الرحلة الثامنة

أزمة منتصف العمر

الإسكندريــة يونيو 8102

يمر الإنسان في حياته بمراحل عمرية مختلفة تؤثر في تكوينه النفسي وتشكل سلوكياته وتبني شخصيته، تبدأ هذه المراحل بسن المراهقة عندما تبدأ الفتاة أو الشاب المراهق في الإحساس بأنه لم يعد الطفل الصغير الذي يستطيع التصرف بعفوية، ويبدأ بالاصطدام بقواعد غير علانية وضعها المجتمع تجبره على الانعزالية والحيرة في تصنيف نفسه إن كان شابًا ناضجًا مسئولًا عن تصرفاته أم هو طفل يمكن أن يخطئ ويتجاوز من يحيط به عن أخطائه، ثم تأتي أزمة العشرينيات التي في رأيي المتواضع هي من أخطر الأوقات في حياة الإنسان لأنه يقوم خلالها باتخاذ قرارات قد يحمل الإنسان تبعيتها طوال حياته، وغالبًا ما تأتي أزمة منتصف العمر نتيجة لقرارات نابعة من عقل عشريني تأثر بما يحيط به من عادات اجتماعية ولم تسعفه قلة الخبرة في التفكير خارج الصندوق.

في أزمة منتصف العمر يبدأ الأربعيني في سؤال نفسه: هل نجحت في الوصول إلى ما كنت أسعى إليه؟ أم أسأت الاختيار والآن أجني ثمار سوء اختياراتي؟

هل يمكن تعديل المسار والمحاولة مرة أخرى؟ أم أن عليّ الاستسلام للواقع وتمضية ما بقي من حياتي مثل الملايين من أشباهي؟

هنا يحدث الجدل المعروف حول الاختلاف بين مفهوم الرضا والخنوع، العزيمة والكبر، قد يكون الاختلاف واضحًا للكثير ولكن هناك من ينخدع بمعنى الرضا ويحوله إلى خنوع واستسلام.

أزمة منتصف العمر هي أزمة عالمية لا تختص بمنطقة أو شعب معين، لكن أسبابها تختلف حسب ثقافة الشعوب والعادات والتقاليد، فبينما يعاني الإنسان الشرقي في الأربعينيات من قلة فرص العمل وقصورها على وظائف محددة لا ترضي طموحه وكبر حجم المسئوليات من أسرة ومصاريف تثقل كاهله وتجعل العجز يصيبه مبكرا، يعاني الغربي من كثرة التجارب التي يمر بها في حياته في محاولة لتحديد ماذا يريد، غالبا ما يمر بالعديد من الإخفاقات ويعاني من الوحدة والانعزالية ويتطرق اليأس إلى قلبه في ظل تفكك الروابط الأسرية وسيادة المصلحة الفردية، ويتفق الاثنان في الإحساس بأن العمر قد مر سريعًا والحيرة التي تؤرقهما حول كيفية التصرف في البقية المتبقية من العمر.

أيمن شاب يبدو صغير السن من محافظة البحيرة يأتي للإسكندرية يوميا للعمل في خدمة أوبر، يستخدم سيارة كيا يمتلكها ابن عمه الذي يتبادل العمل عليها مع أيمن.

بعد أن ركبت السيارة مع أيمن وتبادلنا التحية، دفعني فضولي لسؤاله كم يبلغ من العمر (هو سؤال لا أجرؤ على سؤاله في أمريكا لأنه قد يدفعك لمساءلة قانونية).

- كم عمرك يا أيمن؟

- سبعة وعشرون.

- أوبر شغلانتك الأساسية؟

- حاليا هي شغلانتي الأساسية، لكن بدور على شغل آخر.

- تفكير صائب، من الخطر أن يعتمد الشخص في دخله على أوبر فقط، قد يغري الدخل القادم من أوبر الشخص على القنوع وعدم اكتشاف إمكانياته ومواهبه.

- صحيح، وهو عمل غير مضمون، لو حدث أي شيء للسيارة، سأصبح عاطلًا، وسأصرف كل ما ربحته على إصلاحها، لكن المتاح من الأعمال محدود، وللبيوت مصروفات يومية.

أدركت من إجابة أيمن أنه لم يفهم أني أحاول أن أحذره من الاستكانة والرضوخ لعمله كسائق أوبر كمهنة أساسية أو وحيدة خاصة وأنه ما زال في مقتبل العمر، وأن عليه أن يبذل المجهود لاكتشاف إمكانياته وامتهان عمل يحقق به طموحًا يسعى إليه، فالأمل هو سلاح خطير تتقدم به الأمم عند حسن استغلاله، فالأمل يحفز الشباب على التجربة واكتشاف أنفسهم، مما يعطيهم الفرصة لتطوير الذات والتغلب على الصعوبات التي تواجههم وخلق فرص جديدة يستفيد بها المجتمع بأكمله.

نظرت لأيمن في استغراب: أنت عندك أسرة يا أيمن؟

- الحمد لله وعندي ولد وبنت (ذكر اسميهما وعمريهما، ولكني لا أتذكر التفاصيل بدقة).

- تزوجت صغيرا يا أيمن؟

- بعد الكلية مباشرة تزوجت من بنت عمي، وسكنت في بيت الأسرة، أراد والدي أن يزوجنا صغيرين لكي يضمن استقرارنا وبدء أسرة في سن صغيرة.

إذا نظرت إلى مجتمع معين فستجد أن أفراده يمرون بقصص مكررة (patterns) وإن اختلفت التفاصيل، تجد في المجتمع الشرقي دكتور الجامعة يريد أن يصبح ابنه دكتورًا في الجامعة مثله، والمهندس يريد أن يصبح ابنه مهندسًا، وكذلك القاضي والدكتور، وستجد جميعهم متفقين على هدف واحد مهما اختلفت درجاتهم الاجتماعية والثقافية أنه لا بد من تزويج ابنك أو بنتك وهم صغار لكي تحميهم من الانحراف وتفرح بأسرتهم وهم صغار في السن «وتأمن لهم المستقبل» (هي عبارة دارجة في مجتمعنا العربي)، وبهذه الطريقة في التفكير تجد الآباء يقررون حياة الأبناء ويريدونهم صورة مطابقة لهم، وبالتالي تجد هذا النوع من المجتمعات ذا نمط متكرر يفتقر للإبداع والتجديد وإتاحة الفرص لأجيال جديدة تنتظر الفرصة ولا تجدها.

- هل تفكر في دراسة يا أيمن أو تعلم مهنة مختلفة متعلقة بهواية بتحبها؟

- بصراحة لا توجد لدي هواية أو حرفة تمكنني من إدخال مرتب ثابت لي ولأسرتي، اشتغلت في مهن كثيرة من صغري لكن لم يكن لأي منها مستقبل على المدى الطويل.

- ما هي أول وظيفة عملت بها؟

- كنت في ابتدائي واشتغلت في مصنع صغير في البلد لصناعة الفخار والنحت على الطين، كنا نعمل القلل والأطباق وتماثيل الزينة.

- ولماذا لم تكمل فيه؟

- كانت الأجرة بسيطة، كنت بطلع بـ 5 جنيهات في اليوم وكان معظم الأشغال أعمالًا بدنية مجهدة وليست فنية.

- كم قضيت فيها؟

- اشتغلت في المصنع سنين في المرحلة الابتدائية، وفي الإعدادية اشتغلت في مزرعة حيوانات صاحبها جزار مشهور وكنت أكسب منها أحسن من مصنع الفخار.

أخذ أيمن يسرد لي الوظائف المختلفة التي امتهنها في مراحله العمرية المختلفة، كان من الواضح لي أن تركيزه الأساسي في اختيار الوظائف التي عمل بها هو «مين هيدفع أكتر؟»، وهو اختيار غير صائب يقع فيه الكثير من صغار السن، فاختيار المادة (المال) كهدف أساسي في السن الصغيرة يلهي الشاب عن الكثير من الفرص التي قد تمنحه مستقبلًا أكثر ازدهارًا وتكون أكثر إشباعًا للطموح ماديًّا ونفسيًّا على المدى الطويل.

- لماذا لم تفكر في دراسة مجال ما يفتح لك أبوابًا وفرصًا جديدة، خاصة أنك ما زلت صغير السن؟

- الدراسة مكلفة، وتحتاج إلى وقت وتفرغ، ومع التزامات العمل والأسرة لن أستطيع أن أوازن بينهما.

أشعر بالشفقة ناحية أيمن فهو محق، هو منتج محدود الإمكانيات، دفعه المجتمع والعادات والتقاليد للهاث وراء المال والزواج، لم يداعب طموحه وخياله أحلام أخرى مثل أن يكون نحاتًا مشهورًا أو متخصصًا في مجال الثروة الحيوانية رغم قربه وعمله في هذه المجالات ولكن تركيزه كان محصورًا في تحقيق ما أراده له أهله وأن يسلك مسلك أقرانه الآخرين، إني أرى أمامي صورة مستقبلية لرجل أربعيني يعاني من أزمة منتصف العمر، لديه حفنة من الأبناء في أعمار مختلفة، ترهقه المصاريف والمسئوليات، يعاني من أمراض مزمنة وفقده لعدد من أسنانه لعدم اهتمامه بعلاجها، يصيب علاقته الزوجية البرود العاطفي بعد مرور عشرين عامًا على زواجه ومواجهته هو وزوجته صراعات وضغوطات الحياة المختلفة، وتجده يسأل نفسه: هل هناك فرصة أخرى لتغيير المسار؟ أم أن الوقت قد فات وعليه التأقلم مع اختياراته الشبابية؟

فلنعلم أولادنا أن الاختلاف ليس عيبًا والتميز يحتاج إلى التجديد، بينما النمطية في التفكير والتقليد تقتل الإبداع وتولد اليأس والإحباط.