيط (Segmentation) والذكاء الاصطناعي وعلم النفس للتأثير على آرائهم وزرع أفكار غالبًا ما تكون غير حقيقية للإضرار بالمنافسين، استطاعت كمبريدج أناليتيكا الحصول على معلومات 50 مليون مشترك أمريكي لهم حق الانتخاب، وقامت بتقسيمهم لمجموعات واستهدفت منهم من لم يحسم قراره بعد على انتخاب أي من المرشحين؛ الجمهوري ترامب أو الديمقراطي هيلاري، وقامت بحملات مكثفة تستهدف هؤلاء الناخبين والغرض منها تحسين صورة ترامب وإظهاره كالمرشح المثالي للرئاسة والتشكيك في قدرات هيلاري على قيادة الولايات المتحدة والإساءة لسمعتها بأساليب غير قانونية.
(1)(1) تستطيع معرفة المزيد عن شركة كمبريدج أناليتيكا وطريقة عملها عن طريق مشاهدة الفيلم الوثائقي The Great Hack التي تم إغلاقها ومنع مؤسسها من فتح أي شركة أخرى لمدة سبع سنوات بعد فضيحة الانتخابات الأمريكية.
مظاهر التعصب ليست فقط في أمريكا ولكن يمكنك رؤية آثارها القبيحة في كل مكان، فالتعصب لا دين ولا بلد له، بل هو أداة يستخدمها أصحاب النفوذ والمصالح للسيطرة على من أحجم عن استخدام عقله في وزن الأُمور.