9

لم أكتب شيئًا، لكنني جلست أحكي للموتى. أفرجت عن كل الكلام الحبيس، الذي لم يشفع لي حبسه عند أولئك الذين أتوا بي إلى هنا.

لم أكن في دهشة من أمري، فالكلام مع الموتى ليس جديدًا عليَّ. ألم أجلس ساعات طويلة محدقًا في الظلام لأخاطب وجهي أبي وأمي الراحلين؟ طالما شكوت لهما غربتي وألمي، ومددت يديَّ إليهما لعلهما يسحباني إلى حيث ذهبا. كنت في هذه اللحظة أشعر أنهما على قيد الحياة وأنا الميت. على الأقل هما استراحا من الكيد والهم والألم، وسبحا في بحار الراحة والأمان الأبديين. نعم هناك السكينة التي لا نهاية لها، والراحة التامة، وهنا الصخب والسعار الذي لا يتوقف.

كان أبي ينظر إليَّ صامتًا، وعيناه تلمعان في الظلام، ثم تصير بقعة نور مبهر لم أر له مثيلًا، يغمرني، ويغرس حبات بيضاء على صدري، فتسقط عني همومي.

أمي كانت شفتاها تتحركان باتجاه النور، وتقولان ما لا أسمعه، لكنني أدرك أنها كلمات طيبة، تندفع حروفها إلى رأسي فأشعر أنني غارق في السُكْر والمحو والغياب.

أحاول أن أبقيهما هنا معي، لكنهما كانا ينسحبان في هدوء، فينحسر النور، وتنغلق الشفتان النديتان، ويعود الظلام.

ذات ليلة جريت خلفهما لأمسك بهما، لكنني اصطدمت بالحائط، وانخرطت في نوبة بكاء حاد. دموعي وقتها لم تكن ساخنة. كانت حبات بَرَد تتساقط على كفي، ثم تنفلت من بين أصابعي، لكنني كنت ألملمها على عجل، وأمسح بها وجهي، فيراه الناس في الصباح قد تعافى من صفرته وانكماشه وانقباضه، وصار رائقًا كأن المرض قد غادرني. أما أنا فكل مرة كنت أحسبها صحوة الموت، التي تأتي قبل الغياب الأخير.

أحيانا كنت أجلس في الظلام موليًا وجهي صوب الجدار، وأناديهما أن يأتيا على عجل، لكنهما لم يستجيبا لنداءاتي. كانا يأتيان بغتة، حين يروق لهما المجيء. ومع هذا كنت لا أكف عن الحديث إليهما، في حضورها الذي أتخيله وغيابهما الحقيقي، محاولًا أن أستحضر النور الوضيء، وحروف الشفتين.

لهذا كنت أتحدث بسرعة إلى الموتى هنا كأني أرغب في ذكر كل ما جرى قبل أن تسقط عيناي مغمضتين إلى غياب طويل. تمنيت لو مت وهما مغلقتان تمامًا، حتى لا تبقى أي صورة لهذا المكان فيهما. لكني تمنيت أكثر أن أفرغ من كل أسراري، التي تضنيني.

جلست متربعًا، كأني سأتلو آيات من القرآن، ورحت أحكي. توحدت في هذه اللحظة مع الشيخ "محفوظ" الذي كان يتربع ويضع كفه على خده، ويغمض عينيه، ويملأ الآذان موسيقى مقدسة. وفور أن ينهي التلاوة، يمسح وجوه الحاضرين بعينيه الضيقتين، ثم ينتظر أن يقول له أحدهم:

ـ عاوزين حديت حلو يا مولانا.

فيفتح فمه في ابتسامة عريضة، ثم يطلق العنان للسانه، ذاهبًا في التاريخ وعائدًا إلى الحاضر، في حديث مرسل ليس بوسع أي من السامعين أن يقبض فيه على فكرة عميقة أو معنى له تأثير، لكنه في كل المرات كان حديثًا ينطوي على كثير مما يسلي، ويخفف عن النفوس المتعبة، ويفتح أبواب الخيال، ويمنح الأفئدة بهجة، تعينها قليلًا على مواجهة صروف حياة قاسية. ولم يكن أي من الطالبين لحديث الشيخ ينتظر فائدة تتجاوز هذا، حتى لو التقط بعض الأفكار مما يسمع، أو وقف عند معنى تائه في وسط الحكايات التي تتناسل بلا هوادة.

كان كلامي يدور في المنامة، تصده الجدران فيندفع إلى عظام الموتى. كانت تتحرك مع الكلام، ولم أعرف ما إذا كانت مبتهجة بمعرفة كل هذا، أم حزينة لأني تخليت عن صبري الطويل. ابتسمت وأنا أراها تتحرك حين تذكرت ما كنت أقرؤه في كتب الدين من أن الاغتياب مثل أكل لحم الموتى. فلا يوجد لحم هنا آكله سوى تلك الجثة الطرية، إلا أنني لم أشعر بالجوع قط منذ أن أتوا بي إلى هنا. وعنت لي في هذه اللحظة فكرة أخرى غريبة. ماذا لو أخرجت كبد الجثة، وأكلته؟ هل يعوضني عن كبدي التالف؟ كنت سمعت عن زراعة الكبد التي يجرونها في بلاد بعيدة، لكن ليس بوسع من هم في مثل حالي أن يقدروا على كلفة هذه العملية الجراحية الدقيقة.

ـ "يمكنني أن أزرع كبدًا لنفسي هنا مجانًا".

قلت ساخرًا من أفكاري العبثية. كثيرًا ما حلت برأسي مثل هذه الأفكار حتى وأنا هناك بين الناس. كنت أردم الهوة الواسعة بين ما أرغب فيه وما أقدر عليه بأحلام اليقظة، التي كانت مفعمة بشطحات غريبة، وخيالات غبية، لا تخضع لأي منطق، لكنها كانت لذيذة على كل حال.

ربما ما أتاني الآن ليس سوى شيء من هذا العبث المقنع، الذي استغرق زمنًا طويلًا من حياتي. كنت موزعًا بين الصمت الطويل، والأحلام الأطول، حتى إنني حين أصبت بمرضي العضال لم أتخل عن التفكير في حياة مديدة.

ورأيت نفسي شيخًا طاعنًا في السن يتوكأ على سنينه التسعين. ورأيتني قد قابلت "حميدة" غير مرة، في شبابها، وفي كهولتها، وفي شيخوختها الهادئة، وشعرت أن عشقي لها يزيد مع الزمن.

جاءتني مجهدة، فأخذتها في حضني، وبكيت على كتفها ساعة من نهار، ثم حكيت لها كل الأسرار، فصارت هي الوحيدة التي تعرف كل ما ضننت به على غيرها. وكنت واثقًا من أنها لن تذهب إلى أي أحد حتى في منامه، وتشي بي عنده.

كنت أجلس وحيدًا تحت الصفصافة العالية، وأبوح لـ "حميدة"، وكانت تستمتع أكثر بحكايات الغرام، وتطلب المزيد، فأغمض عينيَّ وأغرق معها في قبلة بطول سنوات الفراق.

هل أخلفت "حميدة" وعدها ، وقالت لهم ما بحت به لها؟

هل أثقلتها الأسرار التي سمعتها، فعادت إلى القرية، ودارت على بيوتها، تقول لأصحابها كل ما تعرفه؟

ما هذا الهذيان؟ فهي لم ترجع إلى القرية منذ أن ذهبت عنها، ولو كان هذا قد جرى كنت سأعرف من دون شك، بل إني اعتقدت أن قريتنا لا ترد على ذهنها كثيرًا، بعد أن حلت مكانها قرية أخرى، بوجوه ناسها وحكاياتهم، وصور بيوتهم وحقولهم وبهائمهم، والطرق والمسارب المؤدية إلى الشوارع والحواري. وكل هذا جعل ما قلته لها قد ذاب من رأسها. لهذا لم أعتبرها حاملة لأسرار بحت بها، يمكنها أن ترتد إليّ نقمة، إن باحت هي بها. الوحيد الذي ظل معي حتى اللحظة الأخيرة، ورآنا الناس معًا ليل نهار، هو صاحبي، لكن لم يرق إليَّ شك في البداية أنه لن يتسبب ليّ في ضرر، ثم انفتح باب الظنون.

ـ "أين أنت يا حميدة في دنيا الله؟".

سؤال كررته آلاف المرات، ولم أتلق إجابة. سمعت صوتها فور إفاقتي في قبري، ثم صمتت بعدها فزادت غربتي. ربما كانت هنا بالفعل، وربما هي مجرد خيالات مشوشة غامضة، مثل تلك التي طالما صحبتني وأنا أعود من الغياب.

تعبت من جلستي متربعًا، كل هذا الوقت، فمددت ساقيَّ حتى مستا أقرب رفات إليَّ. شعرت برعدة تسري في أوصالي، فسحبت جسدي إلى الخلف قليلًا، وأسندت رأسي إلى الجدار، ورحت أحدث "حميدة" بمزيد من الأسرار.

هي الوحيدة التي ائتمنتها في هذه الدنيا، أكثر من صاحبي الذي شعرت في أيامي الأخيرة بالقرية أنه يروغ مني. لا أعرف على وجه اليقين إن كان فعلًا يروغ مني أم أنني توهمت هذا؟ يااااااااه لم أعد قادرًا على الوصول إلى شيء محدد وسط اضطرابي الشديد، وهذه الغيوم الكثيفة التي تملأ رأسي، ولا يبدو أنها ستنقشع.

حكيت لها عن الذين وزعوا ميراثهم سرًّا قبل موتهم، فحرموا بناتهم حتى لا تذهب أرضهم للغريب. وعن الذين كتبوا مبالغ، قدروها جزافيًّا، في إيصالات الأمانة الموقعة على بياض ثم طالبوا بها كأنها حقوقهم. وعن شهود الزور في وقائع كثيرة، ذكرت لها بعضها، وعن تاجر الغلال الذي يفضل الذكور في سريره على الإناث، وتاجر المواشي الذي يفضل حمارته على زوجته البدينة، وعن كل أولاد الحرام، والنساء الصابرات على عجز أزواجهن سنين طويلة، وعن الذين سرقوا، والذين حرقوا، والذين باعوا شرفهم بثمن بخس. وفصَّلت في الحديث عن أصل أبناء العائلات، فهؤلاء كان جدهم كلافًا، وهؤلاء كان جدهم لصًا، والثروة التي ورثوها ويتيهون بها على من لا يعرفهم هي حصيلة ما نهبه، وأولئك كان جدهم قاتلًا محترفًا، هرب من الصعيد الجواني، وهؤلاء كانت جدتهم شحاذة، وما معهم هو ما جمعته من جيوب الناس.

كل هذا يبدو عاديًّا. في القرى جميعها أناس على هذه الشاكلة، أما الذي هو غير عادي فهو ما أعرفه عن القتلة والمقتولين. فكثيرًا ما مات في قريتنا أناس دُس لهم السم في الطعام أو الشراب، أو ذبحوا بسكين بارد في الليل البهيم، أو شُنقوا بحبال متينة وتركوا معلقين على جذوع النخل، تعبث بهم الريح. كل هذه الجرائم سجلت ضد مجهولين، بينما أعرف أنا من قتلوا، ومن حرضهم.

سقطت عليَّ الأخبار والأسرار من كل ناحية، حين جلس القتلة ليعترفوا، أو جاء من حرضهم وباح لي، أو وصل النبأ إلى جارتنا الطيبة التي تعسّ في البيوت. أما أشد الأخبار خطورة عليَّ فقد كان ابن اللص الذي يظنه العمدة ابنه.

لو أن دارس قانون مثلي، أبلغ عن كل هذه الجرائم، وأمرت النيابة بإخراج الجثث من قبورها، وأُعيد تشريحها، سيجد المحققون أمامهم ثلة من المجرمين، منهم الذين سيؤخذون إلى السجون ليقضوا فيها سنين طويلة، ومنهم الذين سيساقون إلى المشانق. وعندها سيعاد ترتيب كل شيء، السير والمواريث والأنساب والحكايات.

لأجل هذا كان لا بد لي من أن أصمت، وأساق أنا إلى قبري قبل فوات الأوان. ألم يجدوا طريقة غير تلك للتخلص مني وهم من لهم في فنون القتل باع طويل؟ إنهم يقتلون البعض قهرًا حين ينصبون عليه ويسلبون منه ماله أو أرضه، وهناك من يدسون له السم في الطعام، وهناك من يطلقون على رأسه الرصاص من بين أعواد القصب والذرة وخلف أشجار الحدائق.

حاول العمدة قتلي مسمومًا قبل سنة، وقتها لم يكن مرضي قد أعلن لي عن نفسه بهذا الصخب، ثم جلس وتربع في جسدي، وتمكن مني.

لم أمت بالسم، فقد كانت لي أيام أخر في الدنيا لا بد من تقضيتها. فيومها، وعلى عكس المعتاد، جاءت عربة الإسعاف سريعًا، وكان أمهر أطباء المستشفى موجودًا، فغُسلت معدتي، وسُحب السم من دمي، وعدت من أول غيبوبة لي.

لم أتهم أحدًا رغم أنني كنت أعرف من دس لي السم، فأنا شاب غريب في هذه القرية، وليس من الحصافة أن أستعدي عليَّ أهلها، لكن يمكنني أن آخذ حذري، وهو ما فعلت.

ازددت كتمانًا، حتى كدت أن أنسى صوتي، وامتنعت عن تلقي أسرار جديدة، حتى إن جارتنا تعجبت حين اقتربت مني لتهمس في أذني بخبر جديد، حين قلت لها:

ـ لا أريد أن أسمع شيئًا.

ورفضت تناول طعام أو شراب في أي بيت، وأقلعت عن عادة الخروج إلى الغيطان ليلًا. وظننت أنني بكل هذه التصرفات قد نجوت. لكن السهم جاءني من حيث لا أحتسب. كبدي الذي اعتل، وأبكاني بحرقة أمام صاحبي يوم أن عرفت ما حل بي. صمت برهة، وقال:

ـ هل ترى أن مرضك طبيعي؟

رفعت وجهي مستفهمًا، فواصل:

ـ الذين سمموك أمرضوا كبدك.

وحكى لي حكايات عن الذين وضع لهم دم العادة الشهرية لامرأة ولود في الطعام أو الشراب، فظلت أجسامهم تنحل وتصفر إلى أن ذابوا.

لم أجرؤ على أن أستفهم عن هذا من الطبيب الذي كانت عيناه، طيلة الوقت، تفيضان بالحزن. ولم أسأل ورق الفحوص والتحاليل، ولا صور الأشعة، عن شيء. حتى تحليل الــ "بي سي آر" لم ينبئني بخبر سوى اعتلال كبدي تمامًا.

جاءت هذه الأسئلة معي إلى قبري، ومنها الأقاويل الاعتيادية التي تتحدث عن مسؤولية مياه الترع، والدم الملوث، والقمح المتعطن، وتاريخ المرض في العائلة، والخلايا السرطانية التي تولد لأسباب عديدة، وبعضهم ذهب في اتجاه آخر، وقال:

ـ عين وأصابتك.

"هل أسأل الموتى هنا؟".

لماذا لا أفعل؟ سأسألهم فلعليّ أجد لديهم إجابة على كل هذا، بعد أن عجزت عن الوصول إليها في دنيا الناس هناك.

قد يكون من بينهم من ماتوا بعد أن توقفت أكبادهم عن العمل. نعم. من الممكن أن يكون ذلك. فلست أنا أول من واجه هذا الوحش الرهيب.

رحل في السنوات الأخيرة رجال ونساء كثيرون بعد أن غزاهم المرض اللعين، وتمكن منهم. وكنا نحكي عنهم على المصاطب، ونمصمص شفاهنا، دون أن يدري أي منا، أنه قد يلحق بهم عما قريب.

اقتربت من صاحب الجثة الطرية، وطرحت عليه السؤال:

ـ هل أماتك كبدك؟

لم يجلس، وينظر في عينيَّ، ثم يتنهد ويجيبني. بل ظل مكانه ممددًا بلا حراك. كانت عيناه مكشوفتين، بعد أن سحبت الكفن من فوقهما، حين اقتربت منه بالأمس. كان خيط النور يتدلى عن يساري، ويسقط على وجهي الأصفر الضامر، وينكسر على العظم النظيف الرقيق، ويحط فوق الجثة الطرية.

اقتربت أكثر منها، فروعني ما رأيت، ووضعت يدي على رأسي، وجذبت شعرات شاردات عند الفود الأيمن. ونظرت إليهما مليَّا، حتى أتيقن من اشتعال رأسي شيبًا، كما بانت لي صورتي التي ارتسمت في عينيَّ الرجل الجامدتين كالزجاج. حملقت أكثر، لأتأكد مما رأيت. كان الموت جاثمًا في مقلتي الرجل. ليس موته هو، بل موتي أنا.

شبت من الخوف أو من الشعور بقرب الرحيل الأبدي، سيان لديّ. فشعري، الذي قصوه دون اعتناء، صار أبيض كالقطن عند الفودين، ولا تزال شعرات سوداوات تقاوم حول المفرق، وفوق الجبهة. لكن البياض غالب.

لم أعد في حاجة إلى سماع إجابته، فعيناه أجابتا بوضوح أنني شخت في يومين مرا عليَّ هنا، ولم يعد هناك مجال للأسى على شبابي الضائع، مثلما كنت أفعل كلما نظرت في المرآة، ورأيت شعري الناعم فاحم السواد ومسترسلًا، وجلدي غضًا ورائقًا، وعينيَّ يسكنهما أمل في أجل طويل.

لم يعد أمامي من سبيل سوى قتل ما تبقى من شبابي. هههه، عن أي شباب أتحدث، فمن رأيت في عين الرجل الميت هو شيخ هرم، أكل عليه الزمن وشرب. لكن عليّ أن أتحدث، لأفرغ من كل أسراري، التي ما إن قررت أن أفرج عنها، حتى ضغطت على نفسي تؤلمها.

لا سبيل للعودة إلى الكتمان، ولا يوجد ما يحول الآن دون حديثي، فعلى الأقل من سيسمعونني لن يؤذوني بما سمعوا مني، مثلما يفعل الأحياء هناك. لن يكون بوسعهم أن يذهبوا إلى الناس في أحلامهم، ويفشوا لهم كل الأسرار، فالمقبرة مغلقة بإحكام، وأرواحهم فرت من هنا، وأنا لن أسمح لأحد بالخروج إن عزم على هذا.

هههههه، ما هذا الذي أفكر فيه. ألم أقل من قبل أنني سأحكي لهم ليذهبوا إلى أهل قريتي في أحلامهم، ويفضحوا كل شيء. يبدو أن هذا الهذيان قد بلغ مني مبلغًا قاسيًا!

خروج؟! عن أي خروج أتحدث؟ هنا دخول بلا خروج، الشيء الوحيد الذي سيخرج هو روحي. في الحقيقة ستخرج لأنها ليست شيئًا. تمنيت لو تمكنت من أن أحبسها معي هنا، فهذا معناه أن أبقى زمنًا يكفي لموت شخص آخر ينتمي إلى الأسرة صاحبة المقبرة التي حللت بها، وحين يأتون به ليدفنوه سيجدونني، وأخرج جسدًا وروحًا.

وجدت نفسي متآلفًا مع جثة الرجل الميت، بعد أن أراني نفسي في عينيه. لم أعد أخاف الاقتراب منها، بل اقتربت أكثر، وتمددت إلى جانبها، وطوقتها بذراعي، ودفنت رأسي في الكفن المتدلي عند الكتف اليمنى، ومسحت فيه دموعي التي سحت غزيرة على خديَّ.

كان النور يتدفق بين وجهي ووجه الجثة، فعادت إليَّ الرغبة في أن أكشف الوجه كاملًا، لأعرف من صاحبه، وبالتالي أعرف في أي مقبرة دفنوني؟

هذه المرة زال عني الخوف، فسحبت الكفن سريعًا، وبان لي وجه الميت كاملًا. ذلك الأنف الواقف كحد السيف. تلك الزائدة الجلدية الكبيرة التي تحط على يساره. هذا الجرح القديم الذي يقسم الخد الأيسر، يولد تحت العين، ويموت عند الذقن. تلك الرقبة الطويلة التي تبان فيها وحمة سوداء، تبدأ من القفا وتتسلل إلى الأمام قليلًا، وينبت فيها شعر أسود منحول. هاتان الأذنان المفرطحتان اللتان تتدلى منهما شحمتان ثخينتان. ذلك الجبين العريض، المزدحم بتجاعيد تتلاحق كموج البحر. هاتان الشفتان الغليظتان المقددتان المنطبقتان على فم واسع. وحين فتحتهما في حذر، أطلت السنتان الفضيتان، ولمعتا في خيط النور.

تأكدت أنه هو، فالرجل الميت الذي لا يعرف الآن، وربما يعرف، أنني جئت إلى هنا بسببه، لم يكن سوى اللص الذي تسلل ذات ليلة إلى مخدع زوجة العمدة وضاجعها، فأنجبت ولده المزعوم.