كلما تذكرت الألم تمنيت ألا أرجع من هنا. الرعب مقدور عليه، أغمض عينيّ وأشرد في الذي كان في أيام عذابي وأكف عن طرق الباب الحديدي الصدئ، وألتصق أكثر بهذا التراب الناعم المخلوط بمسحوق عظام الموتى.
كان الألم ينهش كبدي فيصرخ مستغيثًا، وتتصاعد صرخاته في كل جسدي، فيطلب مني أن يموت. وكنت أسمعه وهو يقول لي كل لحظة:
ـ أريد أن أستريح.
ولما كنت أتشبث بالحياة، ويحدوني أمل بأن ما أنا فيه يُرجى منه شفاء، لكنني سمعته يصرخ:
ـ ارحمني من هذا العذاب.
واستجبت له بالفعل حين أخذني المرض الشديد إلى الرحمة، وأدخلني في غيبوبة عميقة، ظن بها بعض من حولي أنني قد انتهيت فغسلوني وكفنوني ورموني هنا، أو أنهم كانوا يعلمون أن النفَس
لا يزال يسري في صدري، لكنهم أرادوا أن يدفنوا الألم الذي لا يطاق فدفنوني معه. على الأرجح أنه كان من بينهم الذين سعوا إلى التخلص مني، وأعطتهم غيبوبة الكبد فرصة سهلة لتحقيق ما يصبون إليه.
ولما أفقت عادت إليَّ ذاكرتي، فجاءتني لحظات الألم الرهيب، فقتلت رغبتي في الخروج من مقبرتي.
وزلزلني الفزع حين أدركت أن الألم لا بد أن يعود. كان في السابق يغيب أيامًا فأتوهم أنه قد غادرني إلى غير رجعة، لكنه لا يلبث أن يهجم بضراوة أشد مما كان عليه من قبل.
كيف يمكن أن أطيقه هنا دون أن تكون حولي ابتسامات خارجة من أفواه تلهج بالدعاء لي؟ ودون أن أتابع نور الصبح وهو يتسلل من النافذة ويغمرني؟ ودون أن أحلم بأن أرى وجه "حميدة" ولو مرة واحدة قبل الإغماضة الأخيرة؟ ودون أن أقول لنفسي حين ينحسر الضوء ويهجم الظلام فيغطي ألمي:
ـ سأهزم وجعي، وأعيش.
لكن الوجع اشتد، فضاق وجهي وبرزت عظمتا الوجنتين خنجرين يطعنان كل من ينظر إليَّ من الذين جاءوا ليعودوني، فوقفوا حائرين، قبل أن يقتلوا حيرتهم بقرار موتي ونقلي إلى هنا، لا سيما بعد أن عجز الطب عن شفائي.
حملوني إلى طبيب أخير يقال إنه الأبرع في علاج مرضى الكبد بصعيد مصر قاطبة. دخلت عيادته، محمولًا على أذرع صاحبي وجيراني عند أول المساء. راح ينظر إليَّ من خلف نظارته السميكة، ويمصمص شفتيه. سألته بصوت واهن:
ـ ألن تطلب تحاليل؟
ابتسم في مرارة وقال:
ـ لا حاجة لي بها.
عندها ظن صاحبي، الذي دخل غرفة الفحص معي، أن ما سمعه يعني أنني بخير، لكنني وحدي أدركت أن حالتي صارت متأخرة عصية على الشفاء، ميئوس منها، لم يعد ينفع لها فحص ولا تحاليل ولا دواء. لذت بالصمت، وتطلعت إلى صورة كبدي التي ظهرت على شاشة جهاز دقيق موصول بحاسوب، تتوالى عليه أرقام بلا توقف وكأنه يعد الثواني المتبقية لي في الحياة.
تأملته، وفاضت الشفقة عليه بين جوانحي، وقلت له:
ـ آسف لأنني حملتك فوق طاقتك.
فسمعته يقول:
ـ ها أنا سأريحك من العذاب الذي سببته لك.
شكرته في صمت، ونهضت مأسوفًا على شبابي، وأنا أرى الشاشة تغيم فيغيب كبدي في العتمة الرائقة، التي نشرت حباتها المظلمة في قلب ورقة بيضاء، تحمل صورة الأشعة الأخيرة.
أثناء العودة قلت لصاحبي:
ـ أذنت ساعة رحيلي.
زفر في حرقة، ولم يجد ما يرد به سوى:
ـ لا يعلم الغيب إلا الله.. بيده وحده الشفاء.
مددت يدي إلى عينيه لألملم حبات الدموع الساخنة، ثم نثرتها في النسيم الطري الذي كان يتدفق من نافذة السيارة، وتطلعت إلى الأفق البعيد. كانت النجوم قد رشقت سهامها المضيئة في قعر السماء، وفلقة قمر بزغت هناك في البعيد. وسمعت نعيق بومة فوق شجرة عتيقة عالية تكسو محطة إحدى القرى المتتابعة على الطريق.
حين أعادوني إلى فراشي البالي كانوا جميعًا يدركون أن نهايتي قد جاءت معي لتنام في حضني وتطوقني، وأنا أغمض عينيَّ في صدرها الذي ليس له حدود، مستعدًا للرحيل.
ـ "الموت راحة".
نطقت جارتنا التي طالما أيقظها صراخي من نومها العميق، وكانت تقول مع كل صرخة:
ـ يا كبدي يا ابني.
وتمنيت وقتها ألا أكون كبدها، فما عساها أن تفعل بكبد متليف؟ وما ذنب هذه المرأة الطيبة أن تتألم من أجلي؟ بعد أن تنهض مفزوعة، وتدوس النعاس وهي تتقدم نحو منبع الألم والصراخ.
في إحدى الليالي دقت بابي بعد أن انتفضت واقفة على أطراف أصابعها من شدة صراخي. كانت طرقاتها المتتابعة تدق كبدي، فنفض عن نفسه بعض ألمه، وساعدني أنا على الوقوف. تقدمت بخطوات وئيدة إلى الباب، ومددت يدًا مرتعشة إلى الترباس، وفتحت فإذا بدموعها تسقط فوق كتفي، وهي تمسك بي، وتعيدني إلى فراشي.
سألتني يومها وهي تنظر في عينيَّ الصفراوين:
ـ هل أخذت دواءك؟
حاولت أن أبتسم فلم أقدر، لكني تمكنت من أن أرد عليها بصوت لا تكاد تسمعه:
ـ دوائي ذهب معها.
تطلعت إليَّ صامتة مرة أخرى، وبان في عينيها سؤال، فتلقت إجابتي في سؤال جديد:
ـ ألا توجد أخبار عن "حميدة"؟
وكانت تعرف ما بيني وبين "حميدة"، هي التي حملت رسائلي إليها كلما كان الشوق يجرفني، فأرغب في اللقاء. وكانت صاحبة والدتها، وبوسعها أن تدخل دارها في أي وقت. كانت سيدة كتومة وحنونًا، فرقَّت لحالي، وطالما تألمت حين كنت أشكو لها وجع الفراق. تنظر في عينيَّ، وتسبح في دموعها التي تيبست من فرط الاشتياق، وتقول قولتها الدائمة:
ـ يا كبدي يا ابني.
لم يكن لديها خبر، وجاءت إجابتها كالعادة:
ـ ضاعت في بلاد الله.
أما أنا فضعت في بلدي، سكنني المرض اللعين بعد أن فتحت له جسدي ذات يوم. تسلل خلسة، وراقب ما أفعله، ولأنني لم أفعل شيئًا، كسائر الناس هنا، اطمأن، وجلس متربعًا، وراح يتناسل، ويرسل أولاده الأبالسة إلى كل كبدي حتى احتلوه تمامًا، وصاروا جميعًا نوابًا لعزرائيل.
لم أر عزرائيل نفسه يحوم حول فراشي ثم يتقدم صامتًا ليمسك بيديه ما لا أراه، ولا أعرفه، روحي التي ظن كثيرون أنها خرجت، وسبحت في الكون الفسيح، ولذا حملوني، وساروا خلف نعشي بعد أن قسموا أنفسهم إلى فريقين، ينشد الأول في لحن جنائزي عذب: "لا إله إلا الله"، فيرد عليه الفريق الثاني: "محمد رسول الله"، هكذا نشيع موتانا، ونحن نحدو ونبكي.
والكائن العجيب الذي بدا لي حين اصطدم رأسي بالباب، وسقطت في غياب قصير، لا أعتقد أنه عزرائيل، فهيئته لم تكن أبدًا تدل على أنه من الملائكة، حتى لو كان ملاك الموت. ربما هو الموت نفسه، حسبما أدركه، من كثرة ما سمعته عنه، وقدر خوفي منه، وعلى قدر الرهبة التي تحيط به، ونحن نقف عاجزين وهو يخطف الواحد منا تلو الآخر.
كانت أصواتهم تأتيني كرجع بعيد قادم من العالم الآخر، وأنا محبوس في هذا الصندوق الخشبي المفتوح من أعلى، والملقى دومًا في ركن المسجد انتظارًا لزبائنه. كان يهز كبدي الموجوع، فيستفز الألم، فتبدأ رحلة عذاب جديدة، لكن غيابي كان يأكل حضوري، فيلجم ألمي، ويجعلني عاجزًا عن النهوض كي أقول لمن يشيعونني:
ـ عودوا بي إلى ألمي.
الآن أسمع صوتًا يقول لي:
ـ لا تعد، بعد أن تآلفت مع هذا المكان، وتوحدت مع العظام البالية، والجثث التي لا تزال رطبة، لا سيما تلك التي تجلس أمامها محاولًا أن تزيح الغطاء عنها لتحدثها عن كل شيء.
أردت أن أتكلم دون توقف، حتى تنفد كلماتي المكتوبة لي في عليين، وساعتها أتمدد إلى جوارها متوحدًا معها راضيًا إلى الأبد.
متى يأتي الموت لينهي عذابي؟ كبدي هدأ هنا وكأنه كان يكره النور والبراح. لكنني لا أضمن أن يستمر هدوؤه حتى ألفظ أنفاسي.
وتملكني إحساس، أو هكذا توهمت، أنه قد استراح للرطوبة والظلام. ربما راح كل هذا يصارع "الفيروس" الخائن اللعين بعد أن تمكن من جعل جسدي خامدًا خاملًا خائرًا، يسري العفن والألم في خلاياه فيرديها قتيلة.
تسربت الراحة ومعها زمتة الهواء الحبيس، وخيوط العتمة من عيني وأنفي وفمي، ودخلت إلى حيث تكون هذه المضغة التالفة. وهناك في الحشايا المتهالكة دارت المعركة. لا شك أن الموت آت، وسينتصر على التوحش والألم، وسيأتي خبري حين أشهق لآخر مرة، وأغيب مع الغائبين.
سخرت من نفسي عن قولي "خبر"، إذ إن خبر موتي الحقيقي لن يصل إلى أحد، بعد أن وصلهم خبري المزيف، وقت أن أذاعوا في مكبر الصوت المربوط في رأس نخلة ملتصقة بجدار المسجد. كالعادة، لا بد أن الناعي قال، وهو يغمض عينيه، مثلما رأيته من قبل، وهو ينعي غيري:
"لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون.. توفي إلى رحمة الله مرزوق الحر، وستخرج الجنازة من الجامع الغربي بعد صلاة العصر".
خبري! أي خبر؟ لن يسمع بموتي أحد. فقد مت هناك بينهم قبل ساعات، وشيعوني، والآن يجلسون عند بيتي الذي لم يعد فيه أحد، يتلقون عزائي. وربما أقام صديقي مكان عزائي عند داره، وربما أخذوا عزائي على قبري ورحلوا، وبدأ النسيان يتسلل إلى رؤوسهم الآن.
لا يدري أحد منهم أنني لا أزال حيًّا، وإلا كان صديقي قد جاء، ومعه رجال، ونبشوا التراب وأخرجوني وأنا رافع رأسي إلى عمق السماء البعيد، لأسحب كل ما حرمت منه من هواء طليق.
أوهام في أوهام، صنعها الهدوء الكاذب للوجع. وقد تستيقظ الحقيقة عفية، فأصرخ بكل ما أوتيت من قوة دون أن تسمعني جارتي الطيبة، فتهرع لنجدتي، وتقف أمامي موجوعة مثلي.
يا ليته كان قبرًا، وليست منامة. في القبر يهيلون التراب على الجثة فتنتهي ولو كان تدب فيها بعض الحياة، وتتلقى إشارات من الدنيا.
أما هنا فأنا في غرفة تتسلل الحياة إليها من هذا الثقب الذي يحمل نور الدنيا إلى الآخرة. آخرة الروح نور مبهر، وبراح بلا نهاية. لكن آخرة الجسد ضيق وعتمة.
هذا الثقب منحني أيضًا بعض هواء الدنيا، فصرت قادرًا على التنفس. كنت أذهب إليه، وأرفع رأسي نحوه، وأشهق بقوة، بعد زفير طويل، أتخلص فيه من الهواء الفاسد الذي حلَّ بصدري، وتحدوني أمنيات بأنني سأتمكن من الخروج.
ما بين الآخرة والدنيا تلك الغرفة التي أعرف أن الناس تسكنها هناك. تذكرت أولئك الذين يحدثون الموتى هناك في المدينة الكبرى المتوحشة. يدفعهم بؤسهم إلى أن يسكنوا إلى جوارهم، بل معهم، ويطلق عليهم أصحاب الياقات البيضاء "سكان القبور". يعدون عنهم الأبحاث الميدانية، ويكتبون المقالات والخواطر، ويكتبون القصص والروايات، ويصورون الأفلام والمسلسلات، لكن أحدًا من هؤلاء لم يجرب أن يبيت ليلته راقدًا فوق عظام الموتى.
إنها بيوت خفيضة متاحة لمن لفظتهم الشوارع الوسيعة، بعضهم يسكنها بالإيجار، وبعضهم سيطر عليها عنوة، وبعضهم يتسلل إليها ليلًا ويفارقها حين يشق الفجر ستائر الظلام. بعض هذه البيوت المقابر يقف أجرد في وجه الزمن الذي يتدفق بلا هوادة، وبعضها تعطف عليه أصحابه وزرعوا تحت جدرانه أشجارًا وصبارًا ونخيلًا قصيرًا، وانتهزت الحكومة فرصة أن أناسًا دبروا أمرهم، ولن يطالبوها بتوفير سكن لهم، فقامت بتعبيد الشوارع المشقوقة بين الجدران، التي تتثاءب طيلة الوقت.
ماذا لو كنت هناك ميتًا يرقد تحتهم في الغرف السفلية، وليس حيًّا يعيش بينهم؟ كنت على الأقل سأجد معهم الونس. سيأتيني صخبهم الذي لا يتوقف، أنينهم وشخيرهم وفحيحهم وصراخهم. كانت ستسقط عليَّ كلماتهم الهادرة، وضحكاتهم المجروحة، وبكاؤهم المسكون ببهجة عابرة.
كان من الممكن أن أصرخ أو أطرق الباب فيسمعونني، أو أنبش التراب تحتهم فينتبهون لي، ويفتحون لي لأخرج من الآخرة إلى الدنيا. ومن يدريني لعلهم وقتها يزفونني إلى الحياة مرة أخرى، ويدعون الناس ليشاركوهم الفرحة، أو ينتظرون رحيلي بالفعل ليُشيِّدوا لي ضريحًا يأتيه الزوار من هنا وهناك ليتباركوا بالميت الحي، والحي الميت، حاملين إليه النذور: نقود وغلال وذبائح وحلي.
هم هناك في المدينة الكبرى يجالسون الموتى في النور. يفتحون الأبواب والنوافذ فتتدفق الحياة إلى قلب الموت. هناك يضحكون ويبكون. يتصافحون ويتشاجرون. يصرخون من الوجع واللذة والفرح. يأكلون ويشربون ويفرغون ما في بطونهم وأمعائهم في مراحيض متهالكة، فيسقطون على العظام والجماجم بعضًا من مخلفات الدنيا. يأتون بالحياة إلى قلب الموت، وهم نصف أحياء ونصف أموات.
أما أنا هنا فمحشور في مقبرة تتمدد متثائبة على رمل خشن، يحضنه الصخر من ثلاثة جوانب، وتهزه الرياح أيام الخماسين، فتثير غبارًا كثيفًا، يغطي شواهد القبور والأسوار التي تطوق المنامات، والنخل الضعيف، والصبار الأصفر، الذي ينتظر من يجودون عليه بقطرات ماء كلما شيعوا ميتًا أو جاءوا لزيارة موتاهم.
أنا منقطع عن العالم، لا يربطني به إلا هذا الثقب الذي ضاع منه النور حين جاء الليل، وأتى معه بذئاب الجبل، التي تهبط جائعة، وتنتشر في المقبرة. بعضها يقعي فوق الشواهد يراقب المسارب التي تمزع بطن الصخور، ربما يجد شخصًا تائهًا فيلتهمه، وبعضها ينبش عند أبواب المنامات حتى يصل إلى الجثث، لكن الأبواب الحديدية تصده.
حكينا عنها على مصاطب السمر في ليلة صيف لا تُنسى، بعد أن نبشت ثلاثة قبور، وأكلت جثث طرية كان أهل قريتنا قد دفنوها عند الظهر. قضينا وقتًا طويلًا في محاولة التخلص من العار الذي لحق بنا جميعًا، لا سيما أن أهالي القرى المتجاورة رددوا هذه الحكاية، وكل منهم يضيف عليها من عنده ما يريد.
وكم تألمنا حين جاء رجل من بلدنا ذات ليلة ورأسه مشجوج، لكنه لم يعبأ بالدم النازف منه، قدر انشغاله بما عيَّره به من ضربه:
ـ الذئاب والكلاب أكلت موتاكم.
وقال المتقولون إن السبب في ما جرى لنا هو أننا نسترخص الإسمنت والحجر الذي نسد به قبورنا. وقال آخرون إن جثثنا زفرة، لنوع الطعام الذي نأكله، فتشد أنوف الذئاب والضباع من أعلى الجبال. وظللنا سنوات ندفع عن أنفسنا كل هذه الأقاويل، بلا جدوى.
شيدنا منامات ذات جدران سميكة، ولها أبواب حديدية عليها أقفالها، لكن ها هي الذئاب تأتي، وتنبش بسرعة لتصل إلى الجثث، فتصدها الجدران والأبواب، وتجبرها على أن تقف عاجزة تعوي.
سمعت عواءها. كان يصلني خافتًا مجروحًا، ورغم ما بيني وبينها من حجاب سميك، ومع أنني لم أعد حريصًا على بقاء جسدي حيًّا، إلا أن خوفًا قد انتابني، وكأن الذئاب تمد أفواهها الشرهة نحو بطني العليل.
صمتت قليلًا، وكأنها جميعًا قد اتفقت على هذا، فاقتربت من الباب أتسمع وجودها، فجاءني صوت لهاثها، ثم لم تلبث أن عاد بعضها يعوي.
وجدت نفسي بعد ساعتين متآلفًا معها. فعلى الأقل هي كائنات حية هنا، في هذا المكان الموحش، الذي لا يمكن لأحد أن يجرؤ على المجيء إليه في الظلام إلا من أجبرتهم الظروف على تشييع ميت
لا يريدون أن يبقى بينهم إلى الصباح، أو المجانين الذي يهيمون على وجوههم غير عابئين بالخطر.
الذين يأتون إلى المقبرة ليلًا من غير المجانين يحرصون على رفع شعل نار عالية في وجه أي ذئاب رابضة، جنبًا إلى جنب مع الفوانيس التي يحضرونها معهم لتنير لهم قعر المقابر، فيرصون الجثث على أرضيتها الباردة.
من بوسعه أن يأتي الآن وصوت الذئاب يهز المكان؟ لا أحد. وحتى لو عادت الذئاب إلى جحورها، فمن ذا الذي يأتي؟ وإن أتى، فكيف سيسمع صراخي إن عاد إليَّ الألم؟ وكيف سيسمع نقري على الباب الحديدي الموصود؟
لا أدري أين ومتى قرأت حكاية ذلك الرجل الذي قرر ذات يوم أن يمد المقابر بأجراس، يدقها الموتى إن عادوا إلى الحياة. أتذكر أن أهل بلدته فوجئوا حين ذهبوا بميت جديد أن الميت الذي كانوا قد دفنوه قبل أيام قد غادر صندوقه محاولًا أن ينبش قبره ليعود إلى الحياة، لكن الباب السميك منعه. وجدوه ملقى أمام الباب مقرفصًا، مات من العطش والجوع واليأس، وربما اختنق من الهواء المسموم.
علقوا الأجراس في المقابر، وكان حراسها يشنفون آذانهم لعلهم يسمعون دقات فيهرعون إلى المقبرة الآتية منها، يفتحونها ويخرجون الميت الحي. ظلوا سنين ينتظرون لكن أحدًا لم يرجع.
أما صاحب الفكرة فقد جمع ثروة طائلة، لم تنفعه حين مات ودفن مع أولئك الذين حاولوا إنقاذ الذين تعود إليهم أرواحهم التي فارقتهم، لكنها استوحشت أجسادهم فعادت إليها، أو التي يحسب الناس أنها قد فارقتهم.
لم أنقل هذه الفكرة التي قرأتها، ولو نقلتها وطلبت منهم أن ينفذوها كانوا سيسخرون مني، ولو أنني صنعت أجراسًا لأبيعها لبارت سلعتي. هم يعرفون أن من مات لا يعود، وإن كان بعضهم يتحدث، كما سمعت منهم كثيرًا، عن سيدة استيقظت في صندوقها، وأزاحت كفنها عن وجهها، ونظرت إلى من يحملونها على أكتافهم وقالت:
ـ أنزلوني.
وانعقدت ألسنتهم من الدهشة، وحطوا الصندوق على الأرض، وأخرجوها، ملفوفة في كفنها. وأعطاها الرجال ظهورهم، حتى خلعت امرأة جلبابًا كانت ترتديه فوق جلباب، فلبسته الميتة الحية، وسارت أمام الجنازة، التي تحولت إلى زفة، وصار المشيعون جوقة، والحداء غناء. راح الرجال يصفقون ويغنون، ورقصت أمامهم النساء. أما التي عادت من موتها، فمشيت في وقار، مكللة بجلال وهيبة، جعلت الناس ينادونها فيما بعد:
ـ يا ستنا الشيخة.
عاشت بعدها عشر سنوات كاملة، ولما ماتت حملوها في الصندوق، وساروا في بطء، لعل روحها تعود إليها مرة أخرى، لكن هذا لم يحدث، فدفنوها، وقرأوا على رأسها الفاتحة، ولم يسقطوا كراماتها من رؤوسهم.
لم أستيقظ أنا في صندوقي فأصير شيخهم الجديد، إنما فتحت عينيَّ في قبري، وحال الباب الحديدي الواقف خلف أكداس من الرمل والحجارة الثقيلة بيني وبينهم. الذين معي هنا لا يشعرون بي، رغم أنني أحيانًا أتوهم أنهم يشعرون. وحتى لو كانوا يسمعونني ويرونني، فلن يذهب أي منهم إلى أهل قريتي ويبلغهم، فيهرعون ليخرجوني ويزفوني إلى بيتي.
أي زفاف أنتظر؟ لم أزف على "حميدة"، وحتى لو أنني استيقظت في صندوقي، قبل أن يغلقوا عليَّ باب هذه الغرفة، فإن مثلي لا يستحق زفافًا. فغيبوبة الكبد سرعان ما تعود، والموت السريع قادم لا محالة. كل ما هنالك أنني كان من الممكن أن أقضي على قيد الحياة بين أهل قريتي ساعات إضافية. لا بأس، فلأقضها هنا، بين موتاهم. بين هؤلاء الذين كنا نتجاذب سيرهم في ليالي السمر. يقول أحدنا:
ـ هل تتذكرون فلانًا؟
من يكبروننا بسنوات كانوا يقولون:
ـ نتذكره بعض الشيء، لكن كثيرًا من ملامحه ضاعت من رؤوسنا.
كانوا يتشاركون في تجميع أوصافه. بعضهم كان يتذكر مواقف معه، فيسرد حكاية ناقصة، تنتهي بمصمصة الشفاه في أسى، أو بالقهقهة. وحين يقيم أهل قريتنا أفراحهم يأتون على ذكر الموتى. فالحلاق، الذي يطلقون عليه "المزين" يجلس فوق دكة خشبية، وخلف ظهره حاشية من قطن، وتحته لبدة من صوف، وفي يده سماعة مكبر الصوت، ويأتي الناس ليقفوا أمامه وفي يد كل واحد منهم ما جاد به من نقوط، ثم يسرد عليه أسماء أسرته، فيقول أمام كل واحد: "خلف الله عليك يا فلان.. والعقبى عندك بخير".
أما في المساء حين تعقد حلقة الذكر فإن أحد المريدين يقوم بالدور نفسه، لكن هذه المرة يحصد الأموات أغلب المذكورين، وتقرأ على أرواحهم الفاتحة، وأدعية بالرحمة والغفران.
وهناك من يتمسكون بتأبين سنوي لموتاهم الذين رحلوا منذ سنين، حيث يتجمع الرجال على الدكك، ينصتون إلى القرآن الكريم، الخارج من حناجر المقرئين، وكلما استحسنوا التلاوة يقولون في صوت واحد: "الله الله .. الله يفتح عليك يا سيدنا"، فيرسل إليهم المقرئ نظرة امتنان ورضاء.
من الحفلات والمآتم عرفنا كثيرًا من أسماء الراحلين، فإن ذكرت حكايات عنهم أمامنا كنا مهيئين لسماعها. وبهذا عاش أمواتنا بيننا، كأنهم لا يزالون على قيد الحياة.
وقفزت إلى رأسي فكرة، قلت تسليني في وحدتي المقبضة، وهي أن أرتب أسماء الموتى حسب حروفهم الأبجدية، وأحاول أن أتذكر كل ما سمعته عنهم. هناك من رحلوا قبل أن أولد، وتداول الناس سيرهم أمامي، ويوجد من رحلوا بعد أن طالني الوعي، وأعرف كثيرًا عنهم. وقلت لنفسي:
ـ ابدأ بمن سمعت عنهم.
ورأيتها فرصة لتنشيط ذاكرتي، لكن بعض هؤلاء حل على رأسي بالفعل، في مقدمتهم الرجل الذي كان يذهب لملاقاة الغروب، والطفل الغريق، فقلت أستبعدهما الآن، وأذهب إلى غيرهما.
ذاكرتي هنا هي الدنيا التي لم أفارقها بعد. إنها بعض التفاصيل الصغيرة التي تأخذنا إلى دوامات تبتلع أعمارنا، تسرقها بلا توقف، حتى نجد أنفسنا قد بلغنا الشاطئ الآخر من الحياة. نعم، هذا ما فكرت فيه، أن أربط نفسي بما يجري خارج قبري، وليست معي سوى ذاكرتي سبيلًا لأستعيد الحياة التي أقف على حافتها، أنتظر شيئًا يزيحني إما إلى حضنها أو إلى أحضان الموت.
كان يمكن أن أستعرض حياتي أنا، كل ما أتذكره منذ أن كان عمري خمس سنوات وحتى اللحظة التي أكابدها الآن، لكني لم أشأ أن أفعل ذلك، حتى لا أمر بمحطات الألم الرهيب، التي لم أكن أطيق حتى مجرد تذكرها. لكن كان بوسعي أن أتذكر "حميدة"، أترك كل ما أضناني حين فقدتها، وآتي باللحظات التي كنا نقضيها في حقول الذرة خلف بيتهم، الذي به تبدأ بلدنا، للقادمين إليها، وتنتهي للمغادرين منها.
نعم، إن ذكرى "حميدة" هي الشيء الوحيد الذي أريد ألا تذهب عني حتى بعد أن أصير عظامًا نخرة مثل هذه التي تراني الآن وأنا أتقلب بينها كأن الجمر تحتي.
نعم، لماذا أُضيِّع وقتي في استعراض الموتى، كأني أريد أن أسرع بصحبتهم في استقبال ما أنا ذاهب إليه حتمًا؟ مع أن بوسعي أن أدخل البهجة على نفسي حين أستدعي ذكرى محبوبتي. ومن يدريني لعل صوتها يأتي من جديد ليؤنس وحدتي. لقد سمعتها فور نزولي إلى هنا، وحين غابت وسألت عنها، قيل لي إنها ذهبت وستعود. من قال؟ ومن وعد؟ لا أعرف. لكنني أتذكر أن هذا ما جرى، وعليَّ أن أصدقه منتظرًا عودتها لأعاتبها. لا. لا، لن أعاتبها، بل سأمنح أذني فرصة التنعم بموسيقى صوتها الرخيم. سأقول لها: احكي .. قولي ما تشائين. وأتركها تتحدث بلا انقطاع. لكنني لم أسمع صوتها من ساعات، أين ذهبت؟ ومتى تعود؟
لأستعجل عودتها إذًا بتذكرها، منذ أن اهتز قلبي لأول مرة مع اهتزاز ضفائرها، وهي تهرول نحو عين الشمس وقت الضحى على الجسر العريض.
تقرفصت، وأغمضت عيني، وسمعتها تناديني:
ـ يا كبدي يا حبيبي.
كانت تقول أيام اللقاء "يا قلبي"، لكن ها هي تعرف، كيف؟
لا أدري، أن الذي جاء بي إلى هذا الظلام العفن الحبيس، الذي يجعل موتي بعد ساعات قليلة محققًا، هو كبدي، وليس قلبي.
كان قلبي سليمًا، رغم متاعب فراق "حميدة". كنت قادرًا طيلة الوقت على أن أحوِّل عذاب شوقي إليها لمتعة. أجلس وأغمض عيني وأستعيد كل شيء، ليجتاح الخيال الرهيف معيشتي الخشنة، ويجرفها بعيدًا عني، فلا يبقى من شجون الهوى سوى عذوبته.
كان عليَّ أن أستعيد هذه العذوبة بأي طريقة، إنها هي فقط التي بوسعها أن تنسيني كل ما أنا فيه. يا ليتني أقدر على أن أغرق فيها حتى آخر نفس لي. لهذا أغمضت عيني، وسمعتها.
هل هي معي هنا؟ لا أدري. لعلها تناديني من داخل نفسي، أو أنني أتوهم وجودها، أو جننت لما أنا فيه الآن فأصبحت أرى ما لا وجود له. لا بأس، ليكن أي خيار من هذه، فالمهم عندي الآن أن "حميدة" ستؤنس وحشتي.
وناديت بأعلى صوتي:
ـ "حميدتي".
لكنها هذه المرة لم تأت، لا أسمع صوتها، لا أرى صورتها، جسدًا كانت أم طيفًا. وكان عليَّ أن أواجه مصيري بكل ما تبقى لي من شجاعة، فإما أن أغمض عينيّ، وأزيح الدنيا بكاملها من رأسي، وأنتظر الموت بلا تردد، أو أن أفعل كل ما في وسعي في سبيل الخروج هباء. كان عليَّ أن أفعل شيئًا، أن أختار، واخترت بالفعل.