أفقت فوجدت في جوفي عصاً تتمدد. كانت قاسية كأنها نحتت من الصخور التي تطوق المقبرة من ثلاث جهات. وضعت يدي على رقبتي، ودلكتها لعلها تلين بعض الشيء، لكن القسوة لم ترحل.
كنت في أشد حال من الظمأ. حركت لساني في فمي لعلّه يصيد أي بلل، لكنه كان جافًا، وكأن غددي اللعابية قد أصابها عطب مثل كبدي. أخذت نفسًا عميقًا، وكأنني أريد للرطوبة الخانقة أن تصير رذاذًا، يمدني بأي قطرة ماء.
ـ "من أين لي بماء هنا؟".
سألت نفسي، وأيقنت أنني إن لم أمت من الرعب، ولا من توقف كبدي تمامًا وتوقف قلبي بعده، ولا من الاختناق بسبب هذا الخيط من النور والهواء الذي يأتي لي بالدنيا في قلب الآخرة، فإني سأموت من العطش.
كيف غاب عني في هذه الساعات العصيبة أنني لا يمكنني أن أحيا بلا ماء؟
هل جفت القطرات التي أهديتها لجسدي حين سقيته آخر جرعة ماء قبل أن أغيب، ويظنون موتي، ويحملونني إلى هنا؟
لم أستطع مع فشل كبدي أن أتناول طعامًا دسمًا. كان كله قطعة صغيرة من القريش، وخبزًا جافًّا، ألوكه على مهل حتى يذوب في فمي، فبطني لم يكن قادرًا على هضمه مثلما كان قبل أن يتمكن الأبالسة من كبدي. لكني كنت أشرب الماء بلا توقف، مرات لأرتوي وأعوض جفاف جسدي لقلة الطعام، ومرات لأبلع الأدوية التي أوصى بها الأطباء.
آخر جرعة ماء كانت تجري داخلي. محبوسة في جسد محبوس، وحين تمردت تريد الخروج من سجنها. ضغطت على مثانتي حتى ثقلت وآلمتني على ألمي.
إنها آخر جرعة ماء معي هنا. ليس ماء نظيفًا بالطبع، لكنه ماء، فيه بعض ما في الماء الذي كنت أعبه هناك فوق فراشي البالي. لكن كيف لي أن أحتفظ بها هنا؟
فكرت في البداية أن أضم أصابع يديَّ وأكورها، ثم أفرغ ما في مثانتي فيها، وأرفع ما يتبقى منه إلى فمي، حتى لو كانت قطرات، ثم اهتديت إلى فكرة أخرى، حين وقعت عيناي على جمجمة مقوسة، يمكنني أن أحولها إلى إناء ضيق، يحمل كل مائي، ويكون بوسعي أن أشرب منه غير مرة. كانت الجمجمة الوحيدة التي رأيتها هنا. أما بقية الهياكل العظمية فكانت بلا جماجم.
وكنت أعرف أن مثل هذا الماء سيزيد كبدي وجعًا، بعد أن كف عن جمع سموم جسمي، بل تحول هو نفسه إلى سم قاتل. لكن ما عساي أن أفعل لأبقى على قيد الحياة، أي حياة ولو لأيام، قلت إنني لم أعد أريدها، إلا أن كل تصرفاتي تدل على تمسكي بها، حتى ولو لساعات قليلة في قبري، تمر عليَّ في كل هذا الضيق والرعب والاشمئزاز.
تقدمت نحو جمجمة ممدودة إلى هيكل عظمي بالٍ بحبل من عظم تحلل وصار رمادًا. مددت إليها يدًا مرتعشة، ثم لممتها إلى جسمي. وجلست قليلًا إلى جانبها، وأغمضت عيني، ومددت يدي من جديد.
كنت أشعر وكأن صاحبها ينظر إليَّ، ويعاتبني بقسوة على أنني سأتبول في رأسه. من يدريني أن هذا الرأس كان في يوم من الأيام تتجلى فيه أعمق صنوف الحكمة، أو ينشغل بما لا يراه غيره. وربما كان رأسًا خاليًا من أي معنى، تصفر فيه الريح. مهما كان فهو كان رأس إنسان، وهو الذي أدار له كل شيء، صغيرًا كان أو كبيرًا من تدابير الحياة الحافلة بالتفاصيل.
لم أكن مشمئزًا كثيرًا من شرب بولي، فقد سبق أن فعلت هذا مرتين من قبل، بعد أن سمعت حكايات من الصول "عبد الجواد" الذي كان يجري أمامنا في طابور السير الطويل، وحين يهدنا التعب، يصرخ فينا:
ـ سريعًا مارش.
ثم يبدأ في ترديد حكاياته وهو يلهث. كان يقولها متقطعة بين أنفاسه المبهورة، لكننا كنا نردم الفراغات الكبيرة التي يتركها، ونضيف إليها من خيالنا، فتكتمل في رؤوسنا حكايات غريبة، ونحن نطالع الصحراء الممتدة أمامنا، وندوس رملها الذي يثقل خطواتنا، ويسحب الكثير من طاقتنا.
كنت جنديًّا في سلاح الصاعقة، ودربوني في أيام شاقة طويلة على أكل الثعابين والجنادب والجراد، وشرب بولي إن نفد ما معي من ماء، يترجرج في الزمزمية الصغيرة.
كانوا يأخذوننا في "تدريب حرب"، فنتصرف وكأننا تسللنا، أو ألقت بنا مروحية، خلف خطوط العدو، وحيل بيننا وبين أي إمداد، وعلينا أن نبقي أنفسنا على قيد الحياة بأي ثمن، حتى نواصل مهمتنا القتالية بنجاح.
كان مجرد تدريب، فأنا لم أشارك في أي حرب، واكتفيت بسماع قصص وأقاويل عن المعارك من الضباط وصف الضباط القدامى، الذين كانوا يتيهون علينا بذكرياتهم، وهم في راحة تامة للسلام الذي هبط على رؤوسهم من علٍ.
لم أتمن أبدًا أن أحارب، فأنا أكره النار والدم وأنين المشرفين على الموت. وتيقنت من مشاعري تلك حين توفي أحد زملائنا أثناء التدريب. رأيته وهو يغمغم، وصدره يرتفع وينخفض بشدة، وساقاه تلتفان على بعضهما، ثم تنبلج عيناه وتغيمان، وتنظران إلى بعيد
لا نراه. جلست يومها إلى جانبه أبكي، لكن أحد الضباط خلعني من مكاني، وشد على جسمه غطاء أزرق، وقال لي زاجرًا:
ـ خليك رجل.
رفعت وجهي إليه في غيظ، لأنه توهم بكائي صديقًا رحل ينقص من رجولتي، وداريت سخرية منه اندلعت في نفسي، حتى لا أنال عقابه.
كانت هي المرة الأولى التي أرى فيه جسدًا تغادره الروح، وتكرر الأمر مع أبي وأمي، حتى أنني تآلفت مع الموت قليلًا، وبعدها طالما شردت في نهايتي، لكن خيالي لم يصل أبدًا إلى ما أنا فيه الآن.
لم أحارب، لكن ها هي الحرب قد فرضت عليَّ في هذه المقبرة الموحشة، وانقطع عني المدد، لا طعام ولا شراب ولا سلاح، وعدوي لا أراه، ولا يبدو أن بوسعي الانتصار عليه، لكن كان عليَّ أن أتصرف كمقاتل جسور، وأن أستعيد رجولتي من أجل البقاء على قيد الحياة، لا البكاء على الموتى.
ـ "هل يصلح مقاتل فقد كبده لمعركة؟".
سألت نفسي، وأنا الذي قرأت في تاريخ الحروب عن مقاتل فقد ذراعه، وقاتل بالثانية، ومن فقد ساقًا ووقف على الأخرى يقاتل، وهناك من فُقئت عينه، وواصل القتال بعين واحدة. لكن لم أسمع من قبل أن مقاتلًا فقد كبده، واستمر في المعركة!
هي معركتي غير المسبوقة، وميدانها ليس باتساع الصحراء، إنما ضيق على قدر هذه المنامة المقبضة، وغربتي فيها أكثر من أي غربة لاقاها جندي قُتل كل رفاقه، وأصيب هو في ساقه، فعجز عن الحركة، وراح يزحف وحيدًا في الصحراء الشاسعة عن أي سبيل للنجاة.
في أي معركة كبرى هناك معارك صغيرة، معزولة ومنسية، لا تأتي على ألسنة كبار الجنرالات وهم يروون، في زهو، حكاية انتصارهم. معركتي الكبرى الآن هي أن أموت أو أحيا. بين الحالين هناك تفاصيل لا يجب أن تسقط من ذاكرتي إن نجوت.
سأعتبر أن تناول جرعة من بولي الحبيس معركة صغرى، كنت هناك أشربه مجبرًا، لكنني طالما تشجعت على فعل ذلك وسط رفاقي الذين يتجرعون مثلي. عليّ أن أفعل ما كنت أفعله. أغمض عينيَّ، وأتخيل أنه ماء عذب جار، وأرشف منه دون توقف حتى أرتوي.
سخرت من نفسي حين جاءت إلى رأسي كلمة "أرتوي"، وتساءلت:
ـ هل مثل هذا الماء يروي؟
هناك كنا نفرغ مثاناتنا في الزمزميات الفارغة. أما هنا فعليَّ أن أتخذ من هذه الجمجة آنية. أملأها ببولي المملح، وأشرب منه، وأدخر بعضه إلى أن يهاجمني العطش من جديد.
التقطت العظمة المسنونة، وأغمضت عينيَّ، ونزعت الجمجمة من مكانها، فسمعت أنينًا:
"إمممممم".
فزعت، فرميت العظمة السكين والجمجمة، ونظرت حولي، فإذا بكل الجثث ثابتة في مكانها، تنظر إلى الغيب البعيد.
"من أين أتى هذا الأنين؟!".
سألت نفسي من جديد، لكن لم يكن لديّ أدنى أمل في الحصول على إجابة، مثلما جرى مع كل الأسئلة التي قفزت إلى رأسي، كلما كنت أسمع هذه الأصوات المبهمة.
كان البول الحبيس يضغط على مثانتي بشدة، ولم تعد هناك أي فرصة للانتظار، سواء بدافع الخوف أو الخجل أو الورع.
لكنني حين انهمكت في قطع الجمجمة، كما يفعل أي نجار ماهر، نسيت ألم البول الذي يلح بقسوة في سبيل الإفراج عنه. مخي، الذي كان لا يزال يعمل بكامل يقظته، أمر المثانة أن تقوى، فصارت سدًا منيعًا حال دون فقداني أحد أسباب بقائي حيًّا إلى حين. إنه الماء، الذي جعل الله منه كل شيء حي، حتى لو كان ماءً غير طهور.
التقطت العظمة المسنونة والجمجمة، ودفعت الأولى نحو الثانية فنشرتها من الأمام. مررت بفتحات العينين والأنف. في البداية كانت العظمة تلاقي عنتًا من صلابة الجمجمة، ربما كان صاحبها يقاومني حتى لا أشوه ما تبقى له من ملامح، لكنها لم تلبث أن لانت، وتغلبت عليها، فقطعت فوق الفك، وفصلته عن التجويف العلوي، فانكسرت في يدي أسنان وضروس، بعضها كان لا يزال سليمًا، وبعضها نخره السوس فصار مثرمًا هشًّا، أثار نخالته في وجهي.
وأطل قعر الجمجمة صلدًا، وعلى صفحته نشارة عظم، وتراب ناعم، وشيء لزج كأنه آخر السوائل التي ترطب رأس ضحيتي من الداخل.
مددت يدي نحو كفني، وأخذت طرفه، ومسحت هذه العوالق، فصار إنائي نظيفًا. وضعته بين فخذيَّ، وتدفق بولي حارًّا، ومعه ألمي، حتى القطرة الأخيرة للماء، والنبضة الأخيرة للألم.
رفعت الجمجمة الآنية نحو فمي، ورأيت نفسي هناك في قلب الصحراء، أقف محاذيًا لزملائي وكل منا يضع في يده ماءه، منتظرًا أوامر الصول "عبد الجواد":
ـ ارفع.
رفعنا الزمزميات نحو أفواهنا، وأغمضنا عيوننا، فأتى الأمر الجديد:
ـ اشرب.
ثم يبدأ العد (واحد.. اثنان.. ثلاثة)..
في البداية لم يكن أي منا يتصور أن يحدث هذا أبدًا، لكن حين أرسلنا أطراف عيوننا نتلصص على بعضنا البعض تشجعنا، ونفذنا الأوامر. في المرة الأولى، جرى أغلبنا إلى الخلف بعد أن شربوا، وأخذتهم نوبة قيء قاسية، حتى كادت أحشاؤهم تخرج وتُلقى على الرمل. وفي المرة الثانية جرت قلة منا. وفي المرة الثالثة، تبادلنا النظرات، ورحنا نقهقه، ونهز رؤوسنا غير مصدقين أن هذا قد جرى، ونحن ننظر إلى الصول في انتشاء، وكأننا نريد أن نقول له بكل فخر:
ـ فعلناها.
ماذا لو دخلت أنا الآن في نوبة قيء؟!
هل يمكن أن أجد كبدي قد سقط أمامي؟!
تمنيت لو حدث هذا بالفعل. لكن الذي جرى كان غير ذلك. وجدت نفسي مستسلمًا للخيار الأخير، فأغمضت عينيَّ، وشربت ربع ما معي، ثم وضعت الجمجمة على الأرض، وسندتها بعظام من الجوانب الأربعة، ثم وقعت في نوبة ضحك هستيري.
كان صوتي مدويًّا، وكأنني أطلق آخر صيحة لي في الدنيا. وجاءني الصدى، ليس من الجدران، على ما يبدو، لكنه من العظام المرصوصة والمكومة، التي رأيتها تهتز بشدة لضحكاتي، وتتأرجح يمينًا ويسارًا، فعدت من جديد إلى الرقص.
طوحت يديَّ في الهواء، ليتمايل ما تبقى من جسدي النحيل، الذي صار عود خيزران قديمًا نخره السوس. أخذتني نوبة رقص، لم تطل، فقد بلغ مني التعب مبلغًا شديدًا، فوقعت مكاني، مستلقيًا على ظهري، وأنا أسحب أنفاسًا من خيط الهواء الذي يأتي على استحياء من الثقب، الذي يربطني بالحياة، هناك بعيدًا عن قبري، الذي لم أختره.
ولا أدري لمَ حلت برأسي في هذه اللحظة كل الأسرار التي دفنوها معي. أسرار قد يراها غيرهم لا تستحق أن تجرني إلى القبر، لنموت معًا، لكنها عندهم وأمثالهم خطيرة ومزلزلة.
مر شريط مكثف من الذكريات والحكايات والثرثرات في لمح البصر أمام ناظري، أو في مكان ما برأسي، أو فيهما معًا. تدفق كشريط هادر في زمن وجيز جدًّا، ثوان معدودات استعدت فيها كل شيء أو استعادني، سيان. المهم أنني شعرت في هذه اللحظة بأني أقبض على شيء يدفعني إلى الكفاح من أجل الخروج، كي أعرف تمامًا ما جرى لي قاطعًا الشك باليقين، وربما لأنتقم ممن رماني هنا دون أن تهتز شعرة في رأسه.
كل شكوكي تحوم حوله، ألم يرمني بشرر من عينيه قبل أيام من غيبوبتي، وقال:
ـ إن لم تبلع لسانك فسأخرسك إلى الأبد.
يومها تطلعت إليه في فرح، وسألته سؤال من لا يعرف شيئًا:
ـ على أي شيء أبلع لساني يا حضرة العمدة؟
أمسك كتفي الضامرة، وضغط عليها بأصابعه الخشنة، وقال:
ـ أنت تعرف ما أقصده.
ورأيت في عينيه الجاحظتين كل الأسرار التي استعرت في رأسي. كانت مرسومة في مقلتيه، وأطل الغل وراءهما جمرات متناثرة، شعرت أنها ستطير إلى ملابسه القطنية، فتحرقها وتحرقني.
هززت رأسي، وطأطأته، وقلت:
ـ يبدو أن شيئًا قد وصلك لا صحة له.
مد يده إلى ذقني، ورفع رأسي حتى تتلاقى عيوننا، ونظر إليَّ مليًّا، وقال:
ـ شغل الثعالب لا ينفع معي.
عدت إلى مكري من جديد، وقلت:
ـ لا شيء عندي، ومع هذا سأبلع لساني كما أمرت، فاطمئن.
تركني ألملم خوفي وألقيه على تراب الشارع، وأدوس عليه، محاولًا أن أدفع قدميَّ بعيدًا عنه، لكنهما كانتا ثقيلتين، فظللت واقفًا مكاني، بينما هو أعطاني ظهره، ومضى صامتًا.