الرحلة الواحدة والعشرون

الرجوع بالزمن

أوستـن يناير 0202

كان وجهه مألوفًا، هي هواية محببة إليّ محاولة تخمين أصل من أقابلهم لأول مرة، يبدو أن أصله شرق أوسطي ومن بلاد الشام تحديدًا ولكن اسمه في التطبيق اسم غربي «مايك»، كنت أجلس في المقعد الخلفي للسيارة ولم أرغب في بدء الحديث مع السائق كالعادة، كنت منهكًا من رحلتي الطويلة القادمة من مالطا، رن هاتف السائق واستأذنني للرد على المكالمة، أذنت له وأنا في محاولة لمقاومة النوم من الإجهاد، فجأة سمعته يتحدث العربية بلهجة لبنانية مع من هاتفه، يتفقان على الالتقاء على المقهى في الليل، عندما أنهى مكالمته أسرعت قائلًا بالعربية: هل أنت من لبنان؟

نظر إليّ مبتسمًا في المرآة وقال: وأنت من مصر.

- اللهجة اللبنانية لهجة مميزة ومحببة لقلبي، لقد أمضيت عامين أعمل في الرياض وكان رفقائي في العمل من الجنسية اللبنانية، كانت دائمًا أحاديثهم مرحة ومضحكة رغم اختلاف خلفياتهم؛ فكان منهم الشيعي والسني والماروني ولكنهم متعايشون في تناغم.

- نحن أيضًا في لبنان نحب المصريين كثيرًا، فالأفلام والدراما المصرية متواجدة في كل بيت في لبنان، أما بالنسبة لما قلته عن عادات اللبنانيين وثقافتهم لم يكن سهلًا أن نصل لهذه الحالة من الوحدة، فقد مرت لبنان بحرب أهلية ضاع ضحيتها الكثير من أبناء البلد،
لا يوجد بيت في لبنان لم يفقد أحد أبنائه في الحرب الأهلية ولذلك كان لا بد من وقفة ومراجعة الأولويات بين الطوائف المختلفة وتوحيد الصف.

ولكن كما ترى يأبى سكان المنطقة ترك لبنان في حاله، ما بين الحرب في سوريا ورغبة إيران في فرض هيمنتها الإقليمية على المنطقة من خلال تقوية حزب الله ودعمه، تهديد الإسرائيليين من الجنوب، ومشاكل اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون في فقر في المخيمات معتمدين على إعانات الأمم المتحدة، الوضع أصبح معقدًا للغاية.

لم أرغب في التحدث في السياسة لأن بالفعل الوضع في لبنان أصبح سيئًا للغاية مؤخرًا وأردت أن أحتفظ بالصورة الجميلة لهذا البلد الذي زرته مرتين كما هي، سألته: منذ متى وأنت في أوستن؟

- ما يزيد على خمسة عشر عامًا.

- هل أوبر هي مهنتك الأساسية؟

ضحك في حسرة ثم قال: هل تصدقني إن قلت لك إني منذ سنتين فقط كنت مليونيرًا ولدي منزل على بحيرة أوستن يبلغ ثمنه عدة ملايين الدولارات وعدد من محلات وعربات الأكل اللبناني المنتشرة في أنحاء أوستن؟ لقد ظهرت في عدة مجلات معروفة والتي تهتم بالأكل والمطاعم المشهورة في الولايات المتحدة كواحد من أفضل المطاعم في أوستن

أثار السائق اهتمامي بما قال، سألته: ثم ماذا حدث؟

- انقلبت حياتي رأسًا على عقب في عام 2018 عندما طلبت زوجتي الطلاق بحجة غيابي عن المنزل معظم الوقت وقيامها وحدها بتربية بنتي، اضطررت أن أترك لها نصف ما أملك وكان عليّ العديد من الديون للبنوك بخصوص المحلات العديدة التي افتتحتها في المدينة، لم أستطع تسديد هذه الديون وتم إغلاق معظم المحلات وبعت عربات الطعام التي كنت أمتلكها بخسارة وأبقيت على عربة واحدة فقط أشترك في العمل بها مع رفيقي الذي كنت أحدثه منذ قليل.

- هل طليقتك لبنانية؟

- كلا، هي أمريكية من أصل مكسيكي ولديّ منها طفلة واحدة، لم تحتمل غيابي وانشغالي في العمل معظم الوقت رغم أني لم أبخل عليها هي وابنتي في أي شيء، كان لديها مربية تعتني بالطفلة وتقوم بالأعمال المنزلية، كانت تشتري كل ما تريد من ملابس وحقائب وأي متطلبات أخرى تريدها بدون قيود وتسكن في أرقى الأحياء في المدينة، كان عليّ العمل والجد لتوفير هذه الحياة المرفهة لهما، ولكني فوجئت بها تطلب الطلاق في المحكمة، أصابني الاكتئاب ولم أستطع مواصلة إدارة أعمالي التي كانت تنمو بسرعة وفي حاجة إلى تفرغ وتركيز، استسلمت للإحباط وبدأت في تصفية كل شيء لأني أحسست أن كل ما فعلته بدون فائدة أو جدوى.

- بعد مرور سنتين هل تفكر في البدء من جديد؟

- نعم، بعد أن هدأت وقمت بترتيب أفكاري هناك مشروع أقوم بالترتيب له مع رفيقي فنحن بحاجة إلى رأس المال للبدء.

- هل هو مطعم أيضًا أو على علاقة بصناعة الأكل؟

- نعم، سنقوم بإعادة بناء مطبخ كبير تركه أصحابه منذ زمن لاستخدامه في صنع المأكولات الشرقية وتوصيلها للمنازل.

- ما الدرس الذي استفدته من خبرتك السابقة وستعمل جاهدًا على تجنب الوقوع فيه مرة أخرى؟ إذا رجع بك الزمن ما الذي كنت ستحاول أن تغيره؟

- ألا أستدين لكي أعيش حياة مرفهة، لم أكن لأشتري منزلًا غالي الثمن على البحيرة وأضطر للاستدانة للبنك لدفع أقساطه، ولم أكن لأتوسع في فتح عدد كبير من المطاعم في نفس الوقت والاستدانة أيضًا من البنوك لتغطية نفقات إدارة هذه المطاعم، كنت لأكتفي بمطعم أو اثنين وأطبق فكرة «الفرانشايز» للتوسع، كنت سأقضي المزيد من الوقت مع أسرتي والاستمتاع بابنتي والمشاركة في تربيتها وتعليمها اللغة العربية، فالآن أراها يومين فقط في الأسبوع، أراها تكبر بعيدًا عني وهي تتشرب عادات وتقاليد أمها، بينما لا تعرف إلا القليل عن عاداتنا وتقاليدنا، ولكن أنا لست نادمًا على ما مضى من عمري فما لا يقتلك يجعلك أشد قوة.

سألته عن أشهر أطباقه، فأخبرني أنه يستخدم وصفة فريدة في صنع الفلافل من الحمص، فقد قام العديد من رواد مطعمه بمدح طبق الفلافل الذي يقوم بصنعه على منصة «يالب» المشهورة مما جعله واحدًا من أفضل المطاعم في صنع الفلافل في تكساس عندما وصلت إلى منزلي أراني عدة صور له أمام مطعمه ومع زبائنه، البعض منهم كان من المشاهير كما يزعم والذين جاءوا خصيصًا لتذوق أطباقه الشرق أوسطية المشهورة، أراني صورة منزله على بحيرة أوستن وسياراته الفاخرة مصطفة حول المنزل، وصورة أخرى له في قارب ومن حوله العديد من الأصدقاء.

كانت قصة هذا السائق اللبناني هي قصة حزينة بالنسبة إليّ، فبعد نجاح مبهر ظن أنه سيدوم ويستمر انهار كل شيء في لحظة، فقد أحب زوجته التي لم تكن تراه في البيت إلا القليل من الوقت فقررت الطلاق منه، تبع ذلك تفرق وتشتت الأسرة وإصابته بالاكتئاب، فقد عمله وأمواله للبنوك عندما عجز عن تسديد الديون الطائلة التي استدان بها لكي يعيش حياة مرفهة يستطيع فيها الصرف على شهواته ببذخ، هي قصة شاب طموح بدأ حياته بلا خبرة معتقدًا أن أهم أولوياته هي جمع الأموال والصرف المفرط على أشياء مادية، مثل شراء منزل غالٍ وسيارات حديثة ومرفهة، ظنًّا منه أنه بذلك سيكون نموذجًا لرجل الأعمال المهاجر الناجح، هذا النجاح الذي اعتقد أنه سوف يسهل من اندماجه وقبوله في المجتمع الجديد، ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي الأنفس، وكانت هذه الأموال وحياته الباذخة هما سبب تعاسته.