تفزع جين لسماعها قرعًا قويًّا على الباب مع صوت رايان يستعجلها الرد. تفتح الأقفال الإلكترونية فيدلف رايان لاهثًا ثم يوصد الباب ملقيًا ظهره عليه:
- اكتشفوا مكاننا.. قتلوا داش في المكسيك.. قبضوا على أماندا وليو في فلوريدا وأندرو في المسيسبي، وقتلوا دينيس في شيكاجو.. تعقَّبوا مسار العنقاوات حتى كشفوا مقرَّاتنا السرِّية.. في السوق، رأيت اثنين منهم متخفيين.. أعتقد أنهم سيهاجموننا في أي لحظة. لا بد أن نغادر الآن.
يسرعان إلى لملمة حاجاتهما ورشِّ الرذاذ المموَّه على وجهيهما. بين الحين والآخر تختلس جين نظرة على الشاشة الموصلة بكاميرات المراقبة الموجهة صوب الشارع لكنها لا تجد جديدًا فتمضي في إكمال لملمتها إلى أن يربت رايان ذراعها لتتوقف.
تنظر إليه في فزع فتراه مشيرًا إليها بسبابته أن تصمت. يومئ برأسه صوب الباب. تتجمَّد أنظارهما عليه حيث يسمعان من خلفه وقع خطوات خافتة تدنو ببطء.
ثانيتان من الترقُّب الصامت. يهمس رايان: لنُطبِّق خطة الطوارئ بسرعة.
تهز رأسها فهمًا لكن تدوي في أرجاء البيت أصوات انفجارات متعاقبة بعدما عصف إعصار من الطلقات المتلاحقة، ساحقة في طريقها كل ما تلمسه، خارقة كل حائط. تفتتت الثريات وتكسَّرت الشاشات وتحطَّمت الآلات حتى غطَّى غبار الركام كل شبر في المنزل.
ارتمت جين في حضن رايان خلف أريكة خشبية متحصنين من جحيم الطلقات.
بينما تخبئ رأسها في صدره تلمح بقعة حمراء على قميصه. تنظر إلى رايان المتألم الشاحب وهو يتأوَّه بصوتٍ خفيض.
- رايان ماذا أصابك يا حبيبي؟
رايان بصوتٍ متحشرجٍ ضعيف: لا تخافي يا جين.. اهربي من هنا.. أكملي الرحلة.
جين غارقة في دموعها: لن أتركك.. إذا رحلنا، سنرحل معًا.
رايان متصنعًا ابتسامة: حتمًا سنتقابل في مكانٍ ما أفضل من هنا وأفضل من جزر المالديف.. أحبكِ يا جين.. رحلتي انتهت.. ما زالت رحلتكِ طويلة.. اهربي من أجلنا.. أكملي المشوار بأمانٍ إذا كنتِ حقًّا تحبينني.
تنظر إليه عاجزة عن النطق ثم تنفجر باكية في صدره.
***
يقف الملثم ذو الزي الأسود أمام الباب المليء بثقوب دائرية تُشبه جبن الإيمنتال بينما يخرج الدخان من فوهة مدفعه. يلتفت إلى زميله سائلًا:
- أتعتقد أنه بالإمكان بقاء أي كائن حي يتحرك داخل الشقة؟
يرد عليه زميله: لا بد من التيقُّن.
يصوِّب هدفه نحو القفل ثم يُعاجله بدفعةٍ من الطلقات فتحطمه حتى ينفتح الباب المهترئ. تقتحم المجموعة المنزل مصوبة مدافعها في كل اتجاه. بحذر المحترفين، يمسحون ما تبقَّى من ركام المكان حتى يعثروا على جسد رايان مضرجًا في دمائه خلف الأريكة. يُقرِّب الملثم هاتفه من وجه رايان، فتظهر على الشاشة عبارة: «لم يتم التعرُّف على الوجه».
يقترب من الأرض ممسكًا سبابة رايان ليجعلها تلامس شاشة الموبايل فتظهر عبارة:
«رايان فينسن.. 27 عامًا.. عميل دارك فارم هارب.. عضو أولاد كوماس.. خطر جدًّا.. مطلوب حيًّا أو ميتًا».
- أوقعنا الهدف الأول.. لكن لا أرى زميلته.
يرد عليه زميله الواقف أمام حقيبة رياضية مفتوحة ممسكًا حمالة صدر:
- أتقصد صاحبة الصدر الصغير «سي»؟ لا بد أنها مختبئة في جُحرٍ ما.
يعقب بصوتٍ جهوري جاد: شغِّلوا المجسَّات الحرارية حالًا وغادروا المكان بسرعة، يبدو أنه فخ!
قبل أن يُنهي كلماته، يدوي في أرجاء المنزل صوت انفجار قوي يعقبه انتشار سحابة كثيفة من دخان أسود خانق يتسرَّب في الهواء ليملأ الفراغات. يسعل الملثمون الأربعة بقوةٍ وتخور قواهم بينما يحاول أحدهم الوصول إلى النافذة لاستنشاق الهواء لكنه ينهار على حافتها.
ثوانٍ معدودات وتفتح جين باب قبو سري أسفل أرضية المنزل اختبأت في جوفه، مرتدية قناع أُكسجين. تخرج مسرعة نحو نافذة غرفة النوم فتدوي طلقة طائشة أطلقها ملثم شبه منهار لم يغب تمامًا عن الوعي. تتوقف ثم تلتفت إليه في غضب. تلتقط المدفع الرشاش من زميله المكوم على الأرض ثم تدنو وسط الدخان بحسم نحو زميله. تخور قواه فيسقط من يده المسدس ويستقر رأسه على الأرض. تقف على رأسه ثم تعاجله بدفعة طلقات قاتلة تخرسه إلى الأبد. تجول في المنزل لتضع رصاصة القصاص في رأس كل سفاح من فريق الملثمين حتى تيقنت من قتلهم جميعًا! تلقي نظرة أخيرة على المنزل المظلم ثم تعلق المدفع حول ذراعها.
تقف على حافة النافذة فاردة ذراعها نحو ماسورة الصرف حتى تمكنت من احتضانها برشاقة لتنزلق إلى سطح المنزل المجاور.
ما إن لمست قدماها سطح المنزل حتى دوت بجوارها طلقات طائشة كادت تصيبها. تلتفت إلى مصدرها فتلمح مسلحًا خامسًا متمركزًا فوق سطح المنزل المقابل. ترد عليه بدفعة نارية من مدفعها كي يتراجع خلف السور، ثم تطلق لقدميها العنان مسرعة كوميض برقٍ حتى تصل إلى حافة السطح.
تتسلَّق السور ثم تقف فوق حافته. تلتقط أنفاسها لثانيتين ثم تقفز برشاقة الفراشات فوق سطح بيتٍ جديدٍ لتتدحرج قليلًا قبل أن تستعيد توازنها. تنظر خلفها فتجد المسلح يقفز إلى السطح الذي غادرته. تُكمل جريها إلى أن تصل إلى قمَّة ماسورة الصرف فتحتضنها ثم تنزلق عليها إلى أن تصل إلى الدور الثالث. تُحكم قبضة فخذيها على الماسورة ثم تمد خصرها ممسكة بقضبان الحاجز الجانبي للسلم الخلفي للبناية. تتعلَّق في السلم مستجمعة قواها حتى تتمكن من رفع جسدها لتتخطى الحاجز وتنزل على السلم بسرعة إلى أن تهبط في الشارع الجانبي وسط دهشة المارة من العرض المجاني.
تجد نفسها في مواجهة شاب صغير يركب دراجة نارية يقودها عبر الزقاق فتوجِّه فوهة مدفعها إلى وجهه. تأمره بحزم بلغةٍ إسبانيةٍ أن يتوقف، فينخلع قلب الشاب رافعًا يديه استسلامًا، تاركًا الدراجة النارية في سلام.
قفزت جين على المقعد ضاغطة بكل ما أوتيت من قوة على مقبض البنزين لتنطلق الدراجة نحو مَخرج الزقاق هاربة بحياتها من جحيم الحي.
بعد نصف ساعة من الفرار تصبح في منأى عن الحي فتنعطف بدراجتها وسط الغابات لتختبئ في جوفها. أخيرًا تترجَّل ملقية جسدها على العشب بعدما أعياها التعب.
تلتقط أنفاسها اللاهثة ثم تنهمر في نوبة بكاءٍ هستيري لتُفرغ شحنة الغضب والفزع الجاثمة على روحها.
أخيرًا تتمالك نفسها ويجف معين دمعها، فتتأمل السماء مناجية:
- أعدك يا رايان ستحدث المعجزة.. سننتصر عليهم.. قد لا نؤمن بالأديان.. لكننا حتمًا نؤمن بالمعجزات.. وحتمًا سنلتقي قريبًا.
تنظر برفق إلى خصرها ماسحة بطنها بحنان بالغ.
***
فقدت إيزابيلا ما تبقى من عقلها. لأول مرة تستشعر أن عرشها تصدَّع بالفعل. تمشي في أروقة البيت الأبيض مثل إعصار أهوج يكنس ما في طريقه. تفتح باب غرفة اجتماعات فرعية ثم تصيح في الحرس: أريد بينا الآن.
يهرع الحارس لتلبية طلبها بينما توصد الباب. تتأمَّل قاعة الاجتماعات المستطيلة. تتلمَّس الكراسي بحنان أُمٍّ تُداعب وليدها. تتأمَّل نفسها على مقعد الصدارة محاطة بفريقها الرئاسي ثم تستبصر نفسها جالسة أمام لجنة تحقيق في مقعد الاستجواب بالكونجرس فتحترق غضبًا مُلقية المقعد على الأرض.
يدخل بينا في نفس اللحظة ليُفاجئه مشهد إيزابيلا الممتقعة بجانب المقعد الملقى.
تضغط على أسنانها:
- لن أتردد لحظة في استخدام سلطاتي لدحض انقلاب دستوري يُدبره الطابور الخامس. أريد قائمة ترشيحات لفريق رئاسي جديد.
يتنهَّد بينا ضجرًا: أيُّ قائمةٍ يا إيزابيلا؟ الدستور يُجبرك على الاستجابة لطلب الإحاطة المُقدَّم من أغلبية مجلس النواب.
تنفجر إيزابيلا: أتقصد المجلس المتآمر مع فيشر ورامزي؟ أليس جليًّا أنها مؤامرة لعودة الحرس القديم إلى السُّلطة؟
يتنهد بينا: لا فائدة من تلك النظريات الآن. الوضع يزداد سوءًا في الخارج. ألا تسمعين الهتافات؟
إيزابيلا: منذ متى تُدار البلاد تبعًا لمظاهرات الناس في الشوارع بعد سماع شائعة ساذجة أو خبر كاذب عبر السوشيال ميديا؟
بينا: تعرفين ولائي جيدًا لك.. من أجل مصلحتك، أنصحكِ بعقد صفقة خروج آمن.
تستفزها نصيحة بينا: تتحدَّث كأن ثمَّة تهمة أُثبتت عليَّ وأن عهدي قد ولَّى. أنت تتحدَّث مع إيزابيلا ستورم. المرأة التي أنقذت أعظم بلاد الأرض من حرب أهلية كادت تمزقها.. المرأة التي روَّضت الصين وأركعت روسيا واكتسحت التطرُّف الديني بقانون رارت وأنقذت العالم من أخطر إرهابي في تاريخ البشرية ثم عادت وأنقذت البلاد مجددًا من حربٍ أهليةٍ ثالثة.. هل بعد ذلك أحتاج إلى صفقة خروج من الباب الخلفي؟ لمثلي تُصنع التماثيل.
بينا: هل حقًّا كانت حربًا أهلية ثالثة؟
تصمت إيزابيلا قليلًا: ألا تعرف الإجابة؟ ربما عليك أن تسأل كاسل نفس السؤال.
بينا: إيزابيلا.. كاسل انتحر.. شنق نفسه منذ نصف ساعة!
تجحظ عينا إيزابيلا من هول الخبر فتجلس على المقعد المجاور إذ لم تقوَ قدماها على حملها.
يستطرد بينا: للأسف توقيت انتحاره ليس في صالحك.. الأمور تعقَّدت أكثر.
إيزابيلا بذهنٍ شبه شارد: انتحر.. أم نحره ديكر حتى تكتمل المؤامرة؟
يهز بينا رأسه: اتهام نصف الكرة الأرضية بالتآمر لن يُنقذك! أرجوكِ، حاولي التعامل مع الحقائق.
تنفجر مجددًا: تتحدَّث كأنك ملاك بريء لا يعرف شيئًا.. أتريدني أن أكرر لك نصَّ اجتماعنا السِّري؟ تحليل كولين أن المسيح الدجَّال بحاجةٍ إلى أن يخرج من جُحره لأن نمطه السلوكي يؤكد جموحه المرضي إلى السلطة والسيطرة على العالم، وأن فرصتنا الوحيدة تكمُن في غوايته بإيهامه بنصرٍ زائفٍ كي يترك جُحره ويبتلع الطعم ويرتكب الأخطاء، ساعتها فقط يسهل لنا قنصه؟ ألا تتذكر إستراتيجية الجُبن والمصيدة؟ هل كان بالإمكان إخراجه من جُحره بأيِّ حيلةٍ أخرى؟ الآن أصبح قراري المنفرد؟
بينا بحزم: لا توجِّهي نيرانكِ نحو أصدقائكِ الآن فهم قِلَّة. لم نتفق على أي تفاصيل. ولم نتفق على افتعال حرب أهلية مزيفة. نعم.. كان القرار قرارك. عمومًا ستتولى اللجنة التحقيق وسيُحال الأمر إلى النائب العام وأنا جاهز للاستجواب.. أتمنى أن تكوني أنتِ أيضًا جاهزة بالردود!
يترك بينا الغرفة بعصبية بينما تبقى إيزابيلا في مواجهة أشباح سقوطها. يعجز عقلها عن رسم مسار الخروج. كانت العتمة أقوى من أي بصيص أمل. تترك الغرفة مسرعة إلى غرفتها. تختلي بنفسها. تنظر مجددًا إلى صورة عرسها ثم إلى صور العائلة. زفاف ابنتها. عيد ميلاد حفيدتها روتشيلي. مراسم قسم الرئاسة. لم تتخيَّل يومًا أن تكون الصورة الأخيرة في ألبومها تُخلِّد أي لحظة سوى لحظة تكريمها كأفضل رئيس حكم وأنقذ البلاد!
تنظر إلى أعلى صائحة:
- لماذا تخليت عني الآن وأنا في الميل الأخير؟ لم أخُض الحرب من أجلي، بل نيابة عن إرادتك. نصرة لكلمتك. دفاعًا عن الإنسانية من شياطين البشر الراغبين في إغراق الأرض في التطرُّف والإرهاب.
تخطو نحو المرآة لتتأمَّل ملامح وجهها. كان الزمن قد سرق منها عَقدًا كاملًا خلال تلك الشهور العاصفة. ازدادت خطوطه فصنع صنعته في بشرتها حتى تهدَّلت. خطف لمعان عينيها وألقى المزيد من الشحم على عنقها وفوق أردافها.
- أفنيت حياتي من أجل هذه البلاد. أنقذتها من النيران أكثر من مرة. من الخائنين، من الصينيين، من الإرهابيين، من الشيوعيين، من الأناركية، من شيطان دجَّال يدَّعي الربوبية يعبث بعقول الناس ويغوي الشباب نحو الجنون عائدًا بحضارتنا إلى العصر الحجري.. وحدي وقفت ضدهم جميعًا. وحدي هزمتهم جميعًا.. حتى أعواني خذلوني وطعنوني في ظهري.
ماذا أرادوا أكثر ممَّا أنجزت؟ أن يحكم المتطرفون؟ أن أستسلم للإرهابيين؟ أن أترك قيادة البشرية للصين؟ أيُعاقبونني على شجاعتي في اتخاذ القرار الصعب؟ أيستجوبونني لماذا تسببت في معركة خاطفة لم نخسر فيها سوى العشرات، وافتدينا بها حياة الملايين؟ ثم قضينا بها على شبح شيطاني خفي ملأ العالم فتنة ودمارًا ثم كشفنا بها عن خائنين مستترين بين صفوفنا يدَّعون الوطنية وقلوبهم مفعمة بمؤامرات شيطانية على أمن البلاد، ما زالوا يتوقون لتمزيق الوطن؟
ألهذا يستجوبونني وتُنصب لي المحاكم؟
لتحترق الأمة التي لا تُبجِّل زعماءها.. فليمت البلد الذي لا يصون حُمَاته!
من بعيد يتسلَّل لمسامعها صدى همهمات خافتة. أصوات لا تقترب ولا تخفت. لكنها واضحة، تسري من قناتها السمعية إلى مخها. تتداخل مقاطع الكلمات مع صدى ضحكات.. ترتفع وتيرة الهمهمة تدريجيًّا حتى تصبح طنينًا لا يُطاق.
تمسك أُذنيها. تنتفض خلاياها من هذا الشعور الضاغط. الطنين يُغطي حتى على صوت عقلها حتى بدأت تتضح معالم الكلمات. تنفصل المقاطع ببطءٍ لتنسجم في صوتٍ واحدٍ يتكرر:
«السماء والأرض تزولان.. وكلامي لا يزول
السماء والأرض تزولان.. وكلامي لا يزول
السماء والأرض تزولان.. وكلامي لا يزول»
***