13

لم يخلع الضبع فمه من فتحة المنامة سوى مع بزوغ النور. سحب بأنفه ما وسعه من الرائحة النتنة، ثم مضى. حاولت طيلة الليل أن أبعده، لكنه تشبث بمكانه متوهمًا أنه سيتمكن من النفاذ إلى الداخل، أو تقف الجثث على سيقانها المتهاوية، وتخرج إليه، ليملأ بطنه الخاوي.

كنت قد جرحته في فمه بعظمة كالسكين. ولما طلعت الشمس رأيت آثار دمه على الفتحة، وبعض قطرات سقطت على الأرض، ولان لها التراب قليلًا.

صرت مطمئنًا إلى رحيله، حين أخذ جعيره يبتعد حتى غاب هناك عند أول الجبل. تملكني خوف من أن يستدعي زملاءه الجائعين، ويعود على رأسهم إليَّ أنا المحاط بالجيف والعظام، لكني أدركت أن هذا يحدث قبل حلول الظلام على الأرجح.

كان عليَّ أن أعود إلى مواصلة ما بدأته، فالتقطت عظمتي المسنونة، وسحبت ثلاث جثث، وكومتها، ووقفت فوقها، لأتمكن من الحفر. قلت أصرخ مجددًا، لعل أحدًا يسمعني هذه المرة. خرج صوتي واهنًا، على غير ما كان في السابق، وراح صداه يتردد حولي. ورغم وهنه رأيت بعض الموتى يتململون في رقادهم الأخير.

ضربت العظمة في جانب الفتحة فتطاير الغبار من جديد، وملأ حلقي، لكني لم أتوقف عن العمل، وكلما كانت دائرة النور تتسع أمام عينيَّ كنت أتشجع، وأضرب على قدر استطاعتي.

ومع ارتفاع حرارة الشمس، رحت أتصبب عرقًا، رغم برودة المكان الذي كنت فيه، بعد امتصاصه صقيع الليل، وقلت لنفسي: أستريح قليلًا، ثم أواصل الحفر حتى تتسع الفتحة لجسدي النحيل، فأمر منها إلى دنيا تنتظرني هناك.

لحست بعض عرقي، وسحبت رشفات من مائي المخزن في الجمجمة، وتمددت على الأرض، مبعدًا ناظريَّ عن الجثث التي تملأ أنفي بروائح لا تُطاق، لكنني تآلفت معها بعض الشيء، لأصبر عليها، حتى أفارقها.

لمحت قبل أن أدير وجهي إلى الناحية الأخرى الدود يرعى في الجثة الجديدة. كان يأكل بنهم، ويتصارع فوق الصدر الذي انفقأ، وبان القلب أسود كالليل، حتى إن الدود الذي غطس فيه لم يظهر لي جيدًا، وكان يحركه كأنه يحاول أن يجعله ينبض من جديد.

أخذتني سنة من النوم، فرأيت نفسي أسير حافيًا في طريق طويلة، لا تبدو لها نهاية، ترابها ناعم، لونه أخضر داكن كالحناء، أو هو حناء بالفعل، تغطس فيها قدماي، وتخرج منها نباتات هشة، ما إن أدوسها حتى تذوب، وتعصر ماء يبل أصابعي، ثم ينبثق من الماء نورًا مبهرًا، يملأ عينيَّ بهجة وخوفًا.

حاولت أن أنعطف يمينًا أو يسارًا لأمضي في الرمال المفضضة، الممتدة على الجانبين، لكني لم أستطع. كان هناك شيء يثبت قدميَّ على الطريق، وآخر يدفعني من الخلف فلا أتمكن من التوقف. شعرت أن هناك ما يسحب روحي على مهل، ويصيبني بدوار عجيب، فأخذت أترنح كالسكارى، مستعذبًا ما أنا فيه، رغم هلعي.

مددت يدي بجانبي، لعل أحدًا يشدني من أولئك الذين كانوا يتراءون لي، وهم يبتسمون، ويخرج من أفواههم نور، يومض وينطفئ، ورأيت أيدي كثيرة تمتد نحوي، لكن ما إن أحاول أن ألمس أيًّا منها حتى تذوب.

ناديت عليهم، ففوجئت أن صوتي يعاندني. لم تخرج حروف، إنما أصوات متقطعة كهديل الحمام، لم تلبث أن ضاعت في جلبة عارمة، أتت من مكان لم أتبينه، يتوسطها صوت يهدر كالرعد، اهتز له قلبي بعنف، فانتفضت مذعورًا.

كنت أعرف هذا الصوت جيدًا. حفره الخوف في أعماقي. إنه صوت الرجل الذي أتى بي إلى هنا، وها هو قد أتى، على ما بدا لي في هذا اللحظة، ليتأكد من موتي. هذا ما كنت أتوقعه، وها أنا أواجهه، ولا فكاك من هذا.

ماذا أفعل؟

نظرت حولي وأمامي مشدوهًا، وكأني أرى هذا المكان للمرة الأولى. وكان عليّ أن أتصرف أسرع مما يستطيع عقلي التائه، وجسدي الخائر. ما إن تحركت خطوات قليلة نحو كومة العظم، حتى كانت الأصوات تتداخل فوق رأسي.

صرخ فيهم:

ـ ضعوا الصندوق هنا.

بدا وكأنهم قادمون لدفن أحد، ربما يكون من الذين يقتلهم العمدة دون انقطاع، وربما جاءوا به حيًا مثلي، ليعذبوه، وربما هو صندوق فارغ، حتى لا يشك الناس في دخولهم المقبرة في وضح النهار.

سمعت ارتطام شيء بالأرض، ثم أتى صوت العمدة خارجًا من بين أسنانه:

ـ قالوا لي إنه لا يزال حيًّا، ويحاول الهروب.

رد عليه أحدهم:

ـ لا أعتقد، فمن يدخل هنا لا يخرج، وإن خرج، وهذا مستحيل، فسيجن، وقد يقتل نفسه.

قهقه العمدة، وقال ساخرًا:

ـ هذا بالنسبة لأمثالك، أما هو فثعلب ماكر، أنا أعرفه.

كان يبدو أنهم رجال يثق بهم، لكن أصواتهم كانت غريبة عني، ليس فيهم أحد من الخفراء، ولا من أهالي بلدتنا. لكن صوت أحدهم، لم يكن غريبًا على أذنيَّ. إنه أحد اللصوص، الذين كانوا هنا بالأمس، وذهبوا وأخبروه، وأتوا معه.

سمعته يأمر أحدهم:

ـ انزل شوف ابن الكلب إن كان حيًّا اقتله.

لم يكونوا بحاجة إلى إزاحة التراب من أمام باب المنامة، فالذئاب تكفلت بهذا من قبل.

وسمعت تكة مفتاح الباب، لكنه بدا عصيًا على الفتح سريعًا، إذ قال رجل يجلس أمامه:

ـ القفل معصلج.

جاء رد العمدة زاجرًا:

ـ خلص يا بجم.

زحفت في همة نحو الجثة الطرية، وغرفت من جوفها عفنًا ودودًا، ورميته فوق جسدي، وحفنت ترابًا لزجًا، ودهنت به شعري وعنقي، والتقطت بعض العظام المتهالكة، ووضعتها إلى جانبي. سحبت نفسًا عميقًا، ثم أغمضت عينيَّ. ولمَّا تأخر فتح الباب، رحت أرسل نظرات متلاحقة نحوه، محاولًا أن أمنع الرعب من هز جسدي، فيكتشف ذلك الذي يستعد لنزول قبري أنني حي.

انفتح الباب محدثًا زمجرة وأزيزًا مجروحًا، كأنه ينعي الموت. لمحت بطرف عيني رجلًا يتدحرج إلى الداخل، واضعًا يده على أنفه، بينما بطنه يعلو وينخفض بلا توقف.

أناخ ظهره وتقدم خطوات حذرة ، كانت بطيئة إلى درجة أنني شعرت أنه لا يذهب نحوي. رمى نظرة شاملة على الجثث المتحللة والهياكل العظمية التي هي كل ما تبقى من آدمين كانوا يملأون الأرض حركة وثرثرة وأملًا وطمعًا.

حط بصره عليَّ عندها أغمضت عيني تمامًا، بينما بقي فمي مفتوحًا. توحدت بأقصى حد مع الموتى.

سمعت صوتًا يسأل من الخارج:

ـ لقيته؟

التفت الرجل إلى الخلف، وأجاب:

ـ كل من هنا موتى.. شبعوا موتًا.

وهنا جاء صوت العمدة:

ـ يبقى هرب ابن الكلب.

لكن الرجل الواقف فوق جثتي، لم يتسرع في الرد، بل جثا على ركبتيه، وراح ينظر في وجهي متأففًا، إلا أنه لم يمعن النظر، فقد غلبته الرائحة النتنة، فأدار وجهه إلى الناحية الأخرى، وسأل:

ـ هل هو نحيل، ومناخيره مسحوبة، وعلى خده خال، وله سنة مكسورة ومسوسة من الأمام؟

جاء صوت العمدة:

ـ انظر في الأصبع الأوسط في يده اليمنى.

مد الرجل يده، فكتمت نفسي حتى لا يصله نبضي الواهن، وشعرت بأنه يرتعش حين حطها على يدي، التي فردها أمام عينيه، وقال:

ـ نعم، مقطوع.

جاءه الرد من أعلى:

ـ يبقى هو، الله يحرقه.

ترك الرجل يدي، ونهض واقفًا في انحناء، بينما أتاه صوت العمدة من جديد:

ـ أمتأكد أنه مات؟

كان قد ابتعد عني، وأدار ظهره لي، واقترب من باب المنامة، فأجاب، وهو يستعد للخروج:

ـ مات وتعفن.

عندها أمرهم في صلافة:

ـ أغلقوا الباب، وضعوا الأحجار، وأهيلوا التراب، وسدوا فتحة السطح التي يخرج منها العفن.

أيها المغرور، ابنك الذي هو في بيتك ليس منك ولا لك، منحتك إياه الخاطئة وأنت لاهٍ عنها، فرح أنت به لأنك تريد لاسمك أن يبقى بأي ثمن. قد تموت وأنت لا تعرف أنك لن تنال الخلود في دنيا الناس. وقد أخرج أنا من هنا، فيصلك خبر انقطاع نسلك إلى الأبد. وعليك وقتها إما أن تقتل ما تعتقد أنه ولدك، أو تعجز فتموت كل لحظة بالحسرات.

أما إذا لم أتمكن من الخروج وأموت هنا، فسأنتظرك في العالم الآخر لأخبرك، بل ستعرف من تلقاء نفسك حين يصير بصرك حديدًا. ستكون عاجزًا عن فعل شيء، وتتابع روحك المعذبة الولد، الذي صار يحمل اسمك، وهو يكبر ويتزوج ويخلف ذرية تحمل اسمك، وليس لاسمك فيها أي نصيب.

لم تمض سوى دقيقة واحدة حتى سمعت صوت ارتطام الأحجار في الباب الحديدي. كانت ثقيلة كأنهم يلقونها فوق صدري، وبعدها جاء سحب التراب، بينما أظلمت المنامة تمامًا، حين سدوا الفتحة التي أجهدتني.

وعندما كان أحدهم يحشر الحجر في الفتحة بعزم شديد، تسرب إليَّ صوت آخر يقول:

ـ كنا قد أغلقناها بالأمس، فمن فتحها إن كان هو قد مات؟

صرخ العمدة سائلًا، لكن صوته كان يأتيني ضعيفًا:

ـ ما معنى هذا يا حمير؟

جاء الرد من صوت أجش، أجهدت أذني حتى أسمعه:

ـ معناه أن أحدًا أزاح الحجر.

قال العمدة:

ـ طبعًا، لكن هل أزاحه من الداخل أم من الخارج؟

لم يجبه أحد، وسمعت الصمت يدور حولي. لكن لم يلبث أن كسره العمدة صارخًا من جديد:

ـ ارفعوا الحجر وهاتوا الكشاف، أريد أن أرى بنفسي.

كنت لم أبرح مكاني بعد، فمكثت شبه ميت، كما أردت أن أكون، أو هو ما كان بالفعل، فليس هناك فرق بين أن يراني العمدة ميتًا، ويعتقد في هذا، وبين أن أظل على قيد الحياة وقتًا لن يطول عن ساعات.

أغمضت عيني من جديد، والنور يغمر المكان، وشعرت وقتها أن الحفرة التي بذلت كل هذا الجهد في سبيل أن تعيدني إلى الدنيا هي التي ستودي بي إلى الآخرة أسرع مما تصورت. وتذكرت ما قالته "حميدة" الليلة الفائتة، لكن النور انحسر، ثم مات، وسمعت دقات الحجر، وصوت انسحاب الأقدام بعيدًا، حتى خمد هناك على الطريق المؤدي إلى أقرب القرى.

صرت مطمئنًا إلى ذهابهم، فقمت من جديد، وعيني تتجه صوب الحجر الذي أغلق الفتحة، لكنني اكتشفت في العتمة الراقدة بين الجدران وعلى جسدي أن الرجل الذي دخل عندي قد أوقع الجمجمة المملوء بالماء. وتذكرت أنه كان قد ارتطم بشيء وهو خارج، وزفر متأففًا ومتألمًا، ثم بصق، في المكان الذي سال فيه دم الضبع، ومضى.

ـ "ما العمل؟".

سألت نفسي، وتذكرت الجهد المضني الذي بذلته في سبيل أن أصنع هذه الحفرة، وها هي تُسَّد من جديد، وكأن الذين فعلوا هذا يقولون لي بصراحة شديدة: مت في صمت.

لكنني كنت متشبثًا بالحياة، أي حياة. وأنا أقول لنفسي: يكفي أنها منحتني فرصة كي أعرف الوجود، الله والكون والناس، والطبيعة التي وهبت عيني النهر والزرع والجبل والشمس التي تمضي هناك أمامي إلى بحر الشفق، الذي لوّن النخيل بحمرة داكنة.

ماذا لو لم أولد أصلًا؟

كنت سأخسر كل محاولات الوصول إلى الحقيقة، التي كان تعبث برأسي كلما جلست وحيدًا، أفكر في كل ما حولي، وما جرى لي، الفراق والمرض والأسرار والصحبة. سرت طويلًا، ولم أصل، وأبت الحيرة أن ترحل، لكن يكفي أنني تنعمت بمحاولاتي المضنية في سبيل هذه الغاية البعيدة.

الآن، صرت أعرف أكثر. إن الحقيقة هنا بين هذه الجيف والعظام المهترئة والتراب الذي تشبع بروائح النهايات. إنها الحقيقة التي يهرب منها كل الذين يدبون هناك على الجسور والشوارع والحواري، ويشمخون بأنوفهم ليسحبوا بعض أنفاس الشجر والماء والريح، كي يضيفوا لأيامهم ساعات أخرى.

أنا حانت ساعتي، وها هو كبدي عاد ينهشني. ألم مبرح لا يطاق، يجرح العتمة والعفن. التقطت عظمة وعضضت عليها بكل ما أوتيت من قوة، فوجدتها تتفتت بين أسناني.

كنت أعرف أن غيبوبة الكبد، تمنحني قوة جبارة، هكذا قال لي صديقي غير مرة، كلما كنت أرحل فيها وأعود. فماذا لو استعملت تلك القوة في هدم جدار، أو كسر هذا الباب الصلد، أو حتى إزاحة الحجر الذي غرسوه فوق رأسي، وحالوا بيني وبين طلة الدنيا.

كنت بالطبع أهذي، فكيف لي أن أقرر ما أفعله حين تأتي الغيبوبة. فأنا على شاطئها لا أفارق وهني وعجزي، وحين تأخذني إلى أعماقها المهيبة، أفقد كل شيء. لا أعرف، من أنا؟ ولا أين أنا؟ ولا ماذا أريد؟

لكن الغيبوبة هذه المرة لم تأت، ولم أعرف وقتها هل أنا في نعمة أم في نقمة؟ نعمة اليقظة، ونقمة الألم. تحاملت على نفسي، وتوكأت على وجعي، حتى وصلت إلى الحجر الذي زرعوه فوقي ومضوا.

نظرت إليه هذه المرة في يأس، ورضيت بما أنا ذاهب إليه، حين حاولت أن أزحزحه ولو لمليمتر واحد وأخفقت تمامًا. وتملكني شعور أنني حتى لو عاودت الحفر حوله، فإن وجعي الضاري، وجهدي الذي تضاءل، وجوعي وعطشي، كل ذلك لن يمكنني من مواصلة هذه المحاولة.

نظرت حولي، وشعرت باختناق، عطست وسعلت وبصقت، وعضضت على ضروسي لمقاومة الألم، ونظرت إلى الباب المغلق، وأدركت أن النهاية قد أتت.

وفكرت في شيء للمرة الأولى منذ أن ألقوني هنا. لو قدر لي أن أخرج، كما أسعى، فكيف ستمضي بي الأيام القادمة؟ لا شك أن الخبرة القاسية التي عشتها هنا سيكون لها أثرها الهدام عليّ طيلة الوقت. سأموت كل ليلة، وكل يوم. ستحل الكوابيس على رأسي في النهار والليل. سأشرد وأتوه في خيالات مفزعة. الأفضل أن أموت مرة واحدة، بدلًا من أن أموت كل لحظة.

لقد وصل العمدة إلى ما أراد، تأكد من دفن أسراره، ومضى مسرعًا إلى حياته، ولا أعتقد أنه مشغول باللحظة التي سيأتي فيها إلى مكان مثل الذي حبسني فيه. وعليَّ أنا أن أنشغل الآن بقول الأسرار إلى الذين حولي، حتى لو كانوا جثثًا خامدة، وهياكل عظمية، وجيفًا نتنة.

جلست متربعًا، وأعدت على مسامع الموتى كل الأسرار التي سكنت رأسي، وأتت بي إليهم. كنت أحكي مستمتعًا، أقاوم الألم بالكلمات، حتى إنه خفَّ. نسيته مع انهماكي في البحث داخل الذاكرة حتى أقول كل شيء، وأحمل من يسمعونني مسئولية أن يصلوا بما سمعوا إلى الناس. كيف؟ لا أدري.

ما فكرت فيه وقتها أن أرواح هؤلاء ستحمل رسالتي إلى كثيرين في أحلامهم. سيستيقظون في الصباح، وقد بقي في ذاكرتهم بعض كلام سمعوه في الليل. سيقولون في البداية إنها مجرد أحلام، لكن بعضهم سيبدأ في السؤال والبحث، ووقتها ستهتك أسرار كثيرة.

أدركت حين انتهيت من فضح كل ما في رأسي من أسرار أن الذي كان يربطني بالحياة قد انقطع، لكن هناك شيئًا داخلي لا يزال راغبًا في الدنيا، رغم أن دنيتي لم تكن أبدًا على ما يرام. حياتي الماضية سارت بطيئة صعبة على طولها قياسًا إلى ما تبقى منها. لا مقارنة بين ما ذهب، وما أوشك على الذهاب.

كنت أفهم أنني إن خرجت، وهذا يراودني التخلي عنه في هذه اللحظة التي أفكر فيها، ستنتظرني الفجيعة: الكوابيس والألم وعقابًا قاسيًا من الذي دفنني إن عرف بعودتي. ومع هذا تحرك شيء جديد داخلي، يدعوني إلى مواصلة الحفر.

لقد جربت أن مثل هذا العمل هو الذي يجعلني حيًّا إلى الآن.
لا ينقطع عني الأمل، وأنسى ما حولي من مشهد يخلع القلوب الرهيفة. عليَّ أن أعمل لتحصيل كل ما يمدني بأسباب الحياة، حتى لو كانت ذاهبة. أعمل إلى أن ألفظ أنفاسي الأخيرة، وأنا أمد عنقي إلى أعلى. الدنيا هناك في الأعلى. في الأسفل لا توجد سوى الجثث. إنها النهاية التي لا أريد أن أذهب إليها الآن.

أوصلني تثاقلي عند الحفرة المسدودة. ألقيت نظرة شاملة عليها، ثم دفعت العظمة المسنونة إلى يمين الحجر الضخم، المدكوك فيها دكًا.

في هذه اللحظة نسيت ألمي، وانهمكت بيد أكثر تراخيًا، ليس كسلًا ولا يأسًا، لكن لم يعد بوسعي أن أعمل بقوة، مثلما كان في الساعات السابقة. كنت أحرص على ألا أعرق، فيجف ما تبقى في جسدي من ماء شحيح.

مر وقت لا أعرفه، لكني تمكنت فيه من أن أجعل خيطًا رفيعًا من النور يتساقط، مرة أخرى، على رأسي، ويدفع إليَّ صوتًا خفيضًا مما تجود به الحياة في الخارج، تصنعه مشاكسة الريح للحصى.

أخذ النور ينحسر فأدركت أن الشمس إلى مغيب جديد، ولم أكن أدري ما إذا كان صباح آخر سيأتي عليَّ حيًّا أم سأغمض عينيَّ إلى الأبد في سواد الليل.

فجأة دبت حركة في الخارج، وجاءني صوت خافت ينادي. قطعت أنفاسي، وأعطيت كل اهتمامي لأذنيَّ، كي أتبين ما يقال. وسمح لي الثقب الصغير، الذي صنعته من أن أسمع ما يقال، وأميز صاحب الصوت. لقد كان الرجل وزوجته. عاد، وهي معه، لأن ما لاقاه من وعد هنا أكبر من أن يتجاهله. وتعجبت من حاله متسائلًا:

ـ هل هي الرغبة اللذيذة أم السعي إلى حفظ السلسال ومقاومة العدم؟

سيان عندي، أن تكون هذه أو تلك، المهم أنه عاد، وناداني بصوت جهير:

ـ يا من كنت تكلمني عدت إليك.

شحذت حنجرتي بكل ما تبقى لي من قدرة، وأجبته:

ـ وأنا في انتظارك.

ووجدته يسألني فجأة:

ـ من ردم أمام باب المنامة الذي تركته عاريًا؟ ومن سد الفتحة بحجر كبير؟

خفت من أي إجابة تخيفه، فلذت بالصمت، لكنه أعاد السؤال، وكنت قد فكرت في إجابة تزيده اقتناعًا بمعجزات من يحدثه من تحت التراب، فقلت له:

ـ لا تسأل عما ليس لك، فربك قادر على كل شيء.

تهدج صوته حين رد عليَّ:

ـ قادر كريم.

سألته في رجاء، وخانني صوتي فخرج كأصوات البشر:

ـ هل أحضرت ما تحفر به؟

أجاب على الفور:

ـ فأسًا وقادومًا ومنشار حديد.

ووجدت نفسي أهتز فرحًا، فتساقط مني بعض الأسى، الذي يسكن جسدي منذ زمن بعيد. استعدت صوت الجني الملهوف:

ـ أزل التراب والحجارة، وانشر القفل أو اكسره.

لم تمر ثوانٍ حتى سمعت خشخشات وقرقعة، ثم ضربات قوية ارتج لها الباب، وتخلص من بعض صدئه أمام قدميَّ، وانتشرت ذرات منه في المكان المعتم، فرأيت الجثث تتململ، وشعرت كأن يدًا تمسك ساقي اليمنى، وتسحبني إلى الوراء. نزعت ساقي بعنف، فتخلصت ممن يمسكني، ونظرت تحتي وحولي وخلفي، فلم أجد شيئًا.

ربما يكون الموتى راغبين في أن أنضم إلى جمعهم الذي رحل. وربما هو شيء داخلي يدعوني إلى البقاء معهم. لكنني كنت عازمًا على مغادرة هذا المكان إلى مبتغاي، فلا يليق بأسراري سوى آذان الناس هناك في قريتي، التي تستعد لإغفاءات الليل المعجونة بنقيق الضفادع، ونباح الكلاب، وعواء الذئاب، وبقبقة الماء أمام الهويس الصغير.

كان عليَّ أن أترك خلفي دار الغربة والعزلة والدهشة الرهيبة، وأستعمل لساني فيما عجز عنه في الأيام التي راحت.

كان صوت المنشار يهزني طربًا، ومعه تهتز الكلمات الجامدة في ذاكرتي المكدودة، وتكاد أن تنساب هنا لتزعج الموتى. لكني اكتفيت بما أزعجهم به قبل ساعات، حين ذهب مني الأمل، وها هو يعود في ضربات الفأس، والأيدي التي امتدت ورفعت الأحجار الجاثمة فوق صدري، والمنشار، يا له من آلة عبقرية! غيرها ما كان بوسعها أن تفعلها. رحت أعد المليمترات التي يقطعها راحلًا في الحديد البليد، حتى يتهاوى، وينفتح الباب أمامي على الدنيا.

كان القلق يبلع فرحتي، وآلاف الأسئلة توخز رأسي. ماذا أقول للرجل حين يراني أمامه آدميًّا ولست جنيًّا كما يتوقع؟ سيراني بالقطع، ومن المؤكد أنه يعلم أن الجن خفي لا يُرى، فكيف أقنعه بهذا الجن الغريب الذي له رأس وجذع وأطراف؟ والأفدح: ماذا سيفعل حين
لا يرى ما وعدته به؟

كان عليَّ أن أفعل شيئًا بمنتهى السرعة والدقة، وأقصى درجات التحايل والخداع. ووجدت ما أبحث عنه أسرع مما تصورت.

قلت أصنع له تعويذة، وجريت نحو الجثة الجديدة. مزقت جزءًا من الكفن، ووضعت داخله عظمة نخرة، وحفنة من التراب اللدن، ودودًا أسود، وبعض الحصى، ولففتها، ثم ربطتها، وغمستها في التراب، وقلبتها كثيرًا حتى تبدو وكأن قد مر زمن طويل على تجهيزها. بعدها سحبت كفني، ولففت نفسي به حتى غطاني تمامًا. لم يظهر مني سوي عينيَّ.

ما إن انتهيت منها حتى انفتح الباب. لم أكن أقف أمامه، فقد كنت أخشى عواقب المواجهة. فج النور في المكان، وسمح لي الجزء الموارب من الكفن عند رأسي أن أرى كشافًا في يد رجل فارع الطول، وقوي البدن. مثله لو اكتشف خديعتي سيضربني بيده ضربة واحدة فتنتهي حياتي التي حرصت عليها فوق ما تصورت، ثم يرميني هنا، ويغلق الباب، ويذهب غاضبًا.

ملفوفًا بكفني تقدمت نحوه، مادًّا يدي بالتعويذة التي اخترعتها، وقلت له بصوت فخيم:

ـ لا بد أن تفتحها هنا، وتلقي ما فيها على الأرض، ثم تدهسه بقدميك، وأنت تقرأ سورة "الفلق".

بدت عليه حيرة، وتطلع إليَّ في بلاهة، مقاومًا رعشة تدب سريعًا في أوصاله، ثم قال:

ـ لا أعرف سورة الفلق؟

أدركت أنه ربما يحفظها لكنه لا يعرف اسمها، كعادة كثيرين، فقلت له:

ـ أنا جني مؤمن، أحفظ القرآن، وسأتلو السورة وأنت تكررها.

هز رأسه في استسلام وقال:

ـ جني وأراك.

تمالكت نفسي وقلت له على الفور:

ـ ظهرت لك لأنك رجل طيب، وأنا أريد مساعدتك.

وقبل أن يفكر فيما نطقت به، أمرته:

ـ اقرأ خلفي.

رد في استسلام أشد:

ـ حاضر.

وبدأت التلاوة بصوت ممرور شجي: "قل أعوذ برب الفلق...".

ووقتها وجدته يضحك ويقول:

ـ هل هذه هي سورة الفلق؟ أنا أحفظها.

ومع هذا راح يردد خلفي محافظًا على نبرة الصوت نفسها، وأنا أتحرك على إيقاع صوتي وصوته نحو الباب، قابضًا على كفني من عند سرتي. رحت أدور وهو يدور حولي، حتى صار هو في الداخل بين الجثث، يعطس بشدة من هول الرائحة. كان يختنق رويدًا رويدًا لكنه يقاوم بشراسة، حتى لا يفقد القدرة على ترديد ما أتلوه عليه.

ولمَّا اقتربت من الباب أعطيته ظهري، وانحنيت فشعرت أن صوته يقترب مني، وخطواته تتبع خطواتي الوئيدة. لم أتوقف عن التلاوة بينما الدنيا أطلت أمامي طاقة من الغبش المفضض بالنجوم وزوجته التي كانت تقف ونبضها اللاهث يرج صدرها، وعيناها زائغتان.

صارت قدماي خارج الباب، وفردت طولي في وجه العتمة الفسيحة، ووجهها الذي لم يكن غريبًا عليَّ. كانت تلك الفتاة تقطن شارعًا في قريتي، خلف شارع بيننا، يتعامد عليه، ثم ينحني بالعًا حارتين في فمه.

تزوجت قبل خمس سنين من رجل يقطن القرية القريبة من المقبرة. رأيته فقط يوم العرس، وضاعت ملامحه من رأسي. أما هي فملامحها لم تغادرني، واسمها أعرفه جيدًا، والأهم هو نسبها، فقد كانت بنت أخي العمدة، ومات أبوها وهي صغيرة، لكن عمها، غريمي، كان يعطف عليها باستمرار، وطالما تعاملت معه وكأنه أبوها.

إنها الهيفاء البضة التي اهتزت شوارع قريتنا تحت خطواتها العفية، وطالما كانت "حميدة" تأتي على سيرتها معي وتقول:

ـ تحتاج إلى عريس من زمن الفراعنة.

وأسألها:

ـ لمَ؟

فتجيب ضاحكة:

ـ حتى يكون أطول منها أو طولها.

وكنت أضحك على قولها، وأغير دفة الحديث. الآن ليس بوسعي أن أغير شيئًا، فهي تعرفني جيدًا، وكنت أقابلها ولو للدقائق، وقت أن كانت تأتي مع أمها لتخيط جلبابًا بيد أبي الماهرة.

وفي إحدى المرات حكت لي سريعًا عن عريسها الهُمام، الذي أعجب عمها العمدة، وكنت أفهم من وصفها له، قبل أن أراه في ليلة العرس، أنه يشغل حيزًا كبيرًا في الفراغ ، وأنه رجل كريم، وجيبه دائمًا عامر من خير الفدادين الكثيرة التي يملكها بمحاذاة النهر.

ها هو سر جديد يضاف إلى قائمة أسراري التي أعتزم فضحها حين تصل بي قدماي إلى قريتي. هي فعلًا. عرفتها في العتمة الرائقة، وتأكدت منها حين حط النور على وجهها، حيث كان هو يتبعني مادًّا الكشاف إلى الأمام. هي أمامي وهو خلفي، وفوقنا الفضاء الرحيب، وحولنا القبور والجبل والرمل والحصى المفروش على المدقات التي عبدتها أرجل الذاهبين إلى المقابر، والآيبين منها.

كان عليَّ أن أطلق ساقيَّ للريح، لكن الكفن الملفوف حول جسدي منعني من الجري. قلت أميل لأرفعه قليلًا، فينحسر عن ساقيَّ، ويكون بوسعي أن أهرول نحو غايتي. وملت، ومددت يدي خارج الأبيض الملطخ بالتراب والدم والعفن.

ما إن أخرجت يدي حتى سقط الكفن من فوق رأسي، وانحسر عن وجهي وصدري، وانكشفت عورتي. وكان الرجل قد حاذاني بطوله المخيف، والنور الذي ينبعث من يده فضحني.

امتلأت عيناها دهشة وهلعًا وحيرة وحياء. اختلط كل هذا في مزيج عجيب، وانطلق لسانها في صرخة مدوية:

ـ "مرزوق الحُر".

عرفتني، ورددت اسمي مرة، واثنتين، وثلاثًا، ثم بلا توقف، كأن جنونًا قد مسها. لم أعد أذكر العدد الذي رددته، وأنا أجري عاريًا نحو المقابر المتراصة، مشهدًا الموتى على عجزي وخوفي وألمي، الذي أخذ ينشب من جديد.

سمعتها تخبره بما لم أتبينه تمامًا، لكني أدركت أنه قد بدأ يطاردني حين غمرني نور الكشاف، وترامى أمام خطواتي اللاهثة، فدسته ببقع ظلام يصنعها ظلي الخائف.

وبان لي الجبل متجهمًا مخيفًا، فوجدت نفسي أجري نحوه بكل
ما تبقى لي من قوة، بينما أخذت الذئاب تعوي، والضباع تجعر، وبانت لي هناك في الأفق المنحرف عن يميني أضواء ترتعش، خارجة من نوافذ بيوت القرية القريبة، قرية الرجل الذي يجري ورائي، ووراؤه زوجته، وضرباتهما العفية على الأرض لا تجعل أمامي من سبيل سوى الانزواء في كهف قريب، أو الاختباء في أي منعرج صخري يصاحب المدق الذي يمزع بطن الجبل إلي أماكن أجهلها. وفي الضوء الخافت رأيت وجه "علي المسلوب" ينظر إليَّ في شفقة، بينما انعقد ذراعاه خلف ظهره، وراحت قدماه تتقدمان على مهل نحو الخيط الذي يفصل السماء عن الأرض.

ناديته بكل ما أوتيت من قوة:

ـ الحقني يا عم "علي".

لكنه لم يرد، بل راح يلوح لمن لا أراهم، وهو يهز رأسه، وعلى وجهه ابتسامة أعرض بكثير من تلك التي كنت أراها أيام أن كان يأتي ليتابع الشمس المذبوحة عند الأفق الغربي، ولا يكلم أحدًا حتى يغطيه الظلام، الذي يرمي السواد على الزرع، وماء الترعة، والأشجار، والنخيل، فيصير هو خيطًا معتمًا يتحرك وسط كتل سوداء تهتز في نسائم أول الليل.

مضى هو صامتًا، ومضيت أنا غير عابئ سوى بالأسرار التي تملأ رأسي. رحت أضغط عليها حتى لا تسقط مني على الحصى، ويأكلها الخوف والضياع والنهايات القريبة، التي لا بد أنها آتية.

تمت

* * *