الرحلة العشرون
الأذان في مالطا
مـالـطا يناير 0202
غالبًا ما كنت أسمع جملة «أنا بأذن في مالطا» من والدتي في سن الطفولة عندما لا نستمع أنا وإخوتي لما تقول أو نتجاهل تعليماتها، استرعت انتباهي الجملة وبحثت عن أصلها وعرفت أنها كناية عن استحالة القيام بأمر، وهي كناية جاءت من تاريخ الجزيرة بعد أن وقعت في يد الحملات الصليبية وطلب من أهلها العرب مغادرة الجزيرة أو التحول عن دينهم، ومنذ هذا الوقت وحتى زمن قريب لم يرفع أذان في مالطا، وهناك رواية تتحدث عن زيارة تاجر مغربي للجزيرة وإقامة الأذان للصلاة ولكن لا أحد أنصت إليه أو أعاره أي اهتمام فجاء المثل «كمن يؤذن في مالطا».
تم الإعلان عن مكان المؤتمر السنوي الذي تقيمه الشركة التي أعمل بها في شهر يناير من كل عام، سيقام المؤتمر هذا العام في مالطا!
لم أتصور في يوم من الأيام أنه سيتاح لي زيارة هذه الجزيرة خاصة أن كل معلوماتي عنها مرتبطة بهذا المثل ذي الكناية السلبية للغاية التي ترمز لصعوبة أو استحالة حدوث فعل معين، بدأت أقرأ عن الجزيرة مرة أخرى، ولكن هذه المرة بدافع الفضول ومعرفة ما الذي تشتهر به الجزيرة وما يمكن القيام به أو زيارته أثناء التواجد هناك، كانت المفاجأة التي أذهلتني أن 40٪ من اللغة المالطية تتكون من المفردات والكلمات العربية المكتوبة بحروف لاتينية و40٪ مستمد من اللغة الإيطالية و20٪ من اللغة الإنجليزية.
المالطية أخذت عن العربية الكثير من قواعد النحو، مثل «ال» التعريف ومثل الجمع كجمع السالم وجمع التكسير، هذا غير تصريف الأفعال الذي يشبه العربية إلى حد بعيد جدًّا، وأن تأثير العرب على الحياة الثقافية والاجتماعية ما زال متواجدًا حتى الآن وأكثر عمقًا من مجرد رفع الأذان للصلاة، فالإسلام هو الدين الثاني في الجزيرة بعد المسيحية ويبلغ عدد المسلمين فيها 50 ألف نسمة وهو ما يعادل 2٪ من السكان.
استقللت خدمة eCABS وهي الشبيهة بخدمة أوبر غير المتواجدة في هذه الجزيرة الصغيرة، كان السائق يشبه كثيرًا الشكل الشائع لرجل في منتصف العمر في مدينة القاهرة، أصلع الرأس، ووجه دائري ممتلئ، يرتدي ملابس ثقيلة لا تناسب الطقس الذي كان من وجهة نظري معتدلًا لا يستدعي ارتداء عدة طبقات من الملابس الشتوية، استقبلني بابتسامة ودودة أعرفها جيدًا، فهي شبيهة بالتي أراها من غالبية سائقي التاكسي في بلاد الشرق الأوسط، ساعدني في إدخال حقائبي وركبت بجانبه، لم تمر أكثر من دقيقة ورن هاتفه وبدأ في حديث بصوت عالٍ مع متحدثه، ضحكت في نفسي فمن المعتاد أن يستقبل سائق التاكسي في مصر بضع مكالمات هاتفية خلال القيادة، ولكن العجيب أنه عندما استمعت للسائق وهو يتحدث المالطية وجدت الكثير من الكلمات العربية، مثل الأرقام هي مطابقة تماما للأرقام التي نستخدمها، سمعت رقم أربعة وكلمة لوكندا وكلمة متى… لم أستطع فهم الحديث ولكن أدركت كلمات متقطعة منه، انتظرت حتى انتهى من حديثه وقلت له بالإنجليزية: لقد سمعت العديد من الكلمات العربية في حوارك التليفوني.
- هل تتحدث العربية؟
- نعم، أنا من مصر.
- العرب لهم تأثير عميق في تاريخ الجزيرة، فهم أول من أقاموا الأسواق ووضعوا أُسس التجارة والمعاملات المالية والعقود فقد كانوا في غاية التقدم مقارنة بسكان الجزيرة الأصليين، وكان لديهم أسطول تجاري ضخم يربط دول شمال إفريقيا بأوربا وآسيا، وعندما استردها الفرسان الصليبيون من المسلمين وجدوا أن النظام التجاري والاجتماعي بالجزيرة متطور مقارنة بالدول الأوربية المجاورة فقرروا ترك الحال على ما هو عليه، ولكن تم اعتماد الديانة المسيحية الكاثوليكية الدين الرسمي للجزيرة.
- هذا مذهل؟ وماذا عن الوضع الحالي للجزيرة من الناحية الاقتصادية والسياسية؟
- هي تعتمد بالأساس على السياحة ورخص الأسعار بها مقارنة بأوربا، يوجد الكثير من الأوربيين من كبار السن الذين قرروا التقاعد في مالطا لرخص العقارات وتكلفة المعيشة وخاصة من إنجلترا وروسيا وتقوم الحكومة الإيطالية بمساعدة الجزيرة اقتصاديًّا وأمنيًّا.
رن هاتف السائق مرة أخرى وأستأذنني في الرد على المكالمة، أذنت له وكلي تطلع لسماعه مرة أخرى وهو يتحدث باللغة المالطية محاولًا التقاط بعض الكلمات من أصل عربي.
أنهى السائق مكالمته وأنا على مشارف الفندق فلم تتح لي الفرصة من معرفة المزيد عن الجزيرة من سائق التاكسي، ولكني قررت أن أتحين أي فرصة لزيارة شوارع العاصمة فاليتا لمعرفة المزيد عن تأثير العرب في تاريخ الجزيرة.
بعد أن أنهيت إجراءات التسجيل في الفندق قابلت اثنين من الزملاء الأمريكان اللذين قررا المجيء قبل المؤتمر بعدة أيام للسياحة في الجزيرة والتعرف عليها، بعد التحية والسلام قال أحدهما لي: لن تصدق ماذا حدث لي و«جون» في البارحة.
- ماذا؟
- بعد تناول الغداء في المدينة ذهبنا إلى محل حلاقة للاستعداد للمؤتمر، خمن ماذا كانت جنسية الحلاق؟
- ماذا؟ تونسي؟
- مصري من مدينة بورسعيد، أخبرناه عنك وأنك من مدينة الإسكندرية، لقد كان شخصًا ظريفًا للغاية ومتكلمًا، لقد استغرق ما يقرب من الساعة مع كل واحد منا حتى انتهى من الحلاقة.
ضحكت وقلت لهم: نعم، هكذا الحلاقون في مصر يحبون الكلام مع الزبائن، ولهم المقدرة على فتح أحاديث متعددة بعكس الحلاق في الولايات المتحدة الذي عادة ينتهي من الحلاقة في أقل من خمس عشرة دقيقة.
خلال فترة إقامتي في مالطا تمكنت من الذهاب مع مجموعة من الأصدقاء إلى مركز المدينة في العاصمة فاليتا، حيث يوجد مجلس الحاكم وأهم المعالم السياحية، تجولنا في الشوارع وكان من الواضح التأثر بفن العمارة الإسلامي والإيطالي، رأينا شوارع بأكملها تصطف المنازل ذات الأدوار الثلاثة على جانبيها تزينها المشربيات والشبابيك الخشبية التي تحتوي على الأشكال الهندسية المشهور بها فن العمارة الإسلامية، كانت هذه المباني شبيهة إلى حد كبير بالبيوت في شوارع القاهرة القديمة، وشوارع أخرى تصطف المباني التي تزينها التماثيل لأوجه الملائكة والشياطين والتي تجد مثيلاتها في منطقة محطة الرمل والمنشية في الإسكندرية.
كنت أنظر إلى اللافتات الإرشادية في شوارع المدينة وأقرأ كلمات عربية مكتوبة بحروف لاتينية، عرفت أن كلمة «مدينة» في اللغة المالطية هي كمثيلتها في العربية وكذلك كلمة «طريق»، وأيضًا علمت أنه بجانب كنائس مالطا التي تزيد على الثلاثمائة يوجد مسجد قامت ببنائه الدولة الليبية لخدمة الجالية الإسلامية في مالطا، مما يعني أنه يوجد أذان في مالطا وأنه ليس من المستحيلات.
تفكرت قليلًا في المقولة المأثورة «كمن يؤذن في مالطا»، لا بد وأن ينظر لهذا المثل الشائع بصورة مختلفة عما اعتاد الناس على فهمه منه، فلا بد أن النظر إليه من الناحية الإيجابية والتحفيزية أنه لا يأس مع الحياة، فبعد كل هذه القرون من منع الأذان في مالطا إلا أن أهل مالطا ما زالوا متأثرين بالثقافة والتراث وفن العمارة العربي وسترى آثار الحضارة العربية في كل مكان حولك، يمكنك التحدث بلغتك العربية وسيفهم أهل البلد غالبية ما تقول، كما أنك ستجد الكثير من العرب استقروا في مالطا وتمكنوا في النهاية من رفع الأذان.