6

أتتني لحظة الشجاعة حين عثرت على عظمة مسنونة، تبدو سكينًا حجريّا، تركه الأسلاف في كهف ظل مجهولًا لقرون طويلة. كان يكسوها تراب لدن، وعلى جنبيها يرعى دود صغير، لم أره جيدًا، لكنني شعرت به يدب فوق ذراعي حين مددت يدي لأمسك بالعظمة السكين.

مرَّرت كفي على حدها القاطع، فكاد يجرحها. سحبتها وتحسستها ظانًّا أن دمًا قد انبثق منها، لكنها كانت سليمة.

قفزت إلى رأسي فكرة غريبة. نظرت إلى جسدي العاري، الذي خلص لي في الظلام كشبح متهالك. كانت نظرتي إلى جنبي الأيمن، وتحت القفص الصدري مباشرة، وقلت لنفسي:

ـ هنا يرقد كبدي المعطوب.

كانت العظمة في يميني، ودفعت سبابة يسراي لترسم دائرة فوق لحمي، وقلت من جديد:

ـ من يقطع هذا اللحم سيجد الكبد ناظرًا إليه في أسى.

ابتسمت ورأيت وجه الرجل الميت حديثًا يبتسم. كيف رأيته في هذا الظلام؟ أنا لم أره، بل تخيلت. لا. لا، أنا رأيته يبتسم ساخرًا مني. معه كل الحق، فأنا ميت لا محالة، بعد ساعة أو ساعات، بعد يوم أو يومين، فلماذا أعبث بجسدي؟ لماذا أوقظ الألم بعد أن استكان قليلًا؟ هل نسيت تلك الليالي العصيبة، التي كنت أقضيها صارخًا من فرط الوجع، وأنا أحاول إيقاف النصال الحادة التي تمزق أحشائي؟

الآن وجدت سكيني، وأريد أن أمزق كبدي، قطعة قطعة، وألقيها هنا بين الجثث، وأدهسه بقدميَّ حتى يمتزج بالتراب، أو أنهشه بأسناني، وأطحنه تحت ضروسي، فأقتل كل الأبالسة الذين تسللوا إليه، واستوطنوه، وعاثوا فيه فسادًا، حتى خرب تمامًا.

قربت العظمة من لحمي، وضغطت قليلًا فآلمتني. أبعدتها فزعًا دون أن أسقطها من يدي، وسمعت قهقهات عالية، أتبعها صوت يقول:

ـ لماذا تؤذي من أراحك؟

درت بجسدي، باحثًا في كل اتجاه عن محدثي، لكني لم أر أحدًا، ومع هذا سألته:

ـ من أنت؟

لم أسمع ردًّا سوى قهقهات جديدة، هذه المرة كانت مدوية حتى شعرت أنها ترج المنامة رجًّا. انكمشت مكاني، ووجدت كفيَّ تندفعان لستر عورتي، وأنا أنظر إلى الجثث التي أراها، وأحسب أنها تراني. وتطلعت، مرة ثانية، في جنبات المكان فلم يتراء لي شيء سوى الجماجم والعظام التي كاد بعضها يضيء العتمة. ولأول مرة أنتبه إلى أن بعضها صغير مكوم في الركن. إنها لطفل لم تمنحه الحياة فرصة كي تعذبه، كما عذبتني.

تقدمت نحوها في هدوء وأنا أقول لنفسي:

ـ إنها كومة من البراءة لم تلوثها الدنيا وتصاريفها، وعليَّ أن أمد يدي إليها لعلها تحميني من هذا المجهول.

لكن المجهول بقي على حاله، وسمعت أنينًا خافتًا. هل يأتي من هذه الكومة التي لا تزال غضة؟ أم من العظمة المسنونة التي لم تسقط من يدي؟ لا أدري. لكن الأنين تواصل. كان مجروحًا كأنه عزف ناي معذب. استعذبته فطوحت رأسي يمينًا ويسارًا، ورحت أغني.

كان في البداية صوتًا خفيضًا، لا أكاد أسمعه، ثم أخذ يرتفع شيئًا فشيئًا حتى ملأ جنبات المنامة. ورأيت الجثة الجديدة للرجل، الذي أتوا به قبل يوم واحد على الأرجح، تتململ. بدا وكأنه يرقص بينما انبعث نور مبهر من كومة عظام الطفل ثم راح يخفت تدريجيًّا، انجلى لها المكان، وبانت على الجدران، المشبعة بالرطوبة، خيالات تتحرك بلا توقف، ثم لم تلبث أن صارت حركاتها رقصًا منسابًا في براعة.

وجدت نفسي أتحرك معها، ببطء في البداية، ثم أخذت أنافسها في الرقص المتلاحق وأنا ألهث، حتى هدني التعب، فسقطت مكاني، أتصبب عرقًا، بينما عيناي تطالعان الظلام الذي عاد حين توقفت عن الغناء.

استيقظت فوجدت خيط النور يتدلى من أعلى كاشفًا جانبًا صغيرًا من المنامة، لكنه كان قادرًا على أن يوزع بعض ضوئه على المكان، فتمكنت من أن أرى الجثث والعظام والجماجم من جديد.

كانت العظمة المسنونة لا تزال في يدي. غفوت وأنا قابض عليها. وحين أفقت مددتها أمام عينيَّ، ونظرت إلى أسفل قفصي الصدري حيث كبدي، وفكرت أن أجرحه من جديد، لكني خفت من القهقهات التي كنت قد سمعتها بالأمس، حين شرعت في التفكير في هذا الأمر. هكذا ظننت وأوهمت نفسي بظنوني، لكنني في الحقيقة كنت خائفًا من الموت.

يااااااااااااااااه...

هل أنا أهذي؟ يبدو أنني أهذي، بل أنا أهذي فعلًا. كيف أخاف من الموت وأنا قد استرحت له هنا، وقررت ألا أعود إلى الحياة لأن فيها ألمي الذي لا أطيقه، لكن كيف أرضى بما أنا فيه، وأترك من دفنوني حيًّا، ليقتلوا أسرارهم معي.

ووجدت نفسي في هذه اللحظة أندفع إلى باب المنامة من جديد، وأضربه براحتيَّ بقوة جبارة، لا أعرف من أين أتيت بها حتى إنها جعلت الباب يرتج، ويهزم كالرعد، تحت ضرباتي المتوالية. لكن كالعادة لم يجبني أحد. حتى الذئاب رحلت ولم يبق كائن حي سواي في هذه المقبرة المقفرة على اتساعها.

هاهاهاها...

كائن حي؟! هذا ما أراه لنفسي، مع أنني ميت بحكم ما سيكون بعد قليل، بل أنا ميت بالفعل، وبعض الذين أتوا بي إلى هنا ربما لم يظلموني، فقد عرفوا نهايتي، وكانوا يتوجعون لوجعي. ميت أنا بحكم محبسي الغريب، ولكبدي الذي لم تعد فيه خلية واحدة سليمة.

الشيء الوحيد الذي أضفته إلى هذا المكان هو الصدأ، الذي تساقط من شدة ضرباتي، وتناثر فوق رأسي. لم أنفضه وكأنني كنت في حاجة إلى شيء جديد يحل معي أو يحل بي هنا. بعضه حط على العظام، وبعضه استقر على الأرض. سموم أخرى جاءت لتزيد تلك السموم الذائبة في الهواء الحبيس.

عطست بشدة، فشعرت أن أحشائي تكاد تخرج من فمي. أطبقت أسناني حتى لا أسمح لها بالخروج. وفي هذه اللحظة تجدد ألمي.

تحرك الكبد من مكانه، فانطلقت سكاكين حادة تطعن جنبي في غل شديد. صرخت ورميت جسدي على الأرض أتلوى. وغامت الرؤية، فضاعت من عينيّ الجثث المتحللة والعظام والأرضية الناعمة كحناء قديمة فاسدة.

شيء ما راح يندفع من المريء. كان ساخنًا وبه قطع صغيرة مهترئة تتلاحق وسط سائل ثقيل غزير. فتحت فمي، وبصقت فإذا بنافورة دم تنداح فوق جسمي العاري، وتتطاير لتحط على الجثث المرصوصة.

لم يكن هذا غريبًا عليَّ، فطالما حدث معي في الشهور الأخيرة، لكنني ظننت أنه لن يفاجئني هنا كما كان يفاجئني هناك، وتأتي جارتنا الطيبة لتمسحه بخرقة قديمة وهي تنظر إليَّ في حيرة وأسى.

ها قد جاءني ما كنت أحسب أنه قد خاف من قبري، الألم المبرح الملوث بدم متخثر. ربما يكون كبدي قد وصل إلى نهايته، وقرر أن يخرج من تلقاء نفسه، حين شعر أنني أستعد لأخرجه عنوة بهذه العظمة المسنونة.

لم أكن في حاجة إلى أن أمسح ما لطخ جسمي، فربما يتلهى فيه الدود قليلًا قبل أن يبدأ مهمته في نهش جسدي.

قلت لنفسي:

ـ اغتسل بدمك من جديد.

لا أعتقد أنه سائل طاهر يصلح للاغتسال، فالأبالسة التي احتلته جعلته مدنسًا، لكن من يدري أن يكون الألم الرهيب الذي يصاحبه قد طهره كما تتطهر النار الخبث.

ـ "هل جاءت النهاية؟".

سألت نفسي، ووزعتها بين أمل في حياة قصيرة، ويأس لموت سيأتي في وقت أقصر. وبين الأمل الكاذب واليأس المحقق، كنت مقسومًا بين يومي العصيب وغدي الذي لن أراه.

صار دمي بركة صغيرة لزجة، وصار وجعي كبيرًا. رميت جسدي، وألصقت بطني بالأرض، وامتلأ فمي بتراب مخلوط بدمي. مددت يدي، والتقطت عظمة صغيرة، ووضعتها بين أسناني، ورحت أضغط بشدة، حتى تفتت بعضها، وانجرحت شفتي السفلى، وانبثق دم نظيف، وسال فوق العظمة.

ـ "آااااااه".

صرخت من أعماقي، وغاب عني كل شيء، بما في ذلك التفكير الذي سكن رأسي في الساعة الأخيرة بأنني من الممكن أن أنجو، وأرى الأفق الأزرق والزروع والنهر والوجوه التي ألفتها هناك في قريتي التي أعتقد أنها بدأت طريقها إلى نسياني.