12

كان عليَّ أن أواصل الحفر من جديد. زعيم اللصوص أغلق طريقي إلى الدنيا من أعلى بحجر أقسى من قلبه. دفعه في غل إلى الفتحة التي استغرقت صناعتها مني ساعات طويلة، لكنه لم يثبته جيدًا، فحين انجلت السماء بنجوم زاهية، وجدت النور الخافت ينضح من الجانب الأيمن للحجر، وكان عليَّ أن أخلخله من شتى جوانبه، ثم أزيحه بعيدًا بعظمة قوية.

غادر اللصوص، وعاد الصمت ثقيلًا، كأنهم لم يأتوا. رميت أذنيَّ باحثًا عن أي صوت فلم يتهاد إليَّ سوى السكون. لم يكن أمامي من سبيل لأهزمه سوى العودة إلى الحفر، فاحتكاك العظمة المسنونة بالجدار والسطح يملأ المقبرة حياة.

ألفت صوت الاحتكاك هذا مع الوقت كموسيقى غريبة، وراحت غربتها تموت عند أذنيَّ حتى بدأت أهتز معها. كنت أرقص وأنا أحفر كبجعة ذاهبة إلى النهاية. اختلط صراخ الاحتكاك المتواصل بالأنين الذي تصاعد في صدري. وانطلقت في الغناء.

لم أغَنِّ أيًّا من تلك الأغنيات القديمة الحزينة التي كانت تروق لي، وكنت أرددها ليل نهار، لدرجة أن كل شباب القرية كانوا يسخرون مني، ويرونني أعيش في زمن بعيد، حتى إن أحدهم قال لي يومًا:

ـ أنت من زمن الطرابيش.

غنيت كلمات فاضت بها نفسي، لم أرتبها، ولا أعرف من أين أتت إليَّ. كانت عن الغروب الذي ينزف، والقمر الأحمر الذي رأيته هنا فوق صهوة الجبل في أول ليلة جئت مع أهل قريتي لندفن ميتًا طاعنًا في السن.

لم أكن أفرق في كلماتي بين قمر يبزغ، وشمس تأفل، فكلاهما كان ينزف ككبدي، لكن دماءهما لم تستقر على فراشي البالي،
ولا أرض المقبرة اللدنة.

استغرقني الغناء الحزين حتى نسيت مكاني، وكأنني أفتح كوة في جدار بيتي لأثبت فيها مشجبًا، أعلق عليه ملابسي، أو أصنع حفرة في جدار المسجد لأغرس فيها وتدًا تستقر عليه لوحة ضخمة مكتوب عليها أسماء الله الحسنى، مثلما فعلت ذات يوم.

راح العرق يتفصد غزيرًا رغم برودة المقبرة، والريح التي أخذ هديرها يصل إلى أذنيَّ بعد أن تمكنت من إزاحة الحجر قليلًا، فأطل الليل عليَّ.

سمعت صوت رفيف قويًّا.

أهي طيور جارحة هبطت من الكهوف علها تجد بقايا جثة نهشتها الذئاب؟

أم فرقعة جلباب واسع يضربه الهواء؟ أم هو رقص جريد النخلة الوحيدة التي تقف عند سور المقبرة كحارس عجوز؟

أم أنها موجات الريح تتصارع في الفضاء البعيد ليتساقط ضعيفها فوق رؤوس الموتى؟

تصاعد الرفيف، وصار مصحوبًا بزحف قدمين على الرمل والحصى. وفجأة رنت ضحكة عالية، دارت في دوامات الهواء ثم ملأت أذنيَّ.

لم أحدد مكان إطلاقها هكذا عفية مشبوبة بفتنة وغنج، فالصوت في الليل يسري، ومثل هذه الريح قادرة على أن تحمل شوق امرأة مستهامة لمسافات طويلة. ربما هي هناك تتقلب على سرير خشن تحت نافذة مفتوحة، أو تطرح جسدها على حشية من قش فوق سطح بيت عال.

كأنها كانت تضحك لي، فتوقفت عن الحفر، ورغم أن جسدي صار منهكًا كخرقة بالية، سرت فيه دماء الرغبة، فانتفض ذكري من مكانه، وكأنه يريد أن يخبرني بأنني لا أزال على قيد الحياة. مددت يدي إليه، وتحسسته في الظلام، وأنا معذب ببكارته. جئت إلى الدنيا، وها أنا ذاهب عنها، وهو على حاله، مدفون بين فخذيَّ، وتحت ملابسي، ثم كفني الذي تجردت منه. ربما لاحظ الذي كفنني تلك البكارة، وربما تساءل: كيف لمثل هذا ألا يذوق طعم الدنيا؟

حتى "حميدة" اكتفيت منها بشفتيها الساخنتين، ونهديها النافرين، وحين خلا البيت لي بعد موت أبي وأمي، ورحيل أخي المستعار، وتهيأت لي الدنيا، التي لم أدخلها، صرت، بعد أن سكنني المرض، غير نافع لأي امرأة من اللاتي كنت أرى رغبتهن فيَّ.

أصبحت لديهن مثيرًا للشفقة بعد أن كنت مثيرًا للرغبة. وحتى التي ظلت منهن راغبة فيَّ صدتها حكايات تداولها الناس عن عدوى مرضي. قال بعضهم بكل ثقة الجاهلين:

ـ مرضه سينتقل إلى أي امرأة يمسها.. لن يتزوج أبدًا.

وهكذا صرت معزولًا، قبل أن تزداد عزلتي هنا، بين الجثث المتعفنة، ولم يعد لي من سبيل للخروج سوى مواصلة الحفر، وأنا أستعيد ما فعله أبطال فيلمي "الهروب الكبير" و"الكونت دي مونت كريستو"، الذي صنع على غراره فيلم عربي اسمه "أمير الانتقام"، لكن كليهما كانا يعرضان أمامي رجالًا يحفرون بدأب وإصرار طريقهم من السجن إلى البراح.

شرودي في الصور التي احتشدت في الذاكرة من هذين الفيلمين أنساني ما سرى في جسدي، وعاد ذكري إلى موته، الذي طال منذ أن استفحل المرض، حتى ظننت أنه لن يحيا أبدًا.

رجعت الضحكة ترن من جديد، وتقترب. هذه المرة كانت طويلة، وأتبعتها شهقة، طار لها عقلي. رفعت جسدي نحو الثقب الصغير الذي أفلحت في صناعته، بعد أن أزحت الحجر، فسمعت صوت رجل يهدهد امرأة تتمنع عليه إمعانًا في الدلال.

هي امرأة إذًا، وهنا في المقبرة، على بعد خطوات من موتي الآتي. بدا صوتها يقترب، وظهر صوت رجل يدللها، ثم سمعته يقول لها:

ـ افرشى البطانية إلى جوار المنامة، فهنا يمكنني أن أعطيك ما تطلبين.

سمعتها ترد عليه:

ـ سنرى.

غمغم، وقال:

ـ ألا تصدقيني؟

ـ لا، لكن لا أريد أن أصدقك.

ـ لم أكذب عليك أبدًا.

صمتا برهة، ثم سمعتها تقول له:

ـ هل ستضيع الوقت في الكلام كالعادة؟

سمعت ضحكته، وبعدها سمعت تنهيدة المرأة، وصوت شفاه تتصارع في الظلام. كأنهما كانا واقفين، ثم بدآ يجلسان رويدًا رويدًا. هكذا فهمت من متابعتي للأصوات التي يصنعها الشبق، وصوت اندهاس الرمل والحصى تحتهما، حتى تيقنت من أنها قد نامت، ونام هو فوقها.

سمعتها تتأوه، وهو يقول لها، وصوت لعقه لما ظهر من جسدها يصلني:

ـ اخلعي ملابسك.

ورفرف في الريح شيء، لعله ملابسهما حين رفعاها ليتخلصا منها، ثم عاد صوت القبلات يفرقع قليلًا، ولم يلبث أن مات.

لم أعرف كيف أتصرف حيال ما يجري خارج قبري. رجل جاء بامرأة ليضاجعها هنا فوق رؤوس الموتى، غير عابئ بشيء سوى إطفاء نار شهوته.

هل أناديهما؟

أعتقد أنهما لو سمعا أي صوت هنا سيفران عريانين إلى عرض المدق، أو إلى تحت سفح الجبل بحثًا عن مغارة تأويهما إلى أن يجدا مخرجًا إلى الطمأنينة.

هل أنصت إلى صوت غرامهما فأسرِّي عن نفسي؟

أعتقد أنني لو سكت سأكون قد ضيعت الفرصة الأخيرة لخروجي من هنا. فلعل هذه المرأة يرق قلبها بعد أن ترتوي، وتطلب من الرجل الذي يتأهب لوطئها الآن أن يساعدني.

فكرت في النداء، لكن صوتي انحبس داخلي فجأة مدفوعًا بفكرة برقت في رأسي. فأنا إن ناديتهما الآن قبل أن يتطارحا الغرام سينقمان عليَّ، أما إن تركتهما حتى يذهب عنهما سعار الرغبة، فربما يجيدان الإنصات إليّ. كل ما عليَّ أن أفعله هو أن أشحذ ذهني بطاقة عجيبة كي أقول لهما أقل كلمات تؤثر فيهما، مطمئنة ودافئة وسريعة ومقنعة، تجعلهما يعملان معًا، بكل همة، في سبيل أن يفتحا لي دربًا إلى الدنيا.

هو ليس من قريتي، على أي حال، هذا ما عرفته من الإنصات جيدًا إلى صوته. غريب عليَّ، وقد أجد لدى الغريب مخرجي. أما هي، فقد كنت محتارًا في صوتها، كأني قد سمعته من قبل، أو أنني أتوهم هذا.

كانا قد التحما بقوة، وظننت أنه قد ولجها، لكنني لم أسمع أي تأوهات للوجع اللذيذ، فقلت في نفسي: "لا يزال يهيئها.. يا له من رجل محنك"، إلا أنني سمعتها فجأة تقول له:

ـ لا فائدة.

وسمعته يرد:

ـ أنت لا تساعدينني.

وسمعتها تقرعه:

ـ ساعدتك كثيرًا لكن بلا فائدة.

نفخ في غيظ وقال لها:

ـ أنسيت أيام كنت تعرقين تحتي، وتصرخين من اللذة.

سمعت طرقة، بدت وكأنها ضربت بيدها على السور، ثم قالت:

ـ لم أنس يا "خليل" ، وهذا ما يُحيِّرني.

ـ قلت لك إن ابن الحرام ربطني على عظمة ميت، ودفنها هنا في المقبرة، وسمعت بنفسك الرجل المبروك الذي جئنا به يطلب مني أن أجامعك هنا، وعندها سيُفك الربط، وينتهي عذابي وعذابك.

زفرت متألمة، وقالت له:

ـ وأنت تصدق كل ما يقال لك.

ـ ذهبت إلى الطبيب، وعجز عن علاجي، ولم يكن أمامي إلا هذا الرجل.

ـ وعجز أيضًا.

ـ لا تتعجلي، سنحاول مرة أخرى، لكن ساعديني.

ـ أنت من تعجلت.. لو كنت واصلت مع الطبيب كنت ستُشفى.

ـ أنا لا أصدق الطبيب.

ـ وتصدق الدجال؟!

ـ ليس دجالًا، هو رجل مبروك، وسره باتع، لكن السر الأكبر معك أنت.

ـ أنا.

ـ طبعًا، لديك ما يعيد المياه إلى مجاريها.

عاد الغنج إلى صوتها:

ـ سأفعل كل ما كنت أفعله دومًا.

قبل أن يشرعا في وصلة أخرى من محاولة استرجاع اللذة الضائعة، ألقيت بنفسي بينهما، لأنفذ الفكرة التي جاءت إلى رأسي وأنا أسمع حوارهما الغارق في العتاب والحنين والألم. ضممت شفتيَّ، ونفخت أدواجي، حتى يخرج الصوت فخيمًا، وكأنه آت من العالم الآخر:

ـ دواؤك عندي يا "خليل".

توقف الغنج وصوت شفتيه وهما تجوبان مكانا ما في جسدها،
لا يمكنني أن أراه من مكاني هذا. أخرسهما الخوف على ما بدا لي، لكنه تمالك نفسه وقال، وفي صوته ارتعاش:

ـ ألم أقل لك إنه رجل مبروك.. جاء الفرج.

صرخت في فزع:

ـ المقابر تعج بالعفاريت.

سمعته ينهرها:

ـ حتى لو كان دوائي عند العفاريت فأنا أرحب بلقياهم.

ـ هل جننت؟

ـ المجنون من يترك هذه الفرصة.

كان عليَّ أن أهدِّئ من روع المرأة، وأثبت لها أنني لست عفريتًا، كما تظنني، لكن كيف؟ سألت نفسي، وكان لا بد من إجابة سريعة. جاءتني.. إنها الطريقة التي يدرك معها الناس أنهم لا يحدثون العفاريت. قلت بسرعة، بعد أن كسوت صوتي بمسحة من الخشوع:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم.
﴿ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﴾.

قال لها:

ـ أرأيت، العفاريت لا تقرأ القرآن.

وجدتها تقول له:

ـ يا فرج الله.

عندها قلت له في صوت مفعم بالخشوع:

ـ اقترب يا عبد الله.

وسمعت صوت أقدامهما تزحف نحوي. ثم توقفت. أدركت أنهما لا يعرفان من أين يأتي صوتي، فواصلت الأمر، بعد أن تمكنت من نفسيهما:

ـ لا خوف عليكما، ولكما كل ما ترغبان فيه.

رد هو بصوت مرتعش:

ـ لا خوف، لكن ماذا تريد منا؟

لم يكن من الحصافة أن أرمي مطلبي على سمعه مباشرة، وإلا جفل مني، وربما هرب بلا عودة. فأنا أزعم له أنني كائن عجيب بوسعي أن أحقق له الشفاء الذي يرجوه، وعجز الطبيب والعراف عن تحقيقه، وبالتالي لن يصدق بسهولة أن مثلي يمكن أن يُحبس في هذا القبر، ولا يستطيع تخليص نفسه. لو طلبت منه مباشرة، ربما يشعر بأنني أسخر منه، أو أنني لست إلا رجلًا فضوليًّا يراقبه، وقد تسلل خلفه هو وزوجته إلى هنا، وسيفضح سرهما لأهل القرية.

تزاحمت في رأسي الخواطر، وكان عليّ أن أتصرف بأقصى درجة من الحكمة، وهذه قد اعتدت عليها، ولم يكن لديّ من رأس مال سواها، هي والكتمان.

ملأت صوتي برخامة مصطنعة من جديد، وقلت له:

ـ لا أريد منك شيئًا سوى أن تقترب.

اقترب بالفعل، وكنت أسمع صوت أنفاسها من خلفه تلهث، فطلبت منه أن يجلس فوق المنامة المحبوس أنا فيها، فجلس. قلت له:

ـ واتلُ معي هذه الآية ثلاث مرات:

﴿ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ﴾.

رددتها بهدوء وخشوع، بعد أن قطعتها إلى أجزاء حتى يتسنى له ملاحقتي، ورددها هو خلفي. بعدها طلبت منه أن يردد خلفي عشر مرات "يا حنَّان يا منَّان". كنت أفتح له الشَرَك حتى أصطاده تمامًا، وكان يدخله راضيًا. ولما أحسست بأني قد أحكمت السيطرة عليه، قلت له على الفور:

ـ ربطك مكتوب على عظمة بأصابع ساحر شرير، والعظمة في المنامة التي تجلس فوقها.

فزع، وانتفض من فوق سطح المنامة واقفا، فرددته إليّ بسرعة:

ـ قلت لك لا تخف، أصبحت محصنًا الآن بما رددته خلفي، وليس عليك سوى أن تفتح المنامة وستجد العظمة على الفور، ملفوفة في قماش سميك، وفي قلبها ورقة عليها كتابة أيضًا.

تنحنح وقال:

ـ كيف سأفتح هذه المنامة؟

- يوجد حجر فوق السطح، أزحه، ستجد ثقبًا، عليك أن توسعه ليصير فتحة تكفي لدخول جسدك.

امتلأ صوته برعشة شديدة، حتى تقطعت حروفه وصارت مبهمة، لكن طاقتي التي كانت مشحوذة عند حدها الأقصى مكنتني من أن أفهم ما يقوله، فطمأنته من جديد:

ـ لا تخشَ الظلام، وسترى العظمة فور دخولك، فهي تحت الحفرة مباشرة، كما أن ما بها من سحر سيجعلها تجري نحو يدك الممدودة في الظلام، بعد أن تحصنت بما تلوت من الآيات.

عندها قال ما كاد يهدم لي كل ما خططت له:

ـ إذا كان هذا ممكنًا فاجعل العظمة المسحورة تخرج من المنامة إلى يدي وأنا في مكاني.

صمت برهة، وأعدت إلى صوتي فخامته، وقلت له:

ـ هذا مستحيل، ليس بوسع أحد أن يلمسها قبلك.

ـ لا أريد لأحد أن يلمسها قبلي، بل تخرج من مكانها وتأتي إليَّ، فأكون أنا أول من يلمسها.

كظمت غيظي، وتذكرت ما جرى مع كبير اللصوص، الذي ظل يحاورني ويداورني إلى أن أغلق المنامة مرة أخرى، ومضى. وكان عليَّ أن أستدعي كل قدرتي على الصبر، وكنت أعرف أن الرجل سيلبي كل ما أطلبه في النهاية. فانكساره أمام زوجته، والذي وصل إلى سمعي قبل قليل، سيجعله يعمل المستحيل في سبيل أن ينتصر.

ولجأت إلى حيلة أخرى، فأشركتها في ما يجري بيننا. قلت لها من دون مواربة:

ـ شجعيه على هذه الخطوة من أجلك يا ست الستات.

سمعتها تقول له:

ـ ادخل "المنامة" يا "خليل".. ادخلها قبل فوات الأوان.

بدا أنه قد التفت إليها، فصوته انطلق في الجهة الأخرى:

ـ حاضر.. حاضر.

رقصت في مكاني فرحًا، لكن قدميَّ اللتين تنقلتا في خفة وقوة داستا جثة اللص، التي كان العفن قد تسلل إليها. واقتحمت أذني آهة موجعة، فملأني الرعب.

ـ "أأنت حي يا ابن الكلب؟"، سببته بصوت عال، وصل إلى سمع "خليل" الذي كان قد بدأ في إزاحة الحجر. توقف، والتفت إلى الخلف وقال لزوجته:

ـ سمعت من يشتمني.

يا لي من غبي، سأفسد كل شيء. انتظرت حتى يتجاوز "خليل" ما جرى، لكنه كان قد توقف عما يفعله من أجلي، وهو يظن أنه من أجله. وكان من الضروري أن ألحقه قبل أن يعود الخوف إليه.

اقتربت من الثقب، وسألته:

ـ لمَ تتوقف عن إنقاذ نفسك يا "خليل"؟

تهته، وأجاب بحروف متماوجة:

ـ سمعت صوتًا غريبًا آتيًا من المنامة.

ـ هل كانت كلمة "آاااااااه"؟

ـ لا، بل سمعت من يسبني.

استعدت كل الأصوات التي أتتني في قبري. مرت برأسي في ثانية واحدة، مضغوطة ومتزاحمة، وبدأت أدرك في هذه اللحظة أن كل ما سمعته ربما كان محض أوهام. كلمات وعبارات صادرة من داخلي أنا، على ما يبدو، وليست لهؤلاء الراقدين إلى جانبي، فالموتى
لا يتكلمون. وسرى في نفسي حزن، لأني اعتقدت في هذه اللحظة أن صوت "حميدة" لم يكن لها، إنما كان صوتها المحبوس داخلي، أنا الذي قلته بلساني، وحسبته لسانها. في الحقيقة لم يكن لساني، فأنا لم أنطق، إنما هو صوت الصمت المطبق، حين يفرج عنه الخيال الجامح. لا، لا، إنه صوتها، وما أسمعه هنا هي أصوات الموتى، التي ليس بوسع الجالسين هناك في بيوتهم، والواقفين في حقولهم أن يسمعوها.

هل كان عليّ أن أنتظر كل هذا الوقت حتى أدرك أنني فعلًا وحيد معزول كل هذه العزلة، التي أحاول كسرها بمحاولة الخروج، بيدي التي تحفر، وأولئك الذين أصنع لهم الحيل كي يساعدوني، وآخرهم هذا الرجل المكسور.

عدت لأقول له:

ـ يسبك من منعك عن زوجتك.

ـ أهو يعرف ما يجري؟

لم أبذل جهدًا في الحصول على إجابة مقنعة، تعيده إليَّ مرة أخرى:

ـ يعرف، ويريد أن يخيفك فيبقى سحره فيك، ويستمر عجزك.

ـ أهذا صوته؟

ـ نعم، لكنه لن يستطيع أن يضرك بشيء، فأنت الآن مُحصَّن منه، وأنا هنا معك، حتى لو لم تكن تراني.

وهنا أطلق السؤال المؤجل:

ـ أنت من؟

صمت برهة، ثم أجبته في ثقة:

ـ أنا خادم للرجل الذي أمرك بأن تجامع زوجتك هنا.

ـ الشيخ المبروك؟

ـ نعم، هو يأمرني الآن، وأنا أطيعه، وعليك أنت أن تطيعني.

تهدج صوته، ووقف عند حد البكاء، وقال:

ـ أنا رهن إشارته وإشارتك.

ها أنا قد امتلكته، الداء الذي فيه جعلني أصل إلى نفسه بسهولة. هو مستعد أن يفعل أي شيء في سبيل أن ينظر في عيني زوجته في استقامة، وأنا مستعد أن أكون شيطانًا، أستغل أي أحد، في سبيل أن أعود إلى الدنيا ولو لساعة واحدة، فلا يعرف قيمة الحياة، حتى لو كانت غاية في التعاسة مثل حياتي أنا، إلا من يصارع الموت.

يريد هذا الرجل المسكين ألا تموت ذريته في صلبه، وأن يذهب إلى قبره في نهاية الرحلة وقد ترك أثرًا باقيًا في الدنيا. فلا المال
ولا الأطيان ولا البيوت التي يتركها المرء وراءه بقادرة على أن تحقق هذا الأثر. الأولاد وحدهم قادرون، اسم يحمل اسمًا، ينحدر من أسماء، تتواصل من البداية إلى النهاية. غريب أمر البشر ممن يؤمنون بالبعث والنشور بعد الموت ثم الخلود في الآخرة، فرغم هذا فهم يحرصون على الخلود في الدنيا من خلال ذراريهم الذين يتوالدون ويكثرون ويملأون الأرض صخبًا.

كدت أسمع صوت طفل يصرخ في ظهر الرجل، ويقول له في لهفة:

ـ أوجدني من العدم.

وكنت أسمع رحمها الذي أوجعه الانتظار كأرض تشققت من غياب الماء. وماء الرجل، الذي يلهث محترقًا بالشهوة العارمة، حبيس، لأن القناة التي تحول رغبته إلى قدرة مردومة بالعجز والتيه والحيرة. ورغم أنني كنت أشفق عليه فإن ما أهمني فعلًا هو أن تساعدني رغبته تلك في الخروج منها، لأمشي إلى قريتي، أو حتى أزحف، ثم أموت هناك لكن بعد أن أحقق غرضي.

أنا بعيد عن قريتي، فمقبرتنا بعيدة عنها، لكني سأحكي لأهل أول قرية أصادفها، والقرى التي تليها، حتى أصل إلى قريتي، لأحكي لأهل كل بيت أمر به. لن أكف عن فضح من أرادوا قتلي، رغم أنني مقتول بلا رجعة. وعندها يمكنني أن أعود بمفردي إلى قبري. أدخل من الحفرة التي صنعتها في سقف المنامة لأخرج، وأحضن الجثة الطرية التي بدأ العفن يفوح منها، وأغمض عينيَّ إلى أبد الآبدين.

على الأرجح سيقتلني العمدة، سيأتيه خبري قبل أن أعود إلى القرية، ومن يدريني أن يكون الآن في الطريق إليَّ، بعد أن أخبره اللصوص بأنني لا أزال علي قيد الحياة.

ربما راهن على أنني سأموت فور أن أفتح عينيَّ هنا، أو أقتل نفسي لأستريح، أو أظل أتخبط في ألم الكبد، وأنبح ككلب مجروح حتى أنتهي تمامًا. لكن كل هذا ذهب سدى، وها أنا أملأ صوتي بجدية ظاهرة، وأصدر الأمر للرجل الواقف فوق المنامة:

ـ تقدم أكثر عند المنامة التي يأتيك منها الصوت.

وتقدم لاهثًا، ووقف يرتعش. عرفت هذا من تماوج صوته وتقطعه، قلت له في هدوء:

ـ انبش حتى ينكشف لك باب المنامة، فاكسر القفل الحديد، وادخل، وستجد الأذى تحت قدميك، فالتقطه، واخرج.

سمعته يقول لها:

ـ ألا تعرفين مكان فأس أو جاروف؟

وردت عليه ساخرة:

ـ تكلمني وكأنني حارسة المقابر.

ـ لا، بل لأن نظرك أحسن من نظري.. أنا أرى طريقي بصعوبة.

قالت له، بعد أن مصمصت شفتيها:

ـ لنبحث، من المؤكد أن الذين يحفرون القبور تركوا هنا فأسًا أو جاروفًا.

وسمعت صوت قدميهما تدوسان الرمل، وتضربان الحصى، وكان لهاثهما يرتفع، فيدق له صدري بعنف.

حين تأخرا في البحث، شحنت صوتي بفخامة جديدة، وأمرته:

ـ اصعد إلى سطح المنامة.

اقترب، وسأل:

ـ هل سأجد عليه ما أبحث عنه؟

ـ لا. لا. لكنك ستجد البديل.

زفر في أسى، وسألني:

ـ ما هذا البديل؟

سكت برهة حتى أزيده رهبة، ثم قلت له في تأنٍّ:

ـ ابحث عن حجر كبير مسنون، ثم ارفعه، واضرب به الثقب الذي ستراه في السطح. اضربه بقوة، حتى يتهاوى، وبعدها اخلع نعليك وانزل، ستجد ما يضنيك، وتُشفى.

لم أسمع منه كلمة "حاضر" بل سمعت الصمت المطبق.

أين ذهب؟

لا إجابة لديّ غير تلك الخشخشة التي تصنعها مشاكسة الريح للحصى. ليست هي أقدامهما الهاربة أو الذاهبة للبحث عن مخرج لي، وهما يظنان أنه مخرجهما. هو صوت الصمت الذي يخيم عليَّ، ويجعلني أقول لنفسي بلا تردد:

ـ ربما تكون آخر ليلة في دنياي.

صرخت ناسيًا صوتي المصطنع، الذي يليق بجن حبيس، لكن لا مجيب. فزعت الأجداث الراقدة في غير سلام لصرختي، فرأيت أشياء تتحرك وسط العتمة. أشياء لا تريد إلا أن تحضر الحياة إلى قلب الموت المحقق، موت هؤلاء الذي كان، وموتي الآتي، لا محالة.

لا أعرف لم في هذه اللحظة جاءتني "حميدة"، هل استدعيتها من ذاكرتي المجهدة، أم تطوعت هي وأتت هرولة لتلقي عليَّ نظرة أخيرة؟ لا أدري.

ناديتها بصوت مخنوق:

ـ يا "حميدة".

وسمعتها على حافة البكاء تسألني:

ـ لمَ تريد أن تغادرنا؟

لسعني سؤالها المباغت، لكن كانت لديّ إجابة جاهزة:

ـ الحياة تستحق أن تُعاش.

سمعت ضحكة صافية، بعدها جاء الكلام:

ـ ما يستحق أن يُعاش هو ما أنت ذاهب إليه.

وتراءت لي في هذه اللحظة كل الصور التي ملأت رأسي عن جنات عرضها السموات والأرض، وما فيها مما لا رأته عين، ولا سمعته أذن، ولا خطر على قلب بشر، حيث أنهار العسل واللبن والخمر، وكؤوس الذهب والفضة، والبسط الناعمة، والمخادع الوسيعة اللينة، وحور العين، والفواكه التي تسقط من أشجارها في يدنا بمجرد أن ننظر إليها باشتهاء، ثم تذوب حين نضعها في أفواهنا، والروائح الطيبة التي تملأ النفوس شذى وغبطة. مر برأسي هذا في لمح البصر، فقلت:

ـ ما تعدين به آت في أي وقت، وإلى الأبد. أما ما أنا فيه فسيفنى ولو طال الأجل، فدعيني أستمتع بالفاني، ولن يفلت مني الباقي، بفضل الله.

لم أدر كيف حدثتها على هذا النحو. ربما الحافة التي أقف عليها جعلتني أزداد حكمة. ووجدتها تسأل:

ـ ألم يعلمك وجعك أن تبحث عن خلاص؟

أجبتها على الفور:

ـ علمني الكثير.

سمعت قهقهة في صوتها:

ـ من العبث أن تضيع وقتك في سبيل العودة إلى ما أضناك.. أغمض عينيك وتعال.

ـ أجيء إلى ما لذ وطاب، الطعام والشراب والحسناوات.

هذه المرة تعالت ضحكاتها، وطالت، وسمعت منها صوتًا جليًّا كطلة صباح صاف:

ـ أيشغلك ما سيأكله الدود منك، وقد رأيت بنفسك؟ أم تريد الغبطة والسكينة؟

لم أتردد في الإجابة:

ـ الثانية، وربنا أعلم.

نهرتني:

ـ أتحلف كاذبًا؟

وقبل أن أنطق بكلمة سمعت صوتًا هادرًا زلزلني، ثم حل صمت مطبق.

وسرت رعدة في شراييني لقولها، ونظرت إلى فتحة السقف، فوجدت شيئًا يسد الجزء الأكبر منها. دققت النظر فيه، فإذا هو بوز حيوان، كلب أو ذئب، لكن حين سمعت زمجرة، وشممت رائحة كريهة، زادت من العفن الحبيس الذي حولي، أدركت أنه ضبع جائع. وفهمت لمَ فر الرجل وزوجته؟ وربما اختبآ قريبًا وسيعودان. لكنهما لن يعودا قبل أن يرحل هذا الضبع. وتمنيت في هذه اللحظة لو كان ضبعًا واحدًا، شرد من قطيعه، وجاء وراء الرائحة التي تنبعث من المنامة عبر الفتحة التي صنعتها أنا.

ضبع واحد من الممكن أن يرحل سريعًا، حين يعجز عن الوصول إلى الجيف والعظام النخرة التي يحاول أن يراها جيدًا من الفتحة، ليعود الرجل وامرأته، يواصلان الخروج بي إلى الدنيا التي تتقلب أمام عيني، تطل عليَّ وتغيب، تأتي وتذهب.

رفعت يدي وطوحتها في وجه الضبع، لعله يهرب، لكنه فتح فمه، وبانت لي قليلًا أنيابه الصلدة، وعيناه اللتان لمعتا في العتمة الراقدة، وكأنه يرسل منهما ضوءًا خفيفًا ليتبين فرائسه.

كان عليَّ أن أفعل شيئًا لأبعده، وأعيد من كانا يسعيان، بجهل، أو بحسن نية، لإنقاذي. شحنت صوتي لأزأر، وقلت لنفسي: الضباع تخشى السباع. وضعت سبابتيَّ في أذنيَّ، وصرخت بكل ما تبقى لدي من قوة. صرخة كتلك التي تطلقها الأسود قبل أن تشرع في مطاردة فرائسها. جفل الضبع قليلًا، لكن عينيه المثبتتين في الفتحة، جعلتاه لا يرى أسدًا هنا، بل شخصًا متهالكًا بائسًا على حافة الموت، فعاد يشخص ببصره، ويمد أسنانه المتينة الحادة نحوي.

طوحت يدي في الهواء، لكنه لم يتحرك، بل لم تطرف عيناه، وعاد إلى الزمجرة، واختلط صوته المزعج بصوت "حميدة" الرخيم، الذي عاد يقول لي:

ـ لماذا تعافر من أجل الخروج، مع أن الدخول إلى هنا خروج إلى البراح، والخروج من هنا دخول في الضيق الشديد؟!

تعجبت مما سمعت، وقلت لها:

ـ يرن في أذني صوتك، فليس بوسع السنين أن تخرسه داخلي، لكن الكلام غير كلامك.

ـ غير كلامي؟

ـ كأنك قد صرت فيلسوفة.

ـ حين رأيت الحقيقة هنا، والخافية عليكم هناك، تعلمت أن أصل إلى المعنى من أقرب طريق.

وساد صمت، قطعته هي قائلة:

ـ ستأتينا عما قريب، ستتعلم هذا بسهولة.

ـ عمَّا قريب؟!

سألتها في انزعاج، وتطلعت إلى الجثث الملقاة إلى جانبي، وبوز الضبع الذي لا يزال مرشوقًا في الفتحة التي صنعتها بعد كدح وشقاء. ورميت أذني منتظرًا إجابتها، فلم تتأخر عليّ:

ـ كل السنين التي نقضيها عندك قريبة جدًّا، لا شيء هي في وجه ما أنا فيه الآن، إنه الأبدية.

صرخت وقلت باكيًا:

ـ الآن تأكد لي موتك يا "حميدة"، كنت أحسب أن صوتك يأتيني من الدنيا، كما كان يجري في أحلامي، لكن ها أنا أعرف أنك لم تصبحي وسط الأحياء.

سمعتها تضحك وتقول:

ـ أنا بين الأحياء هنا.

سألتها:

ـ متى كان رحيلك يا "حميدة"؟

شعرت أن يدًا خفية تربت كتفي، وسمعتها تقول:

ـ منذ فراقنا وأنا ميتة. قضيت بقية أيامي في الدنيا ميتة ويراني الناس حية. فالحياة ليست أكلًا وشربًا وتنفسًا فقط، بل يوجد ما هو أعمق من هذا، ولن تعرف إلا إذا أتيت إليَّ هنا.

قلت لها وفي صوتي رجاء:

ـ يقتلني الفضول لأعرف متى دخلت إلى الآخرة؟ وكيف؟

ـ ستعرف حين تأتي.

ـ لا أطيق الانتظار.

صمتت برهة، وقالت:

ـ خرجت روحي وأنا ألد.

ـ بنتًا كانت أم ولدًا؟

ـ بنت وولد، لحقا بي بعد ساعة، وها هما يطيران حولي هنا كعصفورين جميلين.

صرخت من جديد:

ـ انقطع نسلك مثلي يا "حميدة".

ساد صمت، ثم جاء صوتها:

ـ لا ينقطع من دب على الأرض. كل إنسان عاش ترك وراءه شيئًا ولو بسيطًا.

ـ أنا سأموت وأبنائي في صلبي سيموتون معي.

ـ ومن أدراك، ربما تكون عقيمًا.

ـ عقيم؟! لا أعتقد أبدًا.

سمعت ضحكتها الصافية، ثم قالت:

ـ لا تشغل نفسك إلا بالسكينة والراحة الأبدية.

ـ مرحبًا بالأبدية، لكن كيف لي أن أتجنب الملل، إنه يكاد يقتلني هنا إن مرت أيام دون أن أعرق في سبيل شيء أريده، أو أخاف من الفشل، أو أتطلع إلى حلم بعيد، فما بالي بحياة مريحة لا نهاية لها،
بلا كدح ولا خوف ولا جوع ولا أمل في شيء.

سمعت تنهيدة حارة، لكن من صوت غير التي تتكلم به "حميدة"، ربما كان اللص المسجى بكفنه أتذكر صوته الناعق جيدًا، إنه هو، فلم يضجر هكذا؟ ابتسمت وقلت:

ـ ربما تتقلب روحه في قلق، ولا يشعر بالسأم.

لكن جاءني صوت "حميدة":

ـ لا سأم هنا لأحد، فالأشياء الرائعة التي تتبدل أمام أعيننا
بلا توقف، تجعل الأيام تجري دون أن نشعر بها.

هاجمني هاجس بأنها تستدرجني إلى حيث هي. وأنها تدفعني إلى التخاذل عن الكفاح من أجل الخروج من قبري، فألفظ أنفاسي الأخيرة، وأذهب إليها. لكن كيف لي أن أقبل ما تغريني به ناسيًا أن لي ثأرًا لا بد من أن آخذه قبل الرحيل الأبدي؟

كيف سينال النعيم الذي تعدني به من تقاعس عن رمي بعض الحصى في عيني الظالم؟

بل كيف لي أن أضحي، بهذه السهولة، بنظرة أخيرة على شمس الأصيل وهي تطلي عراجين النخل بالذهب، وتغطي البيوت بآخر أنفاس دافئة؟

وكيف لي ألا أنعم بساعات أخيرة، أجلس فيها وحيدًا، أستدعي كل ما جرى مع "حميدة"، ثم أغمض عيني؟

وكيف لي أن أنسى روعة اللحظات التي أعود فيها من الغيبوبة إلى الوعي، بينما تظهر لي صور الواقفين حولي وكأنهم قادمون من زمن غابر؟

لهذا قلت لها:

ـ اتركيني أحاول يا "حميدة"، وفي النهاية أنا قادم إليك. اطمئني، فلن يطول المقام في الأرض برجل تليف كبده إلى حد لا يُرجى منه شفاء.

ثم قفز إلى رأسي سؤال طالما شغلني، فأطلقته إليها:

ـ هل تتذكرون هناك في العالم الآخر ما جرى لكم هنا على الأرض؟

وانتظرت أن ترد سريعًا لأطمئن إلى أنني لن أفقد في النعيم المقيم ذكرياتي التي حفرت مجراها في نفسي سنين، فكنت هي، وكانت أنا. أستدعيها بحلوها ومرها، وأستعذبها جميعًا، وأنا أتقلب راضيًا بين ضحك وبكاء.

وتملكني رعب فجأة. لأني أسمع صوت "حميدة"، فالمشرفون على الموت فقط هم من يتحدثون مع الموتى. هكذا رأيت أبي وهو يحتضر. كانت عيناه شاخصتين نحو شيء بعيد لا نراه، وما إن يغمضهما حتى يكلم أباه وأمه وصديقًا قديمًا له، ثم مد يده إلى الفراغ، وقال:

ـ خذ بيدي.

وارتسمت على وجهه ابتسامة رائقة، ذهبت معها صفرة الموت. وكنا حين نكلمه لا يسمعنا، فقالت أمي:

ـ هو في عالم آخر غير عالمنا.

ثم سحبت يدي وراءها إلى الخارج، ودموعها تغرق خطواتها الوئيدة نحو حاشية من ليف، ملقاة إلى جانب الجدار، اعتادت أن تجلس عليها.

لكنني أعي كل شيء، ولست غائبًا كأبي، وفي الوقت الذي أسمع فيه صوت "حميدة" وقهقهات وشخير وأنين الموتى، أسمع جعير الضبع، وصفير الريح في الخارج.

ـ من أين يأتي صوتك يا "حميدة"؟

سألتها ملهوفًا، فأجابت في اطمئنان:

ـ من العالم الآخر.

ـ لكنني أسمعك كأنك في الدنيا.

ـ تسمعني لأنك معنا، ولأنني أريد أن أسمعك صوتي. فروحي طليقة تأتيك أينما كنت.

أغمضت عينيَّ وقلت لنفسي في هدوء: "ما الموت سوى رحلة بين دارين. هنا بحيث نعاني من سطوة الشهوات المعتقة، وهناك حيث ندوسها ونحلق في الفضاء الفسيح، بلا قيود. وبلا رغبة في أي شيء سوى الخلود".

ووخزني السؤال من جديد:

ـ أي حياة تلك التي تخلو من الرغبات تمامًا؟

وانتظرت أن ترد "حميدة" لكنها لم تفعل. وتركتني أتذكر كل ما أعرفه عن حكايات الرهبان المنقطعين للعبادة في القلايات، والمتصوفة الزاهدين في خلوتهم وعزلتهم، وقلت:

ـ لا يعرف مثلي حلاوة ما يذوقه هؤلاء، إنها لذة الروح التي
لا يدركها سوى من ارتقى في مدارج السالكين. فهل أجلس في محبسي هذا معتبرًا إياه قلاية أو زاوية أو صومعة أو خلوة، وأطلق روحي في أقصى سماء؟

ها هي ذي "حميدة" تحدثني عن الوجود الأبدي، وكأنها تعدني بالخروج من العدم، الذي لاقيته في الدنيا رغم وجودي. فأنا عشت عدمًا في عدم، لانقطاع نسلي.

عدم لأن أحدًا لن يجرؤ على ذكر اسمي ولا أخباري، طالما أن العمدة على قيد الحياة. وحين يموت يكون الناس قد نسوا كل شيء عني. حتى ملامحي ستضيع من رؤوسهم الفارغة. سيأتي إلى القرية جيل جديد لا يعرفني، ولن يجدوا أحدًا يحمل اسمي، ولا كلامًا مني موزعًا في ثنايا أحاديث السهر والسمر والسفر.

عدم لأن أسراري ستدفن معي، هكذا أراد من رماني هنا، وها هو يقترب من تحقيق هدفه، وربما يكون هذا الضبع متواطئًا معه، بل قد يكون هو من أرسله.

وحتى لو كان هذا مجرد هذيان، فإن جنوني سيقتل رغبتي في الخروج إلى البراح، وبذا سأصل بنفسي إلى ما أراده خصمي اللدود.

عدم لأن أخي بالتبني لن يعود، وستبقى جدران بيتنا خاوية، سيدور فيها الهواء الفاسد ويئن حزينًا على فراق أهل الدار. هذا الخواء سيدفع العمدة إلى الاستيلاء على بيتنا، ومحو كل ما يحمل لنا ذكرى. سيتمكن هو من هذا بالقطع، سيزور عقد بيع، ويهدمه ليبني مكانه دارًا جديدة، وقد يحوله إلى حظيرة لماشيته، أو مخزنًا للغلال التي يشتريها من الفلاحين جبرًا بأبخس الأثمان.

عدم لأنني لم أضع أي نطفة في رحم امرأة، لا في حلال ولا حرام، وكنت أطلق رجولتي تسيح على لحمي، وملابسي، والأرض الراقدة بين ساقيَّ. أنظر إليها حزينًا، وأسألها كل مرة:

ـ متى تمضين بي إلى الأمام؟

لكنني ظللت طيلة أيامي لا أتلقى أي إجابة.

عدم لأنني لم أترك علامة في الدنيا. لا شيء ذا بال قد أضفته إلى الحياة، التي جرفتني إلى حافة النهاية، ولم تتمهل لتمنحني أي فرصة كي أفعل شيئًا مفيدًا، غير الاحتفاظ بأسرار، ذهبت بي إلى هذه النهاية الموجعة.

عدم لأن "حميدة" ضاعت في بلاد الله والناس، وانقطع نسلها، لم يعد أحد يأتي على ذكرها سواي، وأصبحت في أيامي الأخيرة أعصر ذهني كي أجمع ملامحها المبعثرة على أفاريز السنين. أحاول أن أستعيدها من العدم، لكنها لا تعود إلى الوجود كاملة، فيبقى بعضها عندي عدمًا، رغم حلولها في كل خلاياي.

"حميدة" تقول لي إنني لست ذاهبًا إلى عدم، وإنني إن تراخيت قليلًا فسأقتل عدمي في الدنيا، لأنعم بالوجود. هي موجودة وتكلمني، وتفرش أمام قدميّ المتداعيتين طريقًا إلى الخلاص من الفناء، وتفهمني أن الغياب في حضوري، وحضوري في غيابي.

وانتظرت أن ترد "حميدة" بما أدرك منه أنها قد تفهمت ما أريده، وأنها ستنتظرني إلى أن أجيء إليها، عما قريب، وأنني لا أزال حيًّا، وأني أود لو مضيت في عدمي وقتًا، قبل أن أذهب إلى الوجود الذي ترسم لي طريقه. لكنني لم أسمع سوى صوت مزعج، كأنه شخير تطلقه إحدى الجثث الراقدة خلفي.

التفت إلى الجثة وقلت لها في غيظ شديد:

ـ حتى هنا لا يجد صاحبك نومًا هادئًا، ويزعج أهل الآخرة، كما أزعج أهله.

وعندها اقتحمت أذني قهقهة طويلة، شعرت معها أن الجدران تهتز، حتى بوز الضبع تأرجح مكانه، فأطبق فكيه على أسنانه التي كان يوجهها نحوي.

نظرت إليه وإلى الجثث، وجاءتني فكرة. مددت يدي والتقطت عظمة مسنونة كالحربة، ورفعتها في حذر نحو بوز الضبع، طعنته بشدة، لكنه أطبق بفكيه عليها، وكسرها، وراح يطحنها على مهل.

ابتسمت وقلت في نفسي من جديد:

ـ هو جائع، فهل إن أطعمته مما حولي، سيشبع ويذهب، ليأتي الرجل وامرأته يواصلان إنقاذي؟

لكنني جفلت مما أفكر فيه. فهل بوسعي أن أستبيح لحوم الموتى حتى لو كانت قد تنتَّنت، وعظامهم حتى لو صارت نخرة، ليذهب هذا الوحش عني؟

وما أدراني إن فعلتها ألا يصدر صوتًا ينادي به قطيعًا من الضباع، فيظل هنا، لا يبرح المكان، حتى يأتي الصباح. إنه صياد ماهر وصبور وعنيد، وقد يعاندني ويبقى قبالتي حتى مطلع الفجر.